الحسن بوقسيميالسبت 27 شتنبر 2025 20:06

كل الشّعوب تنطلق مما هو مسطّر لها دينا سماويا كان أم أرضيا لتطبقه تنزيلا له في واقعهم وسلوكهم فيصير تديّنا، والتديّن يصيب ويخطئ. ولا يصير الدين منزَّلا في واقع معتنقيه مُؤجرَأً عمليا إلا بالتّديّن فهما واستنباطا وسلوكا تطبيقيا.

وعليه فالخُطب والمواعظ من خلال انتقاء العقل لها من نصوص الدين المتعددة تعدّ تديّنا، ذلكم بأنه لا يوجد نص ديني ينص على أّن الخُطبة الفلانية ينبغي تخصيصها لليوم الفلاني أو للمناسبة الفلانية. فالتّحيين العقلي لنصوص الدين رهين بذكاء القائمين عليه؛ تحقيقا للمقاصد النبيلة في حياة الأفراد والمجتمعات، بحسب ما تقتضيه ظروف العيش الخاصة محليا والعامة عالميا. وإعمال العقل في الاستنباط التّديّني من النصوص الدينية هو المحرك لعجلة الاجتهاد والتجديد والإبداع والابتكار، فكما أوحى الله بالنص خلق لفهمه وتنزيله واقعيا العقل، كل منهما يكمّل الآخر نور العقل على نور الوحي كما في قول الله جل في علاه: (نورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور:35].

إن ما اجْتَهَدَت بشأنه أوقافُنا الإسلامية مِن جعل خُطبة الجمعة مُوحَّدة لتُلقى نفس الخُطبة على مسامع المصلين في جميع ربوع مملكتنا المغربية، ساعيةً إلى توحيد أنظار المغاربة بما تراه يستحق الاهتمام من مُختلِف القضايا التي تندرج في أمنهم الروحي، تَفاعَل معه المغاربة في مُختلِف تجمعاتهم عن قُرب وفي تواصلهم عن بُعد، لدرجة خروج بعض الدعاة وبعض الخطباء أنفسهم مستنكرين هذا الاجتهاد، مستدلين بأدلة منها أن توحيد الخُطبة تكميم للأفواه وتوجيه لها حتى لا يصدع الخطيب بالحق، ولا يركز على الهموم والقضايا الآنية لمدينته أو قريته أو جهته التي يخطب فيها، هذا إن استثنينا انتقاد أن من المواطنين من استمع في جمعة لخطبة، استمع إليها مكررة في الجمعة التي تليها بعدما قصد مسجدا جامعا آخر صلى فيه، بحسب ما حكاه من حضر هذه النازلة.

من هنا تَجاذَبَ قضيةَ خُطبة الجمعة منهجان/تعليلان:

الأول يرى توحيد الخطبة لجميع المغاربة، وأرى لهذا المنهج ما يعضده من تطور مناهج مملكتنا المؤسسية، من قبيل توحيد ضوابط وقوانين مصالح الناس في مختلف الوزارات والمؤسسات والمصالح، في تجاوز واضح لكثير من العادات والخصوصيات التي تميز قبيلة عن أخرى وجِهَةً عن غيرها، مثال هذا علاقات الزواج والطلاق؛ فعلاقات الناس في تطور مستمر ينبغي مواكبتها بالحفظ والتطوير والتسديد. وقضية الخُطبة جزء من ضمن أجزاء التدين المتكاملة وليست هي الدين كله، والله تَعَبَّدَنا بالتقريبات في الأمور، كما نص عليه الإمام الشاطبي المالكي في كتابه “الموافقات في أصول الشريعة” حيث الموافقات المتكاملة لا المخالفات المتضاربة. ومن هنا يظهر شيئا جميلا أن تتكامل جهود جميع مكونات مجتمعنا المغربي حتى في توحيد خطبة جُمُعتنا، سعيا وراء إنضاج هذه التجربة واقتراح موضوعات روحية وحضارية تناسب اندماجنا في عالم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ لنشر قيمنا الإنسانية بدل قيم استئساد القوي اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا على باقي المستضعفين والمسحوقين.

الثاني يرى ترك اختيار موضوع الخُطبة للخطيب القريب من خصوصية جهته وعلاقات الناس من حوله فيها، فالمشاكل تتنوع منها المشترك بين جميع الجهات، ومنها الخاص بجهة دون غيرها. وأرى لهذا المنهج ما يعضده من اعتماد مملكتنا المغربية للتكامل الحاصل بين متعدِّد المجالات والروافد، في مستوى لغات المغاربة ولهجاتهم ومقاولات استثمارهم وحتى دياناتهم، وفي مستوى تعدد الكتاب المدرسي في نفس المستوى الدراسي ربطا للمدرسة بمحيطها الاقتصادي؛ إذ يُخصَّص كتابٌ ما لجهة معينة دون أخرى، ولا يناقض تَعدُّد الكتاب المدرسي وحدةَ المتعلّمين المغاربة، وقس على هذا من التكامل الحاصل في قطاعات متعددة تعود على وحدة المغاربة بالقوة لا بالهدم، ما دام الاختلاف اختلاف تنوع وتخصص لا اختلاف تناقض وتضاد.

وعليه وبما أن تجربة توحيد الخُطبة في بدايتها، أليس من الحكمة فسح المجال للخطيب بتأليف ما يراه مناسبا لجهته في خطبة الجمعة الثانية مثلا، بعدما يكون قد قرأ في الخطبة الأولى ما اقترحته أوقافنا المغربية ؟ لنجمع بين الخيرين وتدرّجاً لتوحيد الخطبة بعد تبيّن اكتمال شروطها على الأقل في ضمائر جميع الناس وقناعاتهم؟

وللتذكير فقط كنت كتبت مقالا إلكترونيا بعنوان: “استنبات العنف الديني في خطبة الجمعة” في يناير 2017، حذّرتُ فيه من مستوى خطيب جمعة كان وبالا على الخطبة بجهله لأحكام الإسلام العادية، بل كان يقلب بعض الأحكام رأسا على عقب.

جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

المصدر: هسبريس

شاركها.