في جبال الأطلس، وتحديدًا من هضبة آيت بوكماز العالية، انطلقت في صيف 2024 مسيرة سلمية عنوانها الكرامة والعدالة المجالية. لم تكن هذه المسيرة حدثًا عابرًا، بل محطة فارقة أعادت إلى الواجهة سؤالًا كبيرًا ومؤرقًا: أي نموذج تنموي نريد؟ وهل نحن بصدد بناء مغرب الإنسان، أم مغرب الواجهة والمناسبات؟
مغربان يتقاطعان ولا يلتقيان من دواوير النسيان إلى مغرب الإنصاف
بين مغرب القطار السريع، ومغرب السير على الأقدام في طرق مهترئة؛ بين مغرب الملاعب الحديثة ومونديال 2030، ومغرب المدارس المتصدعة والمراكز الصحية المغلقة؛ بين مغرب الاستثمارات الكبرى، ومغرب الدواوير المهمّشة والشباب العاطلين… تتجلى مفارقة تنموية تؤكد أن هناك مغربين يتقاطعان دون أن يلتقيا.
مسيرة آيت بوكماز لم تكن نداءً من أجل طريق أو تغطية للهاتف فقط، بل كانت صرخة مجتمعية ضد اختلالات تنموية مزمنة، تُقصي مناطق بأكملها وتترك فئات واسعة خارج الحسابات. إنها رسالة صريحة بأن التنمية ليست بعدد الملاعب، بل بعدد القرى التي تصلها الطرق والماء والمدارس.
ربط التنمية بحقوق الإنسان: من التجميل إلى التمكين
لم يعد مقبولًا اليوم فصل التنمية عن الحقوق. فكل تجربة تنموية لا تجعل من الكرامة والعدالة والمساواة أساسًا لها، تظل قاصرة وغير قابلة للاستدامة
فما جدوى المراكز التقنية المتقدمة إن لم يجد الطفل في الجبل مدرسةً، أو الحامل طبيبًا، أو الشاب فرصة عمل؟
ويؤكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الدول التي نجحت في التنمية هي التي دمجت مبادئ حقوق الإنسان في صميم سياساتها، واعتمدت على الشفافية، المشاركة المواطِنة، والمحاسبة، بدل الاكتفاء بالمشاريع الإنشائية التي تعزز التفاوت ولا تقلصه.
أزمة رؤية لا أزمة موارد
غالبًا ما يتم تبرير تأخر التنمية في بعض المناطق بـ «ضعف الإمكانيات”، لكن الحقيقة أن الأزمة في كثير من الأحيان تكمن في غياب الرؤية السياسية العادلة، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
حسب معطيات رسمية، لا تزال ست جهات فقط تستحوذ على 70% من الناتج الداخلي الخام، وتبقى جهات الجبال والبوادي في أسفل الترتيب، بمؤشرات فقر وهشاشة مقلقة. فرغم بعض التحسن بفضل برامج مثل “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، إلا أن الفوارق المجالية ما زالت صارخة.
مثال على ذلك: لا تزال أقاليم مثل فجيج وتاونات وأزيلال وشيشاوة تسجل نسب فقر تفوق 20%، في حين أن جهة الدار البيضاء وحدها تنتج ثلث الثروة الوطنية.
نحو مقاربة تنموية شاملة ومنصفة
حتى نعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، لا بد من إعادة النظر في فلسفة النموذج التنموي الوطني. ومن بين أهم الاقتراحات التي نعتقد انه يجدر بالجميع استحضارها.
1. إقرار قانون خاص بالمناطق الجبلية والمهمشة
ينبغي سنّ تشريع وطني يلزم الحكومة بوضع برامج تنموية موجهة للمناطق ذات الطبيعة الجغرافية الصعبة، وتخصيص اعتمادات مالية قارة لها، مع تفعيل مبدأ التمييز الإيجابي في التخطيط والاستثمار.
2. إعادة توزيع الثروات عبر سياسات ضريبية عادلة
يجب اعتماد نظام ضريبي تصاعدي يعيد توزيع جزء من أرباح المركز نحو الأطراف، ويعزز الإنفاق الاجتماعي على الصحة، التعليم، والبنيات الأساسية في المناطق المهمّشة.
3. تحفيز المقاولات المواطِنة للاستثمار في المناطق الهشة
من خلال منح إعفاءات ضريبية وتشجيعات للشركات التي تُحدث مناصب شغل في القرى والجبال وتلتزم بمسؤوليتها الاجتماعية
4. تعميم التكوين المهني والابتكار المجالي
بربط التكوين المهني بالحاجيات المحلية (الزراعة الجبلية، السياحة البيئية، الحرف التراثية)، حتى لا يبقى التكوين مجرد “خريطة طريق للهجرة”، بل أداة للاستقرار والتنمية الذاتية
5. دمقرطة الولوج إلى التكنولوجيا والبنية الرقمية
من خلال تعميم تغطية الإنترنت والربط الرقمي في العالم القروي، ليتمكن الشباب من التعلم والعمل عن بعد، وتُرفع العزلة عن آلاف الدواوير
تجارب دولية ملهمة: رواندا نموذجًا
رغم ماضيها الدموي القريب، استطاعت رواندا خلال أقل من عقدين أن تتحول إلى نموذج يحتذى به في التنمية، عبر
• مقاربة قائمة على العدالة والمصالحة الوطنية.
• تركيز على التعليم الرقمي وتكنولوجيا المعلومات.
• تمكين المرأة: حيث تتصدر رواندا قائمة الدول من حيث نسبة النساء في البرلمان.
• تحفيز المقاولات الصغيرة في الأرياف.
رواندا اليوم تُصدّر الحلول الرقمية، وتستقطب مؤتمرات دولية، في حين لا تزال قرى مغربية تُعاني من غياب التغطية الهاتفية
الرأسمال الرمزي والثقافي: رهان التنمية المستدامة
كما أشار عالم الاجتماع بيير بورديو، فإن الرأسمال الثقافي والرمزي لا يقل أهمية عن الرأسمال المادي، بل يتفوق عليه في خلق التمكين الاجتماعي. لذلك يجب الاستثمار في التعليم الجيد، الثقافة المحلية، التقاليد الإيجابية، والشبكات الاجتماعية كرافعات للتنمية.
عندما يشعر الشاب الجبلي أن هويته محترمة، ومهاراته معترف بها، وأن له دورًا في البناء الجماعي، فلن يفكر في مغادرة قريته، بل في تحويلها إلى نموذج إنتاجي متكامل.
ختاما من أجل مغرب متصالح مع نفسه فلا يمكن الحديث عن التنمية الحقيقية ما لم تكن شاملة ومنصفة، قادرة على إشراك جميع فئات المجتمع، بما في ذلك النساء، والشباب، والأشخاص في وضعية إعاقة، وسكان القرى والجبال والمناطق الهامشية، في عملية البناء المشترك. فالتنمية ليست مجرد مؤشرات اقتصادية أو مشاريع بنية تحتية، بل هي قبل كل شيء مسار مجتمعي جماعي يؤمن بالعدالة الاجتماعية، ويضمن الكرامة للجميع.
لقد أبانت مجموعة من التجارب الدولية، وفي طليعتها التجربة الرائدة لدولة رواندا، عن الأثر الإيجابي لاعتماد مقاربة شمولية في التنمية، تدمج بين الإصلاح المؤسساتي، وتمكين المواطن، ومحاربة الفساد، والنهوض بالخدمات الأساسية من صحة وتعليم وسكن وتنقل. رواندا، التي خرجت من إحدى أبشع المجازر في التاريخ الحديث، استطاعت في ظرف عقدين أن تتحول إلى نموذج يحتذى به في إفريقيا، بفضل إرادة سياسية قوية، وتعبئة مجتمعية شاملة، واستثمار ذكي في رأس المال البشري.
في السياق المغربي، ورغم التقدم الذي تحقق على عدة مستويات، لا تزال فوارق مجالية واجتماعية صارخة تطرح بإلحاح ضرورة تبني سياسة تنموية جديدة، قادرة على كسر منطق المركز والهامش، ومبنية على العدالة المجالية والإنصاف الاجتماعي.
بعض المقترحات العملية لتحقيق هذا الهدف
1. إرساء حكامة محلية فعالة تضمن مشاركة حقيقية للساكنة في تحديد الأولويات التنموية، من خلال تقوية أدوار الجماعات الترابية وتفعيل آليات الديمقراطية التشاركية.
2. توجيه الاستثمار العمومي والخاص نحو المناطق الأقل حظاً، عبر تحفيزات مالية وضريبية مدروسة، تخلق فرص الشغل وتحدّ من الهجرة القروية.
3. اعتماد مقاربة الإدماج الاجتماعي من خلال سياسات عمومية منصفة تأخذ بعين الاعتبار الفئات المهمشة، خصوصاً الأشخاص في وضعية إعاقة، والنساء في وضعية هشاشة، والشباب العاطل.
4. الاستثمار في التربية والتكوين بشكل يضمن المساواة في الولوج إلى تعليم جيد، يرتبط بحاجيات سوق الشغل، ويعزز روح المبادرة لدى الشباب.
5. تعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية عبر تعميم الخدمات الأساسية (الصحة، النقل، التعليم، الماء، الكهرباء…) على جميع مناطق المغرب، دون تمييز.
إن بناء مغرب المستقبل يقتضي إعادة التفكير في نماذجنا التنموية، بروح وطنية عالية، وإرادة سياسية جادة، وانخراط فعلي من كل الفاعلين: الدولة، الجماعات المحلية، القطاع الخاص، والمجتمع المدني. فتنمية لا تضع الإنسان في صلب أولوياتها، ولا تضمن له العيش الكريم والمشاركة الكاملة، تظل تنمية منقوصة، غير قادرة على الاستدامة.
إن بناء مغرب الغد لا يمر عبر القطار السريع أو المونديال فقط، بل عبر خلق عدالة ترابية وإنصاف اجتماعي. مغرب يُسمع فيه صوت من يسكن في “آيت بوكماز” تمامًا كما يُسمع صوت من يسكن في “أنفا”. مغرب يُبنى من الأطراف إلى المركز، لا العكس.
فلن تكون هناك تنمية دون حقوق، ولا كرامة دون عدالة، ولا وطن يسع الجميع إن ظل بعض أبنائه محرومين من أبسط مقومات الحياة
إيدير اكيندي أستاذ العلوم الاقتصادية والاجتماعية، خبير في التنمية الشاملة وحقوق الإنسان والإعاقة
المصدر: العمق المغربي