في تحوّل لافت في العقيدة العسكرية، شرع الجيش الأمريكي في تعديل تجهيزاته وتكتيكاته تحضيرًا لاحتمال نشوب صراع مع الصين في منطقة المحيط الهادئ، بحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”. التمرينات العسكرية الأخيرة في جزر هاواي كشفت عن توجه جديد يقوم على استخدام طائرات مسيّرة رخيصة، معدات خفيفة، ومهارات إلكترونية متقدمة، في مشهد يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الحرب المقبلة لن تُشبه حروب العراق أو أفغانستان.
خلال تدريبات نُفذت في نوفمبر الماضي، استخدمت وحدات أمريكية أكثر من 600 طائرة مسيّرة مختلفة، بينها نماذج مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، ومسيّرات انتحارية تعمل بنظام “الضربة عند الإشارة”. كما جُهز الجنود بأدوات تشويش محمولة وأسلحة خفيفة مزودة بأنظمة تتبع ذكية لاستهداف المسيّرات. بعض هذه التقنيات مستوحى من مشاهدات ميدانية في أوكرانيا، حيث أدت الطائرات الانتحارية الرخيصة وأنظمة الحرب الإلكترونية دورًا حاسمًا في المعارك.
التحول المفاهيمي في سلوك الجيش الأمريكي يرتبط بتغير طبيعة الجبهة المفترضة. فالصين، التي تمتلك واحدًا من أضخم الترسانات الصاروخية عالميًا، قادرة على استهداف أي تحرك عسكري أمريكي في سلسلة الجزر الممتدة من اليابان إلى الفلبين، وهي المنطقة التي تعرف باسم “السلسلة الأولى”. أي إنزال أمريكي هناك سيكون عرضة لضربات دقيقة، ما يحتم اعتماد أساليب جديدة لتجنب الانكشاف، وتأمين الإمدادات، وإخفاء التحركات.
في هذا السياق، لجأ الجيش إلى تطوير معدات صغيرة وسريعة الانتشار، مثل مدافع Himars المتحركة، وقوارب خفيفة لنقل العتاد مباشرة إلى الشواطئ، ومركبات شديدة المناورة توصف بأنها “ثورة تكتيكية” تفوق تأثير الرؤية الليلية في العقود الماضية. كما أصبح الجنود يتدربون على العمل تحت تهديدات الطيف الكهرومغناطيسي، حيث يمكن اكتشاف أي إشارة إلكترونية وتحويلها إلى هدف ميداني.
من بين الأدوات الجديدة التي جُرّبت في هاواي، جهاز مزدوج بحجم الهاتف الذكي يُسمى “Wingman” و”Pitbull”، يُستخدم لاكتشاف المسيّرات وتعطيلها من خلال إرسال إشارات تشويش مركزة. هذه الوسائل، رغم فعاليتها، تكشف موقع مستخدمها على الفور، ما يضيف خطرًا جديدًا للجنود في الميدان.
قيادات الجيش تصف هذا التحول بأنه “ثورة في الاتصال”، حيث لم يعد الاشتباك يبدأ برؤية العدو، بل بتحديد إشاراته الإلكترونية أو مسيّراته المتقدمة. في هذه الحرب، يصبح مشغّلو المسيّرات أنفسهم أهدافًا مشروعة، ويجري تعقبهم بناء على الإشارات التي تصدرها أجهزتهم، قبل استدعاء القصف الجوي أو المدفعي.
التدريبات التي شملت أكثر من 8000 جندي من الولايات المتحدة وحلفاء مثل تايوان وفرنسا وماليزيا، سعت إلى اختبار هذه التقنيات على نطاق واسع. ولأول مرة، حصل الفريقان المتواجهان القوات الأمريكية والوحدات التي تؤدي دور العدو على نفس المعدات الحديثة، بهدف دراسة فعالية الاستخدام وسرعة التكيف، تمهيدًا لتحديد العقيدة القتالية المستقبلية.
الخطوة المقبلة ستتمثل في إرسال إحدى الفرق إلى الفلبين لتجربة هذه المعدات في بيئة مناخية مشابهة للساحل الآسيوي، حيث الرطوبة المرتفعة والحرارة الشديدة قد تؤثر على أداء المعدات. القادة العسكريون يطمحون إلى “تسريع الدروس المستخلصة”، عبر مقارنة النتائج بين تدريبات هاواي والميدان الحقيقي المحتمل.
غير أن التحول التقني يفرض تحديات تتجاوز الميدان. الولايات المتحدة تحاول تقليص الوقت اللازم لاعتماد الأنظمة الجديدة، بعدما أدركت أن بعض المعدات تصبح متقادمة خلال أشهر. هناك محاولة لإعطاء القادة حرية أكبر في اختيار التجهيزات، عبر آلية توصف بأنها “تشبه التسوق عبر أمازون”، بحسب أحد الضباط المشاركين.
لكن المشكلة الأكبر تكمن في الإنتاج. روسيا وأوكرانيا تصنعان ملايين المسيّرات سنويًا، والصين تتفوق عليهما مجتمعتين. وفيما تراكم الولايات المتحدة نماذج أولية متقدمة، يخشى بعض الخبراء أن ينقصها “عمق الذخيرة”، أي القدرة على تصنيع هذه الأنظمة على نطاق واسع في حال اندلاع نزاع مفتوح.
الجيش بدأ بالفعل في تفكيك أنظمة قديمة مثل طائرات RQ7 Shadow التي كانت تُستخدم في العراق وأفغانستان، لصالح نماذج صغيرة لا تحتاج إلى مدرجات، لكن بعضها لا يزال هشًا أمام الهجمات الإلكترونية. لهذا السبب، بدأت وحدات متخصصة تُسمى “فرق الاستطلاع متعددة الوظائف”، تضم طيارين إلكترونيين ومشغّلي مسيّرات وعناصر استطلاع بشري، تعمل معًا في انسجام تام.
في هذا السياق، يرى مراقبون أنه لم تعد الحرب الإلكترونية وظيفة خلفية، بل صارت جزءًا من الاشتباك المباشر. الجنود المتخصصون في الرصد الإلكتروني يخوضون تدريبات ميدانية شاقة، بما في ذلك الانضمام إلى مدرسة الجيش في الغابات. “كنا نُعرف بـ’العباقرة’، والآن نحن في الخطوط الأمامية”، يقول أحد الضباط الشباب.
التحول الكامل في العقيدة القتالية للجيش الأمريكي يُظهر إدراكًا بأن الحرب المقبلة، إن اندلعت، ستكون مختلفة في كل شيء: في الجغرافيا، في الأدوات، وفي قواعد الاشتباك. الصراع مع قوة كالصين لن يُحسم بالمعدات الأغلى، بل بالقدرة على التكيف السريع، والتخفي الإلكتروني، والمناورة الذكية.
المصدر: هسبريس
