هلْ يمكن للسّياسة أن تتحوّل إلى ساحةٍ لتجسيد الأنا الأَعْلَى؟ وكيف تُترجَم الرغبات الشخصية لقادة العَالم إلى سياسَات فعْلية تُؤثر في مَصائر الشّعوب والدول؟ إلى أي مدى يمكن أن تكون الاستراتيجيات الدولية، النزاعات، والتحالفات مجرد انعكاسات لرغبات فردية تتلبَّس دولةً بأكملها؟ هل يمكن لأنا فردية أن تهزّ العالم بأسره؟ وإذا كانت الأنا الأَعْلَى هي محرك الرغبة الفردية، فهل يتحوّل هذا المحرك إلى سلاح، أمْ إلى وهْم يختبئُ وراء أقْنعة الدولة والقانون؟ كيف يُمكن للخيال الشّخصي أن يشق طريقه بين الخرائط، الجيوش، والتحالفات، ليصبح واقعًا ملموسًا؟ وما هي حُدود القدرة على “ترجمة” الأوهام الفردية إلى أفعال جماعية، وإلى إرادة تمتد عبر الشعوب والأقاليم؟ لا تهتمّ هذه الأسئلة بالبحث في خبايا النفس الفردية للزعيم، بيد أنها تكتفي فقط بتأمل العلائق المعقدة بين الرغبة، والسطوة، والتاريخ، لتكشف لنا كيف تُحوَّل أحلام الأنا الأَعْلَى إلى لعبة كبرى على خشبة العالم، حين تتقاطع العظمة بالهوس، والخيال بالقسوة، والسلطة بالرغبة.
وَجْهان لِزمَنٍ واحدٍ
وجدت نفسي قبل أيامٍ مشدودًا إلى شاشة قناة إخبارية دولية جمعت في حوار واحد محللًا سياسيًا يتقن لغة المصالح، وخبيرًا عسكريًا يتحدث ببرودة الأرقام والخرائط، وفيلسوفًا يزن الكلمات بميزان المعنى، وعالمة اقتصاد تفكك الأزمات بمنطق السوق. كان السجال حادًا كأن كل طرف يحمل سلاحه الخاص: السياسة بدهائها، والعسكر بخططه، والفلسفة بأسئلتها، والاقتصاد بأرقامه الجافة. من بين هذا الصخب من الأفكار والمطارحات الساخنة، تشكلت لدي خلاصات لم تكن مجرد قراءة لحرب أوكرانيا، وإنما رؤية متشابكة لآليات القوة، والذاكرة التاريخية، ومفارقات المصالح العالمية.
في المشهد الأوكراني المشتعل، يطل بوتين وترامب وجهين متباينين لزمن واحد؛ يستحضر الأول ذاكرة “إمبراطورية متصدعة”، ويتعامل الثاني مع المأساة كأنها “مسرح تجاري” تُقاس فيه الخسائر والأرباح على مقياس الحملات الانتخابية. هكذا، تتحوّلُ الحربُ في ضوء هذا المشهد إلى مرآة مُزدوجة: يستدعي بوتين من خلالها التاريخ ليبرر سلطته، ويوظفها ترامب ليعيد إنتاج صورته الشعبوية. بين استراتيجيات القوة وخداع الذاكرة، تنكشف أوكرانيا بوصفها “أرضَ اخْتبارٍ” لِعَالَم يتأرجح بين منطق السلاح ومنطق الاستعراض. ولعل ما يجعل هذا الصراع أكثر الْتباسًا كون بوتين وترامب، رغم اختلاف لغتيْهما في التبرير، يلتقيان عند جوهر واحد: تحويل المأساة الإنسانية إلى مادة لبناء زعامة شخصية. يستدعي بوتين التاريخ كما يستدعي الساحر أشباحه، يلوّح بها ليُثبت أن روسيا أكبر من حدودها، بينما ترامب يلتقط الصّور السريعة ليبيعها لجمهور يستهويه العرض أكثر من الحقيقة. وفي هذه المفارقة يتعرّى المشهد العالمي: قادة يفتشون في أنقاض الذاكرة أو في فوضى الإعلام عن شرعية، بينما تدفع الشعوب وحدها ثمن البحث عن المجد أو الوَهْم.
حربٌ بمثابة لحظة فلسفية قاسية
منذ فجر التاريخ، كانت الحروب الكبرى هي اللَّحظات التي يَختبر فيها العالم نفسه: هل هو محكوم بالعقل أم بالقوة؟ هل تسير البشرية نحو التقدم أم أنها تدور في حلقة مفرغة من العنف؟ حرب أوكرانيا ليست مجرد نزاع حُدودي، إنها لحظة فلسفية قاسية، تكشف أن التاريخ لم يغادرنا قط، وأن الماضي يظل حاضراً في هيئة قيْصر يطالب بإرثه، أو تاجر يساوم على أنقاض المدن. في مواجهة بوتين وترامب، نكون أمام صراع تصوُّريْن عن العَالَم: أحدهما يرى أن الحق يُستمد من الذاكرة الإمبراطورية، والآخر يرى أن السياسة ليست سوى سوق ضخمة لا مكان فيه للأخلاق.
نشعرُ، حين نتأمل مشهد الحرب في أوكرانيا، وكأننا نقف عند شرفة تاريخية مطلة على مسرح فسيح: في المقدمة، تتصارع الجيوش والدّبابات، وفي الخلفية تتحرك ظلال الإمبراطوريات القديمة، وكأنها استيقظت من سباتها لتطالب بدُيُون الماضي. هناك، عند نقطة التقاء الجغرافيا بالذاكرة، يتواجه بوتين وترامب في زمن مُضطرب: يرفع الأول راية التاريخ بوصفه سلاحا، ويتعامل الثاني مع الخراب باعتباره فرصة لعقد صفقة مُربحة. أما أوكرانيا، فهي خشبة المسرح التي تُكتب عليها مأساة جديدة، لا تخصها وحدها، وإنما تخص العالم بأسره وهو يعيد تشكيل نفسه وسط أزيز الرصاص وارتباك القِيَم.
وعلى هذا الأساس، لم تعد الحرب في أوكرانيا مجرّد نزاع مسلّح بين دولتين متجاورتين، لكنها تحوّلت إلى مرآة تعكس أحدَ أعمق التحوّلات في النظام الدولي. ذلك أن فلاديمير بوتين لا يتحدث بلغة السياسة اليومية بقدر ما يتحدث بلغة التاريخ؛ منذ خطابه في ميونيخ عام 2007، وهو يصرّ على أن العالم لا يمكن أن يبقى خاضعاً لهيمنة قطب واحد، على أن أوكرانيا بالنسبة إليه عُقدة جغرافية ورمزية: هي البوابة الغربية لروسيا، والمفتاح الذي يحدد ما إذا كانت موسكو ستبقى قوة عظمى أم تتحول إلى قوة إقليمية مُحاصرة. في مقابل ذلك، يرى دونالد ترامب، وهو ابن الثقافة الأمريكية في شكلها الأكثر براغماتية، أن العالم سوق ضخم، والحرب صفقة يمكن إنهاؤها بالضغط، وبالمساومة، أو بالتهديد الاقتصادي، وهو حين يقول إن الحرب ستنتهي في “24 ساعة”، فإنه لا يعبّر بسذاجة بقدر ما يكشف عن فهمه للعلاقات الدولية باعتبارها شبكة مصالح لا مكان فيها للشعارات الأخلاقية.
جعل هذا الوضع من أوكرانيا نفسها مسرحاً لصراع أكبر منها، لأنها تدافع عن سيادتها وحقها في الانتماء إلى الغرب، لكنها في الوقت نفسه تجد نفسها أداة في لعبة أكبر: لعبة رسم خرائط النفوذ. أوكرانيا بالنسبة للغرب، “خط الدفاع الأخير” أمام اندفاع روسيا؛ وهي وبالنسبة لروسيا، “الامتحان الأخطر” لقدرة بوتين على إعادة تشكيل الفضاء السوفياتي السابق.
حربٌ في عالمٍ متعدّد الأقْطاب
ما يثير الانتباه في الموقف الغربي لهذه الحرب ليس حجم الدعم العسكري والاقتصادي الموجه إلى “كْييفْ” فحسب، وإنما تلك الازدواجية العميقة في خطابه. ذلك أنه يرفع شعارات الحرية والديمقراطية كما لو كانت غاية الحرب، غير أنه في العمق يتعامل مع النزاع بوصفه فرصة استراتيجية لإضعاف روسيا واستنزافها على المدى البعيد. بهذا المنطق البراغماتي البارد، تبدو أوكرانيا أشبه برقعة شطرنج لا يُلتفت فيها إلى حجم الخراب والضحايا بقدر ما يُحسب ربح النقاط في لعبة الأمم، حين تتحول المبادئ المعلنة إلى غطاء رقيق يوارِي مصالح جيوسياسية أكثر قسْوة. حرب أوكرانيا، بكل مآسيها، ليست سوى عتبة أولى في مسار طويل نحو عالم متعدد الأقطاب. يعلن بوتين أن روسيا لن ترضخ. يلمّح ترامب إلى أن أمريكا نفسها قد تنسحب من عبء “الشرطي العالمي”، بينما تتساءل أوروبا عن مكانها بين القوتين… على أن الصين تراقب بهدوء، مستعدة لوراثة النظام الجديد.
المذهل في هذا الصراع أنه يكشف هشاشة المفاهيم التي بدت يومًا راسخة: السيادة، والأمن، والقانون الدولي، كلها تتحطم على صخرة القوة العارية، كأنها أوراق رقيقة أمام زلزال الإرادة. يتبيّن أن المبادئ الكبرى، مهما ازدان بها الفكر وتغنّت بها الكتب والتجارب، لا تكتسب رسوخها إلا بقدرتها على الصمود في وجه ضغط الواقع، وأن العالم في جوهره ليس سوى مرآة عارية للقوة، لحظة تتقاطع الأخلاق مع المصالح، والحق مع السيطرة، والعدل مع القدرة على فرضه.
الحرب، وإن بدت صراعًا دمويًا بين الجيوش، فإن حقيقتها امتحان للإنسان في سراديب كيانه؛ تضعه وجهًا لوجه أمام هشاشته وقوته، وتدفعه إلى ملامسة تخوم صموده في حضرة الخوف، وإلى البحث عن ثباتٍ وسط دوّامة الفوضى، حيث تتشابك خيوط الانتماء والواجب والمسؤولية.
حين تندلع الحرب، يكفّ الوطن عن أن يكون مجرد تراب وحدود، ليتحوّل إلى فكرة نابضة، إلى كيان يمتحن إخلاص أبنائه ومعنى إنسانيتهم. ومن خلال الذود عنه، يتعلم المرء أن الانتماء مسار لا ينقطع، يصل الفرد بجماعته، ويصل الحاضر بامتداد التاريخ وآفاق المستقبل.
هكذا، تفرض الحرب، رغم قسوتها، على الإنسان أن يعيد تأمل معنى الحرية، باعتبارها قدرة على الذود عن وجود الآخرين وكرامتهم، ومواجهة الظلم والعنف ولو كان الثمن حياته أو سكينته. من هنا يغدو الانتصار الحقيقي في الحرب أبعد من مجرد بسط السيطرة على الأرض، إذ يكمن في الوفاء للقيم التي تصون جوهر الحياة وتمنحها معناها الإنساني.
تبلغ الإنسانية ذروتها في أتون الحرب، حين يكتشف الفرد أن مصيره مشدود بخيط لا ينقطع إلى مصائر الآخرين، وأن كل جرح يصيب وطنًا أو إنسانًا يترك أثره العميق في الوعي الجمعي والفردي معًا. ومن هذا المنظور، تبدو الحروب أبعد من كونها صراعًا على القوة أو الهيمنة، إذ تتحول إلى امتحان عسير لإنسانية الإنسان، وقدرته على الاحتفاظ بالرحمة والعدل شعلة مضيئة وسط عتمة الخراب.
ما معنى أن ننتمي إلى الحرية والإنسانية حين تشتعل الحروب؟ أهو انتماء يفرضه الميلاد والجغرافيا، أم خيار أخلاقي يتجدد كلما قرر الإنسان الدفاع عن قيمه ومبادئه؟ هل تظل المواطنة قدرًا يُورث، أم تصبح فعلًا إراديًا يختبر وعي الفرد بمسؤوليته؟ وأي معنى للوجود إن لم يكن الإنسان مشاركًا في صناعة تاريخه بدل أن يظل شاهدًا صامتًا على انهياره؟ لكن، هل يكفي أن نحيا في زمن الحرب لكي نُدرك حقيقتنا، أم أن الحرب تكشف لنا فقط ما كنا نتجاهله في زمن السلم؟ أيمكن للقيم أن تصمد أمام العنف، أم أن العنف نفسه يعيد تعريفها؟ ثم ما الذي يعنيه البقاء: أن نحافظ على الحياة بأي ثمن، أم أن نصون المعنى الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
المصدر: هسبريس