في سياق الجدل الذي أثارته تصريحات برلمانية وُصفت إعلاميا بـ”طحين الورق”، تضمنت اتهامات مبطّنة بشأن تدبير قطاع الحبوب من دون تقديم أدلة واضحة، عاد إلى الواجهة النقاش حول حدود الحصانة البرلمانية وما إذا كانت تتيح استخدام المؤسسة التشريعية كمنبر لتوجيه اتهامات قد تكتسي طابعا انتخابيا. وتعيد هذه الواقعة طرح أسئلة قانونية دقيقة: ما الحدّ الفاصل بين التعبير السياسي المكفول دستوريا والمسؤولية الجنائية التي قد تترتب عن تصريحات تمس بمؤسسات أو أشخاص بدون قرائن؟ وهل تظل الحصانة البرلمانية حماية مطلقة أم إن لها سقفا حين يتعلّق الأمر بالتأثير على الرأي العام خارج ضوابط القانون؟

ويرى خبراء تحدثت إليهم جريدة هسبريس الإلكترونية أن مهمة التحليل القانوني في مثل هذه الحالات لا تقتصر على توصيف مضمون التصريحات المثيرة للجدل، بل تمتد إلى فحص سياقها وأثرها المحتمل على السير العادي للانتخابات أو النقاش العمومي. ويؤكد هؤلاء أن بعض التصريحات، إذا ثبت أنها استُعملت لتوجيه اتهامات بدون سند قانوني، أو للتأثير على الرأي العام خلال فترة انتخابية، قد تترتب عليها مسؤوليات جنائية أو تأديبية، سواء تعلق الأمر بالقذف أو بنشر معطيات غير صحيحة. ويشدد المتخصصون في القانون الدستوري على أن الخط الفاصل بين الرأي السياسي المشروع والمخالفات القانونية يبقى دقيقا، مما يستدعي الاحتكام إلى معايير دقيقة تتولاها المؤسسات المختصة، كل في نطاق اختصاصها.

حصانة محصورة

كمال الهشومي، أستاذ باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، قال إن التصريحات التي صدرت مؤخرا عن أحد النواب البرلمانيين بشأن “مطاحن تطحن الورق وتقدمه كدقيق للمغاربة” أثارت نقاشا قانونيا ودستوريا حول حدود حرية التعبير البرلماني ومسؤوليتها.

وأضاف الهشومي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الفصل 64 من الدستور يمنح أعضاء البرلمان حصانة من المتابعة القضائية بسبب الآراء التي يبدونها أثناء مزاولتهم لمهامهم، غير أن هذه الحصانة محصورة داخل الجلسات الرسمية ولا تمتد إلى ما يُقال خارجها أو في سياقات دعائية. في هذه الحالة، وبما أن التصريح صدر داخل جلسة عمومية، فإنه يخضع للحصانة الموضوعية، ولا يمكن للنيابة العامة متابعة صاحبه مباشرة، لكنها تستطيع فتح تحقيق في مضمون الوقائع التي تضمنها التصريح للتحقق من صحتها، خصوصا لما لها من علاقة بالأمن الغذائي والصحة العامة.

أما إذا صدرت مثل هذه التصريحات خارج المؤسسة التشريعية، فإنها تخضع لقانون الصحافة والنشر رقم 88.13 الذي تُجرّم المادة الـ72 منه نشر أو إذاعة أخبار زائفة أو وقائع غير صحيحة من شأنها الإخلال بالنظام العام أو إثارة الفزع بين الناس، وتعاقب عليها بغرامة مالية من 20 ألف درهم إلى 200 ألف درهم. كما يمكن، في بعض الحالات تكييفها ضمن السب أو القذف وفق الفصول من 442 إلى 447 من مجموعة القانون الجنائي.

على المستوى الداخلي، يتيح النظام الداخلي لمجلس النواب، من خلال المواد من 392 إلى 400، مساءلة العضو تأديبيا داخل المؤسسة عبر لجنة الأخلاقيات، التي يمكنها اقتراح عقوبات كالتنبيه أو الإنذار أو الإبعاد المؤقت.

وأكد المتحدث ذاته أن حرية التعبير البرلماني مضمونة، لكنّها مقرونة بالمسؤولية والانضباط. فالكلمة التي تُلقى تحت القبة تظل مسؤولية دستورية، لأن ثقة المواطنين في مؤسساتهم تبدأ من صدق ممثليهم ودقة ما يقولون، لا من إثارة الشك والارتباك في الطمأنينة العامة.

الرقابة والمساءلة

عبد المجيد بوكير، رئيس شعبة القانون والاقتصاد بالكلية متعددة التخصصات بتازة التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله، قال إن المسؤولية الجنائية للبرلمانيين عن تصريحاتهم داخل غرفة البرلمان تظل قائمة، رغم ضمان الدستور حرية التعبير، إذا ما مسّت بالأمن العام أو ألحقت ضررا بالمواطن.

وأضاف بوكير، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الفصل 64 من الدستور ينظم حرية التعبير للبرلمانيين داخل غرفة البرلمان، لكنه أكد أن هذه الحرية ليست مطلقة، حيث تظل هناك مسؤولية جنائية ثابتة في حالة وجود تصريحات تمس بالأمن العام أو تسيء إلى المواطن، مما يستدعي تفعيل آليات الرقابة والمساءلة لضمان عدم الإخلال بالنظام العام أو المساس بحقوق الأفراد.

وحول الآليات القانونية للتعامل مع هذه التصريحات، أوضح الخبير القانوني أن هناك هيئات مستقلة عن القضاء يمكنها التدخل، مثل الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها، التي يعطيها القانون الداخلي صلاحية رفع ملفات تتعلق بهذه التصريحات إلى القضاء أو إحالتها على المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وذلك في إطار تعزيز الشفافية والمساءلة في العمل البرلماني.

وفيما يتعلق بالتعامل مع هذه التصريحات في الفترة التي تسبق الانتخابات التشريعية، قال بوكير إن الدولة هي التي تختار كيفية التعامل معها، فإذا قررت التعامل معها بحزم وصرامة، فهناك مجموعة من المداخيل القانونية التي تتيح لها ذلك، مثل قانون الصحافة والنشر، وقانون العقوبات، وذلك لضمان عدم التأثير على نزاهة العملية الانتخابية.

وأكد المتحدث لهسبريس أن الدستور الجديد يكفل للنيابة العامة والسلطات المختصة التحقيق مع البرلمانيين بدون الحاجة لأخذ إذن من البرلمان، مما يعزز مبدأ المساواة أمام القانون ويضمن خضوع الجميع للعدالة.

وأشار بوكير أيضا إلى دور لجنة الأخلاقيات داخل مجلس النواب، التي تُمنح بموجب قوانينها الداخلية الحق في التأديب وفرض العقوبات على البرلمانيين المخالفين، مؤكدا أن هذه اللجنة تلعب دورا هاما في الحفاظ على نزاهة العمل البرلماني وتعزيز ثقة المواطنين في مؤسساتهم.

المصدر: هسبريس

شاركها.