تازة قبل غزة، رؤية ضيقة لوطن واسع

منذ بدايات تشكل الدعوة الصهيونية، ومنذ وعد بلفور، شكلت إسرائيل ومازالت، أحد أخطر التحديات التي تواجه ليس فقط المنطقة العربية، بل العالم بأسره، فمنذ “تأسيسها” في عام 1948 على أنقاض وطن فلسطيني كامل، لم تكن إسرائيل مجرد دولة تسعى للاستقرار، بل كيانًا توسعيًا بُني على المجازر والتهجير القسري والتطهير العرقي. إنها دولة تُدار بعقيدة استعمارية تسعى إلى فرض هيمنتها بقوة السلاح والقوانين الهمجية الغابوية، التي تتجاهل بشكل قطعي القانون الدولي وحقوق الإنسان.
من مجازر دير ياسين وكفر قاسم، إلى الحصار الخانق على غزة، وإلى سياسة الاستيطان التي تلتهم الأراضي الفلسطينية بشكل يومي، تقدم إسرائيل نفسها اليوم بوصفها تهديدًا وجوديًا لكل الشعوب العربية، وليس فقط للفلسطينيين. هذا الكيان الذي يعتمد على الدعم العسكري والسياسي غير المشروط من قوى كبرى، يتمتع بقدرة غير محدودة على الإفلات من العقاب، مما يجعله أكثر عدوانية وجرأة في تحدي النظام الدولي.
لقد تجاهل العالم لعقود التحذيرات المتكررة من أن هذا الكيان لا يسعى فقط إلى السيطرة على فلسطين، بل إلى فرض هيمنته على المنطقة بأسرها، محولًا كل جيرانه إلى أهداف محتملة لحروبه التوسعية. فإسرائيل ليست مجرد تهديد إقليمي، بل خطر عالمي يهدد السلم الدولي والأمن الجماعي، وعلى الرغم من كل ذلك، مازالت الحركات القومية ببعض البلدان العربية ترفض تبني القضية الفلسطينية بوصفها قضية إقليمية دولية تمس أمن وأمان الأفراد في الحاضر والمستقبل، وترى أن الأولوية للقضايا المحلية وأن الأجدى هو الانكفاء على الشؤون الداخلية للبلدان وعدم الاهتمام بالصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، بدعوى أن “تازة تأتي قبل غزة”.
المغالطة في مبدأ تازة قبل غزة:
وعلى الرغم من أن تازة مدينة مغربية والمقولة مقولة لبعض الحركات الأقلية بالمغرب، التي تدعو إلى التركيز على القضايا المحلية قبل الانخراط في الصراعات الخارجية، قد تبدو للبعض منطقية في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. إلا أنها تنطوي على بعد دولي يتكرر في أغلب البلدان العربية، التي تخرج فيها بعض الأقليات الرافضة لتدويل القضية الفلسطينية وتبنيها داخليا في التراب العربي والإسلامي.
هذه المقولة، تغفل عن حقيقة محورية وهي أن الأمن القومي للبلدان لا يمكن عزله عن الأمن الإقليمي. في عالم اليوم الذي تتداخل فيه المصالح ويتقاسم فيه الجميع التهديدات بشكل يجعل من المستحيل تبني أي مقاربة انكفائية منغلقة في التعامل مع الأخطار الخارجية البعيدة.
إسرائيل، بحكم طبيعتها العدوانية، لا ترى في العرب دولًا مستقلة بحدود واضحة، بل تنظر إليهم كأمة ممتدة تشكل عقبة أمام طموحاتها التوسعية. هذه الحقيقة تجلت بوضوح في تصريحات وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا مؤخرًا إلى “نكبة عربية جديدة” كحل نهائي للصراع، مشيرًا إلى أن الجيش الإسرائيلي يجب أن يتصرف كقوة مهيمنة في المنطقة، بما في ذلك لبنان وغزة والضفة الغربية. في خطاب استفزازي، اعتبر سموتريتش أن على العرب أن يستعدوا ل”نكبة جديدة”، ودعا إلى قصف لبنان واليمن، مؤكدًا أن إسرائيل لن تتردد في استخدام كل قوتها العسكرية لضمان هيمنتها الإقليمية.
هذه التصريحات تعكس عقيدة عميقة الجذور في السياسة الإسرائيلية: التعامل مع المنطقة كفضاء استراتيجي يجب السيطرة عليه بالكامل. بالنسبة لهم، ليس هناك فرق بين غزة وتازة، ولا بين بيروت وصنعاء. إنها رؤية توسعية ترى في كل دولة عربية هدفًا محتملاً لعدوانها، دون أي اعتبار للسيادة الوطنية أو الحق في تقرير المصير.
السيادة الوطنية ومبدأ الأمة الممتدة:
في مواجهة هذا التحدي، يجب أن ندرك أن إسرائيل لا ترى في الدول العربية كيانات منفصلة، بل فضاء جغرافيا وسياسيا واحدا يجب إخضاعه لتحقيق أمنها الاستراتيجي. تصريحات سموتريتش الأخيرة، التي دعا فيها إلى تدمير لبنان وغزة، واعتبر فيها الجيش الإسرائيلي الحاكم الفعلي في جنوب لبنان، هي تعبير صريح عن هذه العقيدة. إنه يطالب بإعادة تشكيل المنطقة وفق رؤية إسرائيلية لا تعترف بحدود ولا تقبل بشراكة.
هذا النهج العدواني لا يستوجب شجبا ووعيا فرديا بخطورتها، بل يتطلب منا إعادة التفكير في مفهوم السيادة الوطنية. فلا يمكن لأي دولة عربية أن تضمن أمنها واستقرارها بمعزل عن محيطها. لأن إسرائيل بكل بساطة تتعامل معنا كجسم واحد، في وقت نصر فيه نحن على التعامل كدول منغلقة أو كيانات صغيرة متفرقة، مما يمنحها الفرصة لمزيد من الاختراق والتمزيق.
وإذا كانت إسرائيل تشكل تهديدًا وجوديًا للأمة العربية، فإنها تشكل أيضًا تهديدًا خطيرًا للأمن والسلم الدوليين. هذا الكيان الذي يرفض الامتثال للقرارات الدولية ويواصل انتهاك القوانين الأممية، يهدد بإشعال حروب إقليمية ودولية لا تنتهي. ولا يكتفي بتهجير الفلسطينيين وقمعهم، بل يعمل بشكل دؤوب على تصدير أزماته إلى دول الجوار، مما يهدد استقرار المنطقة بأكملها.
يصبح واجبنا الأخلاقي والوجودي أن نتجاوز خطابات الانعزال والانكفاء، وأن نرى أنفسنا كما نحن: شعوبًا تتقاسم التاريخ والدماء والآمال، وأوطانًا لا تقبل القسمة على خريطة المتفرقات. إن كل صرخة تصدر من غزة هي صدى لوجع في تازة، وكل طلقة تُطلق في بيروت يرتج لها قلب في صنعاء، فليس في التاريخ مكان للحدود عندما يكون العدو واحداً لا يميز بيننا.
لقد آن الأوان أن نكسر القوالب الضيقة، أن نخرج من نفق التجزئة الفكرية والسياسية، وأن نعيد رسم مساراتنا وفق رؤى تتجاوز المصالح الفئوية والطائفية والرؤى الضيقة. لأن من يرى في “تازة” قضية معزولة عن “غزة” يخطئ في فهم جوهر الصراع، ويغفل عن حقيقة أن العدو لا يرى فينا أوطانًا منفصلة، بل كتلة واحدة عليه اختراقها وتمزيقها.
المصدر: العمق المغربي