تناسل حالات الانتحار بالمغرب.. مثلث برمودا الذي يزحف على أرواح المغاربة
أعادت واقعة إنهاء تلميذة بمدينة آسفي لحياتها بطريقة مأساوية بعد ضبطها في حالة غش خلال امتحانات الباكالوريا، ظاهرة الانتحار إلى واجهة النقاش العمومي بالمغرب مجددا، وسط تباين للآراء والتحليلات حول أسباب تزايد وتيرة الظاهرة وسبل تطويقها.
وفي الوقت الذي يرى فيه متتبعون أن حالات الانتحار بالمغرب تبقى محدودة مقارنة بدول أخرى، خاصة الأوروبية، إلا أن وصول الظاهرة إلى شريحة اجتماعية كالتلاميذ والأمهات، جعل سوسيولوجيين يدقون ناقوس الخطر ويشددون على ضرورة تحرك الدولة والمجتمع بشكل جدي وحازم.
وشهدت عدة مدن وأقاليم بالمملكة، حالات انتحار مفجعة، منذ بداية السنة الجارية، نسبة الأسد منها بجهة طنجة تطوان الحسيمة، حسب ما تتبعته جريدة “العمق”، ضمنها حالات انتحار لأمهات وآباء تركوا خلفهم أبناءً صغارا، فيما وصلت الظاهرة إلى مناطق لم تعتد على تلك المشاهد، خاصة بجهة درعة تافيلالت.
ففي جهة الشمال، على سبيل المثال، أرخت ظاهرة الانتحار بظلالها على مدن تطوان وطنجة، خلال الشهر الجاري، بعد تسجيل 5 حالات انتحار، 4 منها في ظرف 3 أيام فقط، ضمنها حالة تلميذة بتطوان أنهت حياتها لسبب مرتبط بنقطتها الدراسية، في منطقة أصبحت تسجل أرقاما مرعبة في حالات الانتحار.
ويرى السوسيولوجي الفرنسي “إيميل دوركايم” أن نسبة الانتحار ترتفع كلما انهارت الروابط الاجتماعية، موضحا أنه عندما تكون الجماعة متماسكة يتماسك أفرادها وتتبلور قيم وقواعد السلوك لتنظيم العلاقات بين الأفراد، ومن ثم تقل نسب الانتحار، والعكس صحيح.
لماذا يلجأ الشخص للانتحار؟
يؤكد الدكتور في سوسيولوجيا التربية والباحث بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية بالرباط،، يونس الجزولي، أن عوامل الانتحار متعددة ومتشابكة، أبرزها الأسباب السوسيولوجية، مشيرا إلى أن العنف الأسري يبقى أحد تلك الأسباب الرئيسية.
ويوضح الجزولي أن الصراعات الأسرية المتكررة وعالية التوتر في المجتمع المغربي، تتردد بين أفراد الأسرة وبالأخص الزوج والزوجة، وتؤول غالبا إلى التفكك الأسري، ما ينتج عنها الحرمان العاطفي للطفل أو المراهق، وتتأزم حالته النفسية، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة الذات، فيسعى إلى التخلص منها عند التعرض لأي ضغط خارجي.
وأشار إلى أن “السلطة الأبيسية” التي تمجد الذكورة وتبخس الأنوثة، تجعل سيادة الأعراف الاجتماعية والقبلية متحكمة في النسق الاجتماعي العام، فلا يمنح للفتيات والنساء الحق في إبداء رأيهن للبوح بمشاكلهن ومعاناتهن؛ الأمر الذي ينعكس سلبا في حياتهن، وتتأزم نفسيتهن، فيدب اليأس الذي قد يتغلب على الإرادة في الحياة.
إقرأ أيضا: تاركين وراءهم أبناء وعائلات.. “الانتحار” يحصد 4 أرواح بمدن الشمال خلال 3 أيام
وإلى جانب ذلك، أبرز الباحث السوسيولوجي في تصريح لجريدة “العمق”، إلى أن الوازع الديني يعتبر من أبرز أسباب الظاهرة، مشددا على أن ضعف الوازع الديني، أو بالأحرى عدم الوعي بعواقب الانتحار من وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي تعده من الكبائر، يجعل المنتحر غير آبه بالخطورة الدينية والشرعية للانتحار.
ولفت إلى أن العلاقات العاطفية تحكم، أيضا، طيفا واسعا من حالات الانتحار، معتبرا أن هذا العامل يدخل في دائرة المسكوت عنه، باعتبارها ترتبط بالإخفاقات العاطفية والخيانة الزوجية، فأصحاب الواقعة يسعون إلى اختلاق قصص وحكايات تغلف الخبر تجنبا لنشره بين الأهل والقبيلة، إلى جانب سهولة تعلم الإبحار في الانترنيت، وعرض القنوات التلفزية للمسلسلات التركية والهندية المدبلجة والتي تقدم الانتحار على أنه عمل فدائي يؤشر على صبيب مرتفع من الإعجاب والحب والتضحية للمحبوبة لحبيبها أو العكس.
وحذر الخبير المتخصص في قضايا الانتحار، من أن الظاهرة في تفاقم مستمر بالمغرب، إذ تتجدد أسبابها ودوافعها باستمرار، وتتأثر تحديدا بالظروف الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، والتي ازدادت حدتها خلال فترة الحجر الصحي ولازالت تداعياتها إلى اليوم.
وشدد على أن الانتحار يبقى في النهاية ظاهرة جد معقدة وتمس مختلف الفئات العمرية، أطفالا ونساء وفتيات وشباب وشيوخا، معتبرا أنه من الأجدى دراسة الظاهرة عن طريق دراسات تخصصية دقيقة من خلال اختيار مجتمع الدراسة وعينته لكل فئة على حدة، قصد الوصول إلى تفسيرات علمية لتزايد الحالات بالمغرب، بعيدا عن الانطباعات وأحكام القيمة.
إقرأ أيضا: توالي حالات الانتحار بتاونات يدفع فعاليات مدنية إلى دق ناقوس الخطر
من جانبه، أشار العياشي الفرفار، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ابن زهر أكادير، إلى أن أرقام منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى وجود أكثر من 700 ألف حالة انتحار سنويا في العالم، هي أرقام مقلقة ومخيفة، معتبرا أن الأكثر إخافة هو تزايد الأرقام باستمرار، مما يؤشر لخطورة الظاهرة باعتبارها نزيفا بشريا حقيقيا.
ففي المغرب، يقول الفرفار، ترتفع أعداد الانتحار بشكل ملحوظ، لافتا إلى أن الثقافة المغربية في التعامل مع المنتحر تعد عنصرا آخر يزيد من تعقيد الظاهرة، وذلك من خلال محاولة إخارج المنتحر من الملة وعدم تقديم العزاء لأهله والمناداة بعدم تغسيله ولا تكفينه ولا حتى الصلاة عليه وتشييع جنازته، في عملية تجريد من عالم الإنسانية.
وبحسب المقاربة السوسيولوجية، يؤكد المتحدث، فإن الانتحار ليس فعلا فرديا، بل مسبباته اجتماعية وفق بنية وعلاقات ونظم وبناء اجتماعي تساهم في هذا الانتحار، وإن كان سلوكا فرديا، مشددا على أن المنتحر يحمل أسراره معه، “وهو ما يجعلنا نحاول قراءة المؤشرات أكثر من استنطاق الظاهرة من الداخل، على اعتبار أن قلة من يكتبون رسالة وداع يكشفون فيها الأسباب والدوافع”.
الأنواع الأربعة
يشير “إيميل دوركايم” في دراسة له، أن الانتحار هو نتيجة علاقة بين الفرد والمجتمع، فكلما كانت العلاقة غير منسجمة وغير متوافقة أو فيها اختلال سيحدث الانتحار، حيث ترتبط الظاهرة جوهريا بمبدأي التضامن الاجتماعي والضغط الاجتماعي، حيث حدد دوركايم، بناء على ذلك، 4 أنواع للانتحار، وهي الانتحار الأناني، والانتحار الأنومي، والانتحار الإيثاري، ثم الإنتحار القدري، مشددا على أن كل نوع هو نتيجة علاقة بين الفرد والمجتمع.
في هذا الصدد، يوضح الدكتور العياشي الفرفار، أن الانتحار الأنومي يحدث في ظل غياب اللامعيارية، وذلك حين يفقد المجتمع سلطته الضبطية في فرض القيم والمعايير والضوابط التي تصنع الوعي والانتظام الجمعي، ما يخلق حالة من الفوضى، مشددا على أنه في زمن الفوضى يكثر الانتحار.
ويضيف في حديثه لجريدة “العمق” أن الاضطراب القيمي والأخلاقي والافتقار إلى التوجيه الاجتماعي، وعدم القدرة على تدبير الأزمات وضبط التوترات والطموحات، وفشل بنية المجتمع في تحقيق اندماج الفرد داخله، وفشل سياسات الإندماج والإدماج، وغياب التنمية والتفاعل الإيجابي للفرد داخل محيطه الصغير والكبير، كلها عوامل تجعل المجتمع كتلة باردة بالنسبة للفرد.
إقرأ أيضا: حالات انتحار متكررة تجتاح درعة تافيلالت.. ومحللون يشخصون “الظاهرة الغريبة” عن الجهة
وتبعا ذلك، يقول الفرفار، تصبح المعايير والضوابط والقواعد الاجتماعية لا قيمة لها بالنسبة للفرد، وبالتالي يصبح الفرد متحررا من سلطة المجتمع، إذ في حالة ضعف وتلاشي المعايير وسلطة المجتمع، تنشأ حالة فقدان الفرد لسلطة اتخاذ القرارات السليمة.
وأبرز المتحدث أنه نتيجة التفكك القيمي وغياب الضبط الأخلاقي وانهيار القيم والضوابط الموجهة للسلوك وضعف التنظيم الاجتماعي، تتنامي حالات اليأس والاكتئاب والقنوط والفوضى السلبية والعدمية، وهي أسباب تقود إلى قرار إنهاء الحياة.
ويرى المصدر ذاته أن الانتحار الأناني يرتبط بدوافع ذاتية، حيث يكون حجم الأنانية مرتفعا في مجتمع لا يسمح بالطموحات المتزايدة، موضحا أن هذا الانتحار ينتج بسبب غياب الانسجام والتكامل بين الفرد والمجتمع، نتيجة الأنانية الفردية المفرطة، وضعف فعالية الروابط الاجتماعية والثقافية والدينية بين الأفراد، مقابل تزايد معايير العزلة المجتمعية، محذرا من أن التفرد المفرط والعزلة القاتلة يُنتجان قرار إنهاء الحياة في مجتمع لم تعد تربطهم به أي علاقة.
إقرأ أيضا: طبيب نفساني يضع السلوك الانتحاري والوصم المجتمعي على مشرحة علم النفس
وعلى نقيض الانتحار الأناني، يأتي الانتحار الإثاري نتيجة الخيرية المفرطة، أي تضحية الإنسان بذاته كلما زاد حبه للآخرين، حيث تنتحر الأم تضحية من أجل أولادها على سبيل المثال، وانتحار الزوجة بعد وفاة زوجها، وإقدام جنود على عمليات انتحارية من أجل وطنهم خلال الحروب، فكلما كان الولاء للجماعة كبيرا كلما ارتفع منسوب التضحية من أجل الجماعة، لذلك يعد هذا الانتحار نتيجة الإندماج المقدس وحضور الخيرية المفرطة، وفق المتحدث ذاته.
وفي النوع الرابع والأخير، يأتي الانتحار القدري نتيجة الضغوط الشديدة التي تخنق الفرد ولا تسمح له بالتعبير عن ذاته وإبراز هويته، وبالتالي تقوم بطمسه، فيصل إلى حالة اللاجدوى نتيجة القهر والصرامة الاجتماعية، يقول العياشي الفرفار.
انتحار التلاميذ
لعل الحدث البارز في ظاهرة الانتحار بالمغرب، خلال الآونة الأخيرة، هو وصولها إلى مقاعد الدراسة، في ظل مأساة انتحار إقدام التلميذة صفاء على الانتحار من أعلى كورنيش آسفي جراء طردها أثناء اجتياز الامتحان الوطني للباكالوريا، بعد ضبطها في حالة غش.
ولم يمر سوى يوم واحد على واقعة تلميذة آسفي، حتى اهتز الرأي العام، مجددا، على نبدأ انتحار تلميذة ثانية، هذه المرة بمدينة تطوان، بعدما أقدمت التلميذة لينا التي كانت تدرس بمستوى الجدع المشترك بالثانوي التأهيلي، على إلقاء بنفسها من الطابق الخامس من منزل أسرتها، بسبب مرتبط بنقاطها الدراسية.
في هذا السياق، يعتبر العياشي الفرفار أن ترك تلميذة آسفي لرسالة الانتحار صوتيا، والتي قالت فيها “لن أبقى على قيد الحياة، لقد منعوني من الامتحان”، يكشف ما أحست به التلميذة، وهي البنية الخفية التي أنتجت هذا الفعل المأساوي، حيث أصبح الامتحان يساوي الحياة أو الموت.
واعتبر الباحث في قضايا الانتحار أن التلميذة ولجت الامتحان تحت ضغط اجتماعي شديد، ضغط الأسرة والقهر والصرامة الاجتماعية، وكأن حريتها وإنسانيتها واستمرار حياتها مرتبط بالنجاح، فأصبحت لحظة الامتحان لحظة مفصلية للبقاء في الحياة.
إقرأ أيضا: الحكومة تأسف لانتحار تلميذة بآسفي وتؤكد مرور امتحانات “الباك” في ظروف جيدة
وهنا ينشأ السبب الآخر، يقول المتحدث، فما بين الهدف والوسيلة يكمن السر، فكان الهدف هو الحصول على نقطة، والوسيلة هو القدرة على تقديم إيجابات صحيحة، فربما الإمكانات الدراسية للتلميذة واستعداداتها والمكتسب التعليمي الذي راكمته لم يسعفها لتقديم الإجابة، فقررت تغيير الوسيلة للوصول إلى نفس الهدف، وهو النجاح الذي يعتبر مقدسا اجتماعيا.
وأضاف أن تلميذة آسفي لجأت إلى الغش لتحقيق هذه النتيجة التي حددها المجتمع، فقامت بالتحايل بالبحث عن وسيلة مكرهة تحت الضغط والقهر والاجتماعي، وبعد ضبطها لم تبقى لها أي وسيلة للرجوع إلى المجتمع، لأن الأخير أقفل الباب أمامها، فهو لا يتسامح ويحدد الوجود في النجاح والنقطة والشهادة.
بناءً على ذلك، يحدد الفرفار هذا الحادثة ضمن الانتحار القدري، “أي أنها دُفعت للانتحار بسبب بنية اجتماعية قهرية مغلقة وضعت سقفا متعاليا، وحددت للتلميذة هدفا مقدسا ولم تساعدها أو تمنحها أدوات واستراتيجيات ومنهجيات النجاح أو تغيير الهدف، ضمن متناقضات صارخة في المجتمع المغربي”.
إقرأ أيضا: بعد آسفي.. تلميذة أخرى تنهي حياتها من الطابق الخامس لمنزلها بتطوان
في نفس الإطار، يعتبر الباحث يونس الجزولي، في العموم، أن انتحار التلاميذ خلال الامتحانات المدرسية أو بسبب النتائج الدراسية، يبقى معزولا ولا تصل إلى مستوى الظاهرة المقلقة، لكنه يرى الأمر مؤشرا على بروز نمط جديد لانتحار التلاميذ المراهقين في فترة ضغط الامتحانات الإشهادية، مشيرا إلى أنه يمكن في ظل غياب دراسات علمية دقيقة أن نعزي بروز حالات الانتحار على هذه الشاكلة لتعرضها لعنف مزدوج؛ أسري ومدرسي.
فعلى مستوى العنف الأسري، أفاد المتحدث بأنه راجع لاعتبار الأسر نيل شهادة الباكالوريا مسألة حياة أو موت، فيتم تجنيد الأبناء لهذه المعركة بشتى الوسائل للحصول على نقطة جيدة،على الأقل لضمان النجاح، والتلويح بالعقاب أو الحرمان من السفر خلال العطلة المدرسية ولو على حساب نفسيتهم الهشة.
هذا الأمر، بحسب الخبير في قضايا الانتحار، يجعل التلميذ يخاف من الإخفاق الدراسي وعدم الاستجابة للانتظارات العائلية، مما يؤول به إلى اليأس والإحباط والاكتئاب، وبالتالي ينتظر أنصاف الفرص للانتقام من ذاته ومحيطه، وهذا ما نتصور وقوعه في حالتي آسفي وتطوان، وفق تعبيره.
بالمقابل، يتجلى العنف المدرسي في صيغة نظام التقويم التربوي القائم على المبالغة في تقويم المعارف بدل المهارات وترسيخ القيم، وإعطاء نسبة عددية أكبر للامتحانات الإشهادية بدل المراقبة المستمرة التي تقيم مردود التلميذ بشكل مستمر وتمنحه فرصا للاستدراك، يقول الجزولي.
واعتبر أن المؤسسة التعليمية تركز فقط على الدعم المعرفي وتخصص له حيزا زمنيا هاما وتنسى أو تتناسى الدعم النفسي والاجتماعي الذي يحتاجه بشدة التلميذ المراهق على وجه الخصوص، مضيفا: “هنا نتساءل عن أدوار وتدخلات خلايا الإنصات والوساطة وأطر الدعم النفسي والاجتماعي التابعين للوزارة الوصية للمواكبة النفسية للتلاميذ المراهقين”.
الباحث الذي سبق أن أعد دراسة حول ظاهرة الانتحار بشفشاون، أشار إلى ملاحظة ملفتة في حالتي تلميذتي آسفي وتطوان، وهي أن أداة الانتحار المستعملة كانت عبر الإلقاء بالنفس من علو شاهق على النمط الغربي، عوض الأداة المستخدمة عند أغلب المنتحرين بالمغرب وهي الشنق.
هل من سُبل لتطويق الظاهرة؟
يرى يونس الجزولي أن هناك 4 مداخل أساسية لمواجهة الظاهرة ومحاولة تطويقها والتحكم في أسبابها، وذلك عبر البحث العلمي الجامعي الميداني، والتأطير الديني، وتعزيز البنية الصحية، ثم دور المؤسسة التعليمية.
وشدد على أهمية انفتاح الجامعة على محيطها، وانفتاح الجماعات الترابية على المختصين في السوسيولوجيا والسيكوولوجيا من أساتذة وطلبة باحثين بالجامعات للتصدي للظاهرة في حيزها الزماني، عوض دراسة الظاهرة من الخارج اعتمادا على تقارير إدارية تقدم أرقاما جوفاء تفتقر إلى الروح العلمية في التعاطي مع الظاهرة، معتبرا أن هذا المدخل له فاعلية كبيرة للتشخيص والاستشراف.
وأوضح أن توظيف المكانة الاعتبارية للمجالس العلمية وقوة تأثيرها في أفراد مجتمعها، سيساهم في التصدي للظاهرة من خلال أدوار جديدة تتجاوز أدوارها التقليدية في التنشئة الدينية والإرشاد المناسباتي، داعيا إلى التفكير في برنامج متكامل ومستمر في الزمان لرصد الظاهرة وإيجاد حلول لها، خصوصا في البوادي، بتكوين المرشدات والواعظات في كيفية محاصرة الظاهرة دينيا واجتماعيا أيضا، والانفتاح والتعاون مع متخصصين من مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية.
إقرأ أيضا: أخصائي نفسي: التلاميذ يعيشون ضغطا طوال السنة وخطاب التهويل وراء تفكيرهم في الانتحار
وفيما يخص الجانب الصحي، دعا الباحث ذاته إلى تعزيز البنية الصحية في المستوصفات بقسم خاص بالأمراض النفسية، إلى جانب الأمراض العضوية من أجل محاصرة الظاهرة، والتكفل الطبي والنفسي بالحالات المرشحة للانتحار قبل تطورها إلى أمراض نفسية مستعصية.
وبالنسبة لدور المؤسسة التعليمية وأسلوب الوقاية الخاص بها من ظاهرة الانتحار، أشار إلى ضرورة تخفيف العبء الدراسي على التلاميذ والضغط النفسي الذي يتعرضون له، وتفعيل خلايا الإنصات والوساطة بالمدارس على الصعيد الوطني.
في هذا السياق، يرى العياشي الفرفار أنه لا توجد وصفات نهائية لحل الظاهرة، لكن يمكن معالجة الأسباب للتحكم في النتائج، معتبرا أن مفتاح الفهم والتدبير هو الإدماج الاجتماعي ضمن علاقة إيجابية بين الفرد والمجتمع، قوامها الإنصات والتواصل والانفتاح والتضامن والاعتراف الإدماج، محذرا من أن كل إقصاء وتهميش وغيرية مقدسة وأنانيات متطرفة تقود حتما للإنحراف المعياري، وبالتالي إلى سلوك خارج المجتمع وخارج الحياة.
محيط المنتحرين
في العادة، يلحق محيط المنتحرين وصما مجتمعيا وأحكاما جاهزة تزيد من النظرة الدونية والتحقيرية للمنتحر، إذ يعتبر الفرفار أن الثقافة المغربية في التعامل مع المنتحر هي عنصر آخر يزيد من تعقيد الظاهرة، من خلال محاولة إخراجه من الملة وأنه لا يجب تقديم العزاء لأهله ولا تغسيله ولا تكفينه ولا حتى تشييع جنازته والصلاة عليه، بمعنى إخراجه وتجريده من عالم الإنسانية وهو معطى في غاية الخطورة، حسب قوله.
يقول الباحث في هذا الصدد: “هذه لحظة قاسية، وإن كان المجتمع الذي أنتج هذه النظرة القاسية هو الذي دفع المنتحر لاتخاذ قرار الانتحار، وتغيير هذه النظرة السلبية رهين بإشاعة الفكر العقلاني والعلمي والانتفاح على العلوم التي تكشف ولا تحاكم، وتقوية الخطاب العلمي والإنصات إلى الخبراء وعلماء الاجتماع والنفس والفقهاء المتنورين الذين يقدمون قراءات راشدة ودقيقة للواقعة بدل إدانتها، والإبتعاد عن خطابات الإدانة والرأي إلى خطابات الفهم التحليل”.
إقرأ أيضا: عيساوي تعدد رأي الأديان في “الانتحار حرقا” وتعتبرها ظاهرة مؤلمة تفتك بالمجتمعات
كما أن للانتحار تداعيات مباشرة على عائلة المنتحر، حيث يشير الباحث يونس الجزولي إلى أن هناك مشاعر مؤلمة وأزمة صادمة تصيب العائلة والأقارب يصعب جدا التعامل والتأقلم معها، ومن الصعب أن يصدق الفرد أن حالة الانتحار قد حدثت بالفعل، فالانتحار أمر يصعب على أسرة المنتحر تقبله، لذلك يُعد كارثة حقيقية تستغرق الكثير من الوقت والجهد لتجازوها، مقارنة مع القتل أو الموت الطبيعي أو الحوادث العرضية.
ويبرز الجزولي أن الانتحار يظل وصمة عار على جبين أفراد العائلة، كما يجلب لهم الشعور بالخزي والغضب الشديد، ولا يستطيعون تحمل الحزن الشديد الذي ينتابهم، ولا تحمل فكرة تغير الحياة من حوله بشكل لا رجعة فيه، ورغم التعاطف الذي قد يبديه البعض مع عائلة المنتحر، إلا أن التنمر في الخفاء هو سيد الموقف، رافضين تصرفه وفعلته الشنيعة تلك بوصفهم له أنه ضعيف في إيمانه.
والأخطر في كل هذا، حسب ذات المتحدث، هو إمكانية تقمص تجربة الانتحار من قبل بعض أفراد عائلة المنتحر أو جيرانه، خصوصا الأطفال منهم والمراهقين، فكما يعتبر المنتحر ضحية، يعد بطلا في نظرهم خصوصا إذا رافق تشييع جثمانه حضور إعلامي، مشددا هنا على دور الإعلام الهادف في توعية المتنمرين أن الوصم المجتمعي الذي يصيب عائلات المنتحرين يؤثر سلبا في نفسيتهم، لذلك عليهم تجنب هذه السلوكات المشينة التي يلاحق أثرها أفراد أسرة المنتحر.
المصدر: العمق المغربي