تجربتي في الكتابة انطلقت من الألم.. و”الخبز الحافي” استيهامات
قال الروائي عبد القادر الشاوي إن “كل كتابة هي كتابة ذاتية، على الأقل على مستوى الحركة والتفكير، وعلى مستوى تهيئة المناخ المناسب لتلك الكتابة. فالذات هي التي تتفاعل مع هذه المستويات، وهي التي توجه، ربما، المقصد العام الذي يبتغيه الكاتب في علاقته بالعالم”، مسجلا أن “الكتابة تكتسي حسب المجالات والأغراض والموضوعات طبيعة ما”.
الشاوي، الذي حلّ ضيفاً في حلقات حوارات، ضمن فعاليات الدورة الـ29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب، أبرز أن الكتابة يمكن وصفها أحيانا بـ”الموضوعية”، بيد أنها تخرج أساسا من ذات ما. وتابع قائلا: “الكتاب والباحثون في المجالات العلمية أو غير العلمية يعلمون أن الذات هي التي تحفز كتاباتهم، لكن الموضوع هو الذي يفرض عليهم صرامتها ومنهاجها في التعامل”.
ومن خلال تجربته الشخصية، كشف الشاوي، الذي بدا في الحوار مرحاً ومستلذّا باستحضار ما مضى، عن بداياته الأولى في الشعر أواخر الستينيات، واصفا إياها، وهو يمزح، بـ”السخيفة” بالنظر إلى حداثة سنه ومستواه الثقافي آنذاك. وأضاف “انتقلت سريعاً نحو النّقد الأدبي، (…) لكنه كان انتقالا وهميا، إذ سرعان ما اكتشفت في تجربة لاحقة كان إطارها السجن أن الكتابة مبعثها الذات والألم”.
وربط الشاوي، الذي حرر “كان وأخواتها” من داخل المعتقل، الألم بـ”مفهوم العقاب والحرمان لأن الوجود داخل السجن هو وجود يؤطر ذلك الإنسان، أو ذلك الحيوان، بالإكراهات العامة المفترضة أو المتصورة أو الحقيقية. وبالنسبة للإنسان، تكون نابعة من سلطة العقاب بالنظر إلى أفعال معينة تخرج عن سلطة القانون”، معتبرا أن هذه الحقيقة تضع السجين العادي والسجين الكاتب في مفترق الطرق.
وأشار إلى أن “الإحساس بالنسبة للسجين العادي هو إحساس بالألم، يشعره بوجوده في دائرة أو مربع أو مثلث ضيق يفرض عليه إكراهات لم تكن تفرض عليه في سابق حياته حين كان حرّا طليقا، بغض النظر هل هو كاتب أم لا”.
واسترسل قائلا: “بالنسبة لإنسان له تجربة في الكتابة، فشعوره بالألم يصبح مضاعفا، أي ليس ذلك الشعور بأن شيئا ما يقع عليه من الخارج، من طرف السلطة العقابية، ولكن بأشياء أخرى أعمق وأهم تنبع من ذاته في تفاعل مباشر مع تلك السلطة”.
ومرة أخرى لم يراوغ صاحب “دليل الغفران” في القول إن تجربته “انطلقت من الألم”. وقال: “وجدتُ أنني أتوفر على شعور خاص وعميق بالمأساة الخاصة التي وجدت نفسي فيها مع رفاقي الآخرين. فارقت عالما متعدداً كنت قد ألفته، ووجدت نفسي أكتب وأنفعل مع الألم الذي يخرج من الداخل”، مورداً “حين تفاعلت معه بدا لي أن الأمر قد يكون على درجة كبرى من الانسيابية. كنت أكتب وكأنني أستحلب الآلام والمعاناة والأوضاع التي وجدت نفسي فيها”.
ومضى شارحا الكتابة انطلاقا من الألم والمعاناة والحرمان، مشيرا إلى أنها “كانت حاضرة في تجربتي وفي تجربة رفاق آخرين مروا بالوضعية نفسها”. وأوضح أن هذا النوع من الكتابات “يترافق مع الوسط الذي يعيش فيه الفرد أو الكاتب ضمن المجموعة البشرية التي توجد معه في تلك الدائرة الضيقة، وهنا تبدأ التفاعلات، منها ما هو سياسي ونفسي وعقلي، وتصبح ضاغطة وفي كثير من الأحيان آلية (…) لذلك كانت هذه الكتابة نابعة من ذات متألمة وعاجزة”.
وفي غضون الحوار، ارتأى المحاور ياسين عدنان، الروائي والشاعر والإعلامي، أن يستحضر “الشحرور الأبيض” محمد شكري من خلال سيرته ذات “المنحى الشُّطّاري”، التي تقدم حياة مليئة بالمغامرات الشخصية للكاتب، وكيف أن الشاوي كتب السيرة بشكل مختلف، “غير ذات أصل شطاري لكنها ذات تعيش نوعا من العزلة”، وفق تعبير ياسين، فتفاعل معه الشاوي معلناً أن “ما كتبه شكري كان استيهامات”.
وأضاف كاتب “باب تازة” أن “شكري كتب بنظام اللغة العربية وبنظام نحوها وصرفها، وجاءت كتابته استيهامات عن مرحلة معينة، (…) الخبز الحافي نبضات من التجربة أو التجارب التي عاشها صاحب “الخيمة”. لكنه كان يجد نفسه في كل مرة يعمد إلى صياغتها بطرق مختلفة”، مشيرا إلى أن “ذلك مرتبط بالتجربة بالمعنى الواسع في علاقتها بالكتابة، وفي علاقتها بالحياة والمجال الجغرافي والترابي والأسرة والأب والأم”.
وتابع قائلا: “شكري لو لم يهاجر من الريف في فترة المجاعة، ولو لم يجد نفسه في طنجة في حي من الأحياء أحيانا يبحث في القمامة عن الطعام، ولو لم يتعلم في سن متأخرة، وغيرها من الأشياء التي صنعت شخصية ما ستعرف فيما بعد بالكاتب شكري، لكانت الحكاية مختلفة”.
وسجل في سياق متصل أنه طرح على صاحب “السوق الداخلي” في لقاء بطنجة سؤالا: “هل نعرف شكري الذي كثيرا ما يعرف بنفسه؟”، فكانت إجابة الشحرور “مفاجئة”، تتضمن تلميحا إلى أن ما كُتب هو استيهامات مرتبطة بنظام اللغة التي حُرر داخلها، يضيف الشاوي.
وواصل كاتب “السّاحة الشرفية” قائلا إن “نموذج شكري وآخرين ممن كتبوا عن الطفولة أو مراحل معينة من حياتهم يبين لنا أنه في حقيقة الأمر عندما نرى المسألة عن قرب والمقارنات الممكنة بين الكاتب في مرحلة معينة وحديثه عن طفولته في مرحلة أخرى تبعد عن سنه الحالية بعشرات السنين، نجده في الواقع لا يعدو أن يمارس نوعا من الاستيهام حول تلك الطفولة”.
المصدر: هسبريس