كشفت المندوبية السامية للتخطيط في تقرير جديد عن ملامح عقد كامل من التحولات الاجتماعية التي لم تنه بعد ظاهرة العنف ضد النساء، وإن قلصت من حدتها، فالعنف ما زال، كما يصفه التقرير، ظاهرة بنيوية تمس مختلف الفضاءات، رغم التراجع النسبي المسجل خلال السنوات الأخيرة.
فبحسب تقرير المندوبية المعنون بـ”المرأة المغربية في أرقام”، والمبني على نتائج البحث الوطني حول العنف ضد النساء لسنة 2019، انخفض معدل انتشار العنف بين النساء البالغات (ما بين 18 و64 سنة) من 62.8% سنة 2009 إلى 56.5% سنة 2019، وهو تراجع طفيف لا يتجاوز 6 نقاط، لكنه يعكس في العمق استمرارية الظاهرة وتحولها إلى مكون ثابت في البنية الاجتماعية، مقاوم لكل محاولات الإصلاح القانوني والتوعوي.
ورغم التقدم التشريعي الذي توجه صدور القانون 103.13 لمحاربة العنف ضد النساء، ما تزال أكثر من نصف المغربيات يتعرضن لشكل من أشكال العنف، سواء داخل البيت أو في الفضاءات العامة أو المهنية، ما يجعل القضية أعمق من أن تختزل في المقاربة الزجرية وحدها.
العنف المنزلي.. بيت بلا أمان
تؤكد معطيات التقرير أن المنزل ما زال أخطر فضاء بالنسبة للنساء، ففي سنة 2009 بلغت نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف الأسري أو الزوجي 51%، لترتفع سنة 2019 إلى 52.1%، وهي زيادة طفيفة تكشف استقرار الظاهرة في محيطها التقليدي رغم كل الجهود.
ويبرز التفاوت بين المجالات بوضوح، ففي المدن انخفضت النسبة من 52.2% إلى 51.4%، بينما ارتفعت في القرى من 49.2% إلى 53.3%، وتفسر جمعيات نسائية هذا الفارق باستمرار الذهنية المحافظة في الوسط القروي التي ما تزال تعتبر العنف أداة لتأديب الزوجة أو فرض السلطة الأسرية.
وتشير هذه الجمعيات إلى أن أغلب حالات العنف المنزلي ما زالت تواجه بالصمت أو التطبيع الاجتماعي، خصوصا في القرى حيث الوعي بالحقوق ضعيف، والدعم النفسي والقانوني محدود، ما يجعل العنف الأسري يُعاد إنتاجه داخل الأجيال.
العنف في التعليم والتكوين.. مفارقة المدن والقرى
شهد فضاء التعليم والتكوين تحسنا على المستوى الوطني، إذ تراجع معدل العنف من 24.2% سنة 2009 إلى 18.9% سنة 2019، لكن وراء هذا التراجع العام، تكمن مفارقة لافتة، ففي المدن انخفضت النسبة من 25.3% إلى 17.9%، بينما ارتفعت في القرى من 14% إلى 26.2%.
ويطرح الارتفاع الحاد في الوسط القروي أكثر من سؤال حول بيئة المؤسسات التعليمية هناك، حيث يغيب التأطير التربوي الكافي، وتضعف حملات التوعية والمواكبة، وتُظهر المعطيات أن العنف النفسي واللفظي هو الأكثر انتشارا، إلى جانب التحرش، ما يجعل المدرسة في بعض المناطق فضاء مهددا بدل أن تكون بيئة للحماية والتنشئة السليمة.
العنف في العمل.. انحسار نسبي وهشاشة مستمرة
يُظهر التقرير أن النساء العاملات ما زلن يواجهن أشكالا متعددة من العنف في فضاء العمل، وإن بنسبة أقل من الماضي، حيث انخفضت النسبة الإجمالية من 16% سنة 2009 إلى 15.5% سنة 2019، لكن هذا التحسن العام يخفي مفارقات دقيقة، إذ شهد
الوسط الحضري تراجعا من 22.7% إلى 18.2%، فيما ارتفعت في القرى من 6.4% إلى 8.7%.
ويشير التقرير إلى أن العاملات في القطاعات غير المهيكلة والموسمية هن الأكثر عرضة للتحرش والاستغلال والحرمان من الحقوق الأساسية.
العنف في الفضاء العمومي.. تراجع الأرقام وتردد الأمان
تُظهر المعطيات أن الفضاء العمومي الذي يشمل الشارع، وسائل النقل، والمرافق العامة شهد تراجعا كبيرا في نسب العنف، إذ انخفض المعدل من 32.9% سنة 2009 إلى 12.6% سنة 2019، أي بانخفاض يقارب 20 نقطة.
ورغم أن هذه المؤشرات توحي بتحسن ملموس في الإحساس بالأمان، إلا أن تقارير حقوقية تنبه إلى أن العنف اللفظي والتحرش الجنسي ما زالا الأكثر انتشارا، وأن الكثير من النساء لا يبلغن عن هذه الأفعال خوفا من الوصم أو من غياب المتابعة الجدية، وهو ما يشير إلى أن هذا التراجع كمي أكثر منه نوعي، إذ لا يعكس بالضرورة تحسنا عميقا في الواقع اليومي للنساء.
العنف الاقتصادي.. الصعود الصامت
على خلاف باقي الأشكال، شهد العنف الاقتصادي ارتفاعا واضحا خلال العقد الأخير فقد قفزت نسبته من 8.2% سنة 2009 إلى 15.1% سنة 2019، أي ما يقارب الضعف، حيث سجل الوسط الحضري ارتفاعا من 6.3% إلى 15.1%، وفي القرى من 12.7% إلى 15.1%.
ويشمل هذا النوع من العنف حرمان المرأة من النفقة أو من التحكم في موارد الأسرة أو من اتخاذ القرار المالي، وغالبا ما يرتبط هذا العنف بالتبعية الاقتصادية التي تجعل كثيرات عاجزات عن مغادرة بيئة العنف أو التبليغ عنه، وتعتبر حقوقيات هذا الشكل من العنف الأكثر نموا وخطورة، لأنه يُعيد إنتاج اللامساواة في بعدها الاقتصادي والاجتماعي.
وتكشف أرقام المندوبية السامية للتخطيط أن الانخفاض الكمي في مؤشرات العنف لا يعني تراجع الظاهرة اجتماعيا، فما تزال أكثر من نصف النساء المغربيات (56.5%) يتعرضن لشكل من أشكال العنف، أغلبه داخل فضاء الأسرة.
ويرى التقرير أن هذا الواقع يعكس تحول أنماط العنف وتبدل فضاءاته، إذ أن المرأة اليوم أقل عرضة للعنف في الشارع، لكنها أكثر هشاشة داخل البيت وفي محيط العمل.
وتشير المندوبية إلى أن التحولات القانونية والمؤسساتية وحدها غير كافية، ما لم ترافقها ثورة ثقافية في الوعي الجمعي، وإدماج فعلي لمقاربة النوع في التعليم والإعلام وسوق الشغل، فالمجتمع المغربي، كما تلخصه الأرقام، نجح في تجريم العنف، لكنه لم ينجح بعد في رفضه.
المصدر: العمق المغربي