ظل موضوع المجلس الوطني للصحافة، الذي أُحدث سنة 2016 من أجل التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة والنشر، يثير نقاشا حادا في أوساط الصحافيين والناشرين على حد سواء، لا سيما منذ انتهاء ولايته دون التمكن من تجديد هياكله، نتيجة الخلافات الحادة التي عصفت بمكوناته.

أمام حالة الجمود المؤسسي اختارت الحكومة الحالية التدخل عبر تشكيل “لجنة مؤقتة” لتدبير المرحلة، الشيء الذي أثار جدلا واسعا، ليس فقط على المستوى المهني، وإنما أيضا من حيث انسجامه مع فلسفة التنظيم الذاتي المنصوص عليها في الدستور، وكذلك من حيث مشروعيته القانونية.

وقد أدى هذا التدخل إلى انقسام حاد داخل الجسم الصحافي، سواء بين ممثلي الصحافيين المهنيين أو ضمن فئة الناشرين، حيث تعددت الطعون والتشكيكات في مشروعية التمديد، وتحولت النقاشات من خلافات حول الصلاحيات والمسؤوليات إلى صراع حول التمثيلية والنفوذ داخل الحقل الإعلامي.

وبالتالي، كشفت هذه المرحلة الانتقالية عن هشاشة التنظيم الذاتي في ظل غياب توافق مهني حقيقي، وسعي بعض الفاعلين إلى إعادة تشكيل المشهد المهني على مقاس سياسي أو اقتصادي ضيق، حتى أضحت الحكومة، وعلى وجه التحديد القطاع الوصي على الصحافة والإعلام، في فوهة الاتهامات بالتحكم في المجلس والسعي إلى ترسيخ نفوذ جهة محددة داخل الناشرين والصحافيين على حساب جهات أخرى.

وإذا كانت الحكومة قد أخرجت أخيرا مشروع قانون جديد لإعادة هيكلة المجلس، فقد أعاد هذا النص النقاش من جديد حول مدى قدرته على التوفيق بين ضرورات التأطير والتنظيم، من جهة، ومتطلبات الاستقلالية والمهنية، من جهة أخرى. فالمشروع، رغم مستجداته المتعددة، يطرح في سياق تطبعه التوترات السياسية والمهنية، خاصة أن الفيدرالية المغربية لناشري الصحف استبقت النقاش بإعلان رفضها للمشروع، معتبرة أنه “يتناقض مع المادة 28 من الدستور، ويقبر كل معنى لمؤسسة التنظيم الذاتي، ويجعل مهنة الصحافة في المغرب اليوم وجهاً لوجه أمام تحالف مصلحي تجاري ريعي وهيمني”.

من هذا المنطلق، لا يمكن قراءة مشروع القانون الجديد كمجرد محاولة لتجاوز أعطاب النصوص السابقة، بل يجب فهمه ضمن سياق عام يتسم بضعف الثقة، واستمرار منطق الوصاية، وانقسام النخبة الإعلامية حول وظيفة الصحافة وحدود استقلالها. فالخلافات ليست فقط قانونية أو تنظيمية، بل تعكس تصورات متباينة حول الدور الذي ينبغي أن يلعبه الإعلام في المجتمع المغربي: هل هو سلطة نقد ومساءلة أم أداة ضبط وتوجيه؟

وفي هذا الإطار، سنحاول من خلال هذا المقال إبراز مستجدات المشروع، قبل أن ننتقل إلى قراءة نقدية لمضامينه، مستحضرين في ذلك بعض التجارب المقارنة في هذا المجال، والسياق السياسي الوطني الذي طرح فيه، ثم التحديات البنيوية التي تواجه بناء إعلام مستقل ومهني في مغرب اليوم.

أولاـ محاور الإصلاح المقترحة في مشروع القانون الجديد

يندرج مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وفقا لما ورد في ديباجته، ضمن إطار “استراتيجية إصلاح منظومة الصحافة”، ويجسد ما اعتبر عزما من الدولة على توفير بيئة قانونية مستقرة وشفافة للممارسة الصحافية، بما يضمن فعالية التنظيم الذاتي للمهنة، وفق الضمانات القانونية والديمقراطية الكفيلة بتأطير هذا القطاع وضمان استمرارية مؤسساته.

وقد صيغ المشروع، حسب ما تشير إليه مقدمته، استنادا إلى خلاصات عمل اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر، المحدثة بموجب القانون رقم 15.23. ويطمح إلى تحقيق جملة من الأهداف المعلنة، أبرزها:

  • تعزيز الانسجام مع أحكام الدستور المغربي، لا سيما الفصول 25 و27 و28، ذات الصلة بحرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومة والتنظيم الذاتي للصحافة.
  • الاستجابة للحاجة إلى ضمان استمرارية المجلس الوطني للصحافة في أداء مهامه، خاصة تلك المرتبطة بالتمثيل الذاتي لمهنة الصحافة، وترسيخ أخلاقياتها، وحماية القطاع وتنميته بأسلوب ديمقراطي ومستقل.
  • تكريس المكتسبات التي جاء بها القانون رقم 90.13 القاضي بإحداث المجلس عبر الحفاظ على طابعه المهني المستقل، واستمرار اختصاصاته الجوهرية، لاسيما فيما يتعلق بممارسة سلطته التنظيمية الذاتية على قطاع الصحافة والنشر.
  • معالجة بعض الإشكاليات العملية والبنيوية التي ظهرت خلال التجربة السابقة، وخصوصًا تلك المرتبطة بتجديد هياكل المجلس وصعوبة ضمان الانتظام المؤسساتي.

ولأجل تحقيق هذه الأهداف، يقترح المشروع عددا من المستجدات الهيكلية والإجرائية التي يمكن إجمالها في العناصر التالية:

  1. توسيع صلاحيات المجلس، من خلال التنصيص على إحداث ومسك سجل خاص بالصحافيين المهنيين الحاصلين على بطاقة الصحافة المهنية، وآخر بالناشرين، وضبط وتقنين آجال إبداء الرأي في مشاريع القوانين والمراسيم المعروضة عليه، مع إمكانية تقليص هذه الآجال بقرار من الحكومة، علاوة على التنصيص على إلزامية نشر ميثاق الأخلاقيات وكذا الأنظمة التي يضعها في الرسمية.
  2. إعادة هيكلة تركيبة المجلس، من خلال تقليص عدد الأعضاء من 21 إلى 17، وتوزيعهم على ثلاث فئات: الصحافيون المهنيون (7)، الناشرون (7)، والأعضاء المعينون من طرف هيئات دستورية (3)، وأيضا من خلال التنصيص على إلزام اعتماد المناصفة داخل فئة الصحافيين، وعلى قواعد تضمن التوازن بين الجنسين داخل فئة الناشرين.
  3. تعديل شروط التصويت والترشح، عبر تخفيض شرط الأقدمية المهنية من 15 إلى 10 سنوات، وربط الأهلية بالممارسة المهنية الفعلية، وإنشاء “لجنة إشراف” تناط بها مهمة تنظيم العمليات الانتخابية للصحافيين المهنيين لضمان نزاهتها وشفافيتها.
  4. تدبير حالات “العجز المؤسسي”، عبر آلية قانونية جديدة تتمثل في إمكانية “إحداث لجنة خاصة مؤقتة” في حال تعذر تجديد المجلس، بعد ثبوت حالة العجز بمقرر قضائي، على ألا يتجاوز أمدها 120 يوما.
  5. مراجعة منظومة العقوبات التأديبية، حيث تم تحديد العقوبات في التنبيه، والإنذار، والتوبيخ، مع إمكانية السحب المؤقت لبطاقة الصحافة، وتوقيف النشر لمدة محدودة. كما ألزم المشروع بنشر العقوبات التأديبية النهائية، وإحداث سجل رسمي لتوثيقها، فضلا عن توسيع مجال العقوبات لتشمل توقيف الصحف الإلكترونية أو الورقية، واستحداث “لجنة استئناف تأديبية” داخل المجلس، مع إمكانية الطعن في قراراتها أمام المحكمة الإدارية بالرباط.
  6. اعتماد عدد من الإجراءات التي تهم إعادة ضبط النصاب القانوني للاجتماعات، وبسط مساطر التبليغ والآجال، فضلا عن تطوير المساطر المعتمدة في ما يخص تسوية النزاعات والخلافات التي قد تثور، وخاصة من خلال آليات الوساطة والتحكيم.

وبالرغم من أن هذا المشروع يتضمن عددا من المقتضيات الإيجابية التي لا يمكن إنكارها، خاصة تلك المتعلقة بتحسين نظام ضبط وتحيين سجلات الصحافيين والناشرين، بكل ما يشكله ذلك من خطوة مهمة نحو تنظيم المشهد المهني على أسس دقيقة وشفافة، بالإضافة إلى تنصيصه الصريح على تعزيز التمثيلية النسائية داخل هياكل المجلس، في انسجام واضح مع مبدأ المناصفة الذي يؤكده الفصل 19 من الدستور، فضلا عن إدراجه لضمانات إجرائية تتعلق بالحق في الطعن وتحسين مساطر الانتخاب والتأهيل، فإن ذلك لا يمنع من تسجيل عدد من الملاحظات النقدية بشأن بعض المستجدات التي جاء بها المشروع.

إن هذه المستجدات، وإن بدت في ظاهرها تتوخى الإصلاح، فإنها تبقي المجلس الوطني للصحافة رهينا لعدد من الإشكاليات التي عاشها في تجربته السابقة، سواء على مستوى ضبابية شروط الترشح والتمثيل، أو غياب آليات دقيقة لضمان استقلالية المجلس عن السلطة التنفيذية والإدارية، أو حتى من حيث الطابع المغلق لبعض الهيئات التقريرية داخله، مما يطرح سؤال مدى قدرة هذه التعديلات على تحقيق ما تدعيه من “تأمين الاستمرارية” و”ترسيخ التنظيم الذاتي”.

بمعنى آخر، فإن الإصلاحات الجزئية التي جاء بها المشروع، رغم أهميتها التقنية، لم تلامس جوهر الأزمة التي عرفها المجلس، والمتمثلة في اختلال التوازن بين منطق الاستقلال الذاتي ومنطق الوصاية الضمنية، وبين التمثيلية المهنية الواسعة والتعيينات شبه المغلقة، مما يهدد بإعادة إنتاج نفس أسباب العطب المؤسسي الذي أدى من قبل إلى تشكيل لجنة مؤقتة خارج المنطق الانتخابي، على نحو ما سنبرز ذلك في المحور الثاني من هذه القراءة.

IIـ الملاحظات التي يطرحها المشروع

إن قراءة مستجدات مشروع القانون في ضوء ما نص عليه دستور 2011، لا سيما الفصول التي تؤطر حرية التعبير والتنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، إلى جانب واقع الممارسة التي عرفها المجلس الوطني للصحافة منذ إحداثه وحتى انتقال تدبيره إلى لجنة مؤقتة، وكذلك في ضوء التجارب الدولية في مجال التنظيم الذاتي للإعلام، تضعنا أمام مجموعة من الإشكاليات الجوهرية.

من جهة، يبرز سؤال مفهوم التنظيم الذاتي نفسه، وكيفية ترجمته على أرض الواقع في سياق متشابك بين الحرية والمسؤولية المهنية، ومدى قدرة الجسم الصحافي على ممارسة الرقابة الذاتية دون تدخل خارجي. ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل حدود تدخل الدولة، ومدى التوازن المطلوب بين ضمان حرية الصحافة والحاجة إلى ضبط القطاع وتنظيمه، بحيث لا يتحول هذا التدخل إلى رقابة خفية أو تحكم في حرية التعبير.

كما يبرز تحدٍ مهم يتمثل في تحقيق توازن دقيق بين التأطير المهني الذي يحفظ جودة الممارسة الصحافية وأخلاقياتها، وبين الضبط المؤسساتي الذي يحمي استقلالية الجسم الصحافي ويصونه من التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة.

وكل هذه الإشكاليات تزداد تعقيدا في ظل السياق الوطني الذي يعيشه المغرب، حيث تتداخل السياسة والاقتصاد مع ميدان الإعلام، مما يجعل التنظيم الذاتي ومسألة استقلال الصحافة قضية ليست فقط قانونية أو تقنية، بل ذات أبعاد سياسية ومجتمعية عميقة.

  1. رهان التنظيم الذاتي في ظل تدخل الدولة

من المظاهر الأساسية لأي تنظيم ذاتي مهني هو مبدأ الاستقلالية، باعتباره شرطا جوهريا لتمكين الفاعلين المهنيين من تدبير شؤونهم بعيدا عن تدخل السلطة التنفيذية أو أي جهة خارجية. وإذا كان مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة يتبنى هذا المبدأ ظاهريا، فإن الصياغات القانونية المعتمدة تفتقر إلى التحديد الدقيق لحدود هذه الاستقلالية، سواء من حيث نطاقها أو طبيعة السلطات العمومية التي قد تتقاطع مع اختصاصات المجلس أو تتدخل في سير عمله.

فالقانون رقم 90.13 أنشأ المجلس الوطني للصحافة كهيئة للتنظيم الذاتي للمهنة، مستحضرا في ذلك التوصيات الدولية الصادرة عن منظمات كـمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واليونسكو، التي تؤكد على أن ضمان حرية الصحافة والتعبير يتطلب هيئات مستقلة مهنية ذاتية التنظيم، تشكل وتدار من داخل الجسم الصحافي نفسه. غير أن المشروع، في صيغته المتداولة، يبدو كأنه يجنح نحو تحويل المجلس إلى هيئة ضبط إداري أكثر من كونه هيئة مهنية مستقلة. ويتجلى هذا التوجه في عدد من المقتضيات، منها:

  • النص على أن المجلس “يعاد تنظيمه بصفته شخصا اعتباريا يتمتع بالاستقلال المالي”. وهو ما يفهم منه أن الاستقلالية التي يكفلها المشروع تقتصر على الشق المالي، دون التوسيع لتشمل الاستقلال الإداري والمؤسساتي، أي في بنيته الداخلية وآليات اتخاذ القرار، وفي شروط التعيين والانتهاء من المهام. هذا التحديد الجزئي يجعل استقلالية المجلس تفهم بأنها شكلية، وقابلة للاختراق عبر القنوات الإدارية أو التعيينات غير المهنية.
  • تأكيد المشروع على أن الهدف هو “تعزيز الانسجام مع أحكام الدستور، لا سيما الفصول 25 و27 و28″، التي تنص على حرية التعبير، وحرية الصحافة، والحق في الوصول إلى المعلومة. غير أن إحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون المجلس، وشرعنة عملها لاحقا ضمن مشروع إعادة التنظيم، يثير تساؤلات جوهرية حول مدى احترام مبدأ التنظيم الذاتي. فمجرد الإقرار بلجنة ذات طابع إداري ـ ولو مؤقت ـ يتنافى مع جوهر التنظيم الذاتي الذي يفترض أن ينبع من داخل المهنة، لا أن يدار من طرف السلطة التنفيذية أو بإشرافها.

في التجارب المقارنة، كما هو الحال في المجلس المستقل للصحافة في المملكة المتحدة (IPSO)، أو في مجلس أخلاقيات الصحافة في بلجيكا (CDJ)، نلاحظ أن استقلالية الهيئة لا تقاس فقط بحدود المهام، بل كذلك بأسس التكوين، وبطبيعة التمثيلية المهنية في بنيتها، وبطرق التعيين، وبالضمانات التي تحول دون تدخل الحكومة أو خضوع الهيئة لسلطتها الرقابية أو التقريرية، بل إن هذه الاستقلالية تتقرر في ما يخص الهيئة الأولى في العلاقة مع ناشري الصحف والمجلات أنفسهم. وهذا ما يجعل غياب الاستقلال الإداري والمؤسسي، أو ضعف آليات الضبط الذاتي المهني داخل مشروع إعادة التنظيم، مؤشرا على نزعة نحو تأطير إداري لمجال كان يفترض أن يدار بوسائل التنظيم الذاتي.

ولذلك، فإن المشروع ـ بصيغته المتداولة ـ يمكن أن يفرغ مبدأ التنظيم الذاتي من محتواه الجوهري، ويختزل الاستقلالية في بعدها المالي فقط، متجاهلا الأبعاد الأخرى الأهم، وعلى رأسها الاستقلال المؤسسي والمهني. وهذا ما يكرس نوعا من الضبط المقنن لقطاع الصحافة، باسم التنظيم الذاتي، دون أن يستوفي شروطه الأساسية كما تنص عليها المعايير الدولية والتجارب المقارنة.

ثانيا: توسيع الصلاحيات بين الضبط المهني والرقابة المقنعة

ينطوي مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة على توسيع واضح في صلاحياته، من خلال إحداث سجلات رسمية للصحافيين والناشرين، ومنحه اختصاص إبداء الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالمهنة داخل أجل محدد، وكذا التنصيص على نشر ميثاق أخلاقيات المهنة في الرسمية، وفقا لما سبقت الإشارة إلى ذلك. ولا شك أن هذه التدابير تظهر حرصا على تأطير المهنة وتقنين أسس الممارسة، وتندرج ـ ظاهريا على الأقل ـ ضمن منطق التنظيم الذاتي الذي يهدف إلى الرفع من جودة الصحافة، وضمان احترام أخلاقيات المهنة، وتعزيز الشفافية.

غير أن الطابع التنظيمي لهذه الإجراءات لا يخلو من إشكاليات، بالنظر إلى ما تثيره من تساؤلات حول طبيعة التحول الذي تشهده مؤسسة المجلس. فبدل أن يظل المجلس هيئة مهنية ذاتية التنظيم، يبدو أن المشروع يدخله تدريجيا في خانة هيئات الضبط الإداري المستقلة، الشبيهة بهيئات، مثل المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، أو تلك التي تنظم المهن ذات البعد التراخيصي والتقني في عدد من الدول الأوروبية كفرنسا وإسبانيا. وهذا التحول، إن لم يكن مضبوطا بحدود واضحة، قد يمس بجوهر الاستقلال المهني الذي يعد ركيزة لأي تنظيم ذاتي حقيقي.

فالتنظيم الذاتي، في التجارب المقارنة، يقوم على مبدأين أساسيين:

  • المرجعية المهنية الداخلية، حيث القواعد التي تنظم المهنة تنبع من أهل المهنة أنفسهم، سواء عبر مواثيق أخلاقية، أو مجالس مهنية منتخبة، أو آليات تسوية داخلية للنزاعات.
  • التحرر من التدخل السياسي أو الإداري، حيث لا تمارس الحكومة وصاية أو رقابة على طريقة اشتغال المجلس، ولا تتدخل في تعيين أعضائه أو تحديد صلاحياته خارج إرادة الجسم المهني.

وبالمقابل، فإن الضبط القانوني، الذي تتبناه بعض الدول في قطاعات حساسة أو ذات طابع تقني، مثل الاتصال السمعي البصري أو قطاعات الأمن السيبراني، يفترض تدخل الدولة في ضبط المهنة عبر قوانين، ورقابة، ووسائل إنفاذ ملزمة، وهو ما لا يتماشى مع فلسفة حرية التعبير واستقلال الصحافة.

وإذا كانت بعض الإجراءات التي جاء بها المشروع تظهر نية الجهة التي وضعته في تأطير المجال المهني، فإن المزج بين الضبط الذاتي والضبط القانوني دون توضيح دقيق للحدود قد يؤدي إلى خلق نموذج هجين، تتراجع فيه استقلالية الجسم المهني لفائدة منطق الرقابة المقنعة. فمثلا، تحويل الميثاق الأخلاقي ـ الذي يجب أن يعبر عن تعاقد داخلي بين المهنيين ـ إلى نص منشور في الرسمية، قد يحول هذا الميثاق إلى وثيقة ذات قوة قانونية ملزمة بقوة الدولة، ما يفتح الباب أمام آليات التأديب أو المنع بناء على تأويلات قانونية لا على مرجعيات مهنية.

وفي التجارب المقارنة، يتم التمييز بدقة بين التنظيم الذاتي والتقنين الخارجي. فـ”مجلس أخلاقيات الصحافة في بلجيكا”، على سبيل المثال، يكتفي بإصدار آراء غير ملزمة أو توصيات تستند إلى الميثاق الأخلاقي، ولا يمتلك سلطات عقابية أو رقابية، ضمانا لحرية التعبير. أما في بريطانيا، فقد خلف “المجلس المستقل لشكاوى الصحافة” النموذج السابق الذي كان متهما بالتقاعس، لكنه ظل ملتزما بمنطق التنظيم الذاتي رغم الإلحاح على فعالية الضبط.

أما المشروع المغربي، كما صيغ، فيبدو متأثرا بنموذج مختلط لا يحسم في طبيعة المجلس: هل هو هيئة مهنية تمثل الصحافيين وتنظم شؤونهم وفق قواعد داخلية؟ أم هيئة إدارية تمارس صلاحيات تنظيمية وتقريرية باسم الحكومة؟ وغياب هذا الحسم، بل والتوجه نحو ترجيح الكفة نحو التمأسس الإداري، يجعلنا أمام مشروع يهدد بتحويل التنظيم الذاتي إلى شكل من أشكال الرقابة غير المباشرة، خاصة إذا غابت الضمانات الصريحة لاستقلالية التكوين والاشتغال والحصانة من التدخلات.

وبالتالي، فإن توسيع الصلاحيات لا يجب أن يفهم تلقائيا كتعزيز لدور المجلس، بل يجب أن يربط دائما بسؤال الشرعية المهنية، والتمثيلية الديمقراطية داخل الهيئة، وبمدى توافق هذه الصلاحيات مع فلسفة التنظيم الذاتي. فبدون هذه الضمانات، فإن ما يعرض بوصفه تنظيما مهنيا قد لا يكون سوى ضبط إداري مقنع باسم أخلاقيات المهنة.

ثالثاـ تركيبة المجلس بين تعزيز الكفاءة وتكريس التمثيلية الانتقائية

ينص مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة على تقليص عدد أعضائه من 21 إلى 17 عضوا، مع تحديد أكثر دقة للجهات التي تملك حق التعيين وعدد ممثلي كل فئة. ورغم أن هذا التخفيض قد يبرر من منطق “النجاعة” و”التخفيف من ثقل البنية التنظيمية”، فإن القراءة النقدية لهذا التعديل تكشف عن تحول جوهري في فلسفة التمثيلية داخل الهيئة، ينذر بخلل في توازن الأصوات والمرجعيات داخل المجلس.

ـ من جهة أولى، يطرح التساؤل حول هل المطلوب هو تقليص أم حذف الهيئات التي كانت ممثلة في النسخة السابقة من المجلس؟ فالمشروع يبقي فقط على تمثيلية ثلاثة مؤسسات أو هيئات كلها ذات طابع دستوري، مجسدة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، بينما حذف تمثيلية هيئات أخرى، مثل جمعية هيئات المحامين بالمغرب واتحاد كتاب المغرب، يفترض أن النص على تمثيلها في الصيغة السابقة يعكس الطابع التعددي الذي كان يضفي بعدا أفقيا على بنية المجلس، ويوسع من قاعدة مشاركته المجتمعية. فهذه الهيئات، وإن لم تكن تنتمي إلى الجسم الصحافي الصرف، إلا أن تمثيلها يمكن أن يسهم في توفير زوايا نظر أدبية وحقوقية تغني أداء المجلس، وتذكره بوظيفته الاجتماعية لا التنظيمية فقط. وبالتالي، فإن حذف هذه الأصوات قد يفتح الباب أمام نوع من التمركز المهني الضيق، ويمكن أن يؤدي إلى اختزال المجلس في نخبة بيروقراطية أو مهنية محدودة، ما قد يقوض روح الانفتاح والمشاركة. وبالتالي قد يعتبر الاقتصار على تمثيل مؤسسات رسمية هو مجرد تكريس إشكالية هيمنة الطابع الرسمية على المجلس.

في المقابل، تظهر بعض التجارب المقارنة أن التمثيلية المهنية في هيئات التنظيم الذاتي للصحافة ليست فقط مسألة عدد، بل تتعلق بطبيعة التمثيل، ومصدر الشرعية، ودرجة الاستقلال عن السلطة السياسية. ففي بلجيكا مثلا، يتكون مجلس أخلاقيات الصحافة (CDJ) من ممثلين عن الصحافيين، والناشرين، والأكاديميين، والمجتمع المدني، ويتم تعيينهم وفق آلية تضمن التوازن بين المكونات، دون سيطرة مكون على آخر. وفي بريطانيا، يضم المجلس المستقل لشكاوى الصحافة (IPSO) ممثلين عن الصحافة، لكن أيضا عن العموم، من غير المنتمين إلى الحقل المهني، لضمان المصداقية والاستقلال. وبالتالي، فإن تقليص العدد، دون وضع ضمانات قوية لتعددية المرجعيات واستقلالية التعيين، يحوِل المجلس من “منصة تشاركية” واسعة إلى هيئة ضيقة خاضعة لنفوذ جهات معينة، سواء مهنية أو سياسية أو إدارية. وهو ما يناقض فلسفة التنظيم الذاتي التي تقوم على تعدد الفاعلين، وتوزيع السلطة المهنية، وضمان الحياد في التمثيل والقرار.

ـ من جهة ثانية، فإن تقييد جهات التعيين وتخفيض عدد الأعضاء لا يمكن فصله عن السياق العام الذي يشهد ميلا متزايدا إلى التحكم في هيئات الوساطة والتقنين، عبر هندسة تركيبتها على نحو يمكن فئات محددة ـ غالبا قريبة من السلطة أو ذات امتياز مؤسساتي ـ من التأثير في توجهاتها. وهذا النمط من “التمثيلية الانتقائية” يضعف من شرعية الهيئة، ويفتح المجال أمام توجيه القرار المهني وفق اعتبارات غير مهنية أو غير تعددية.

ـ ومن جهة ثالثة، فإن ما ينص عليه المشروع بخصوص ربط انتداب ممثلي فئة الناشرين بمعيار عدد المستخدمين المصرح بهم، وكذا بحجم رقم المعاملات السنوي، وفقا لما هو محدد في المواد 43، 44 و45، من شأنه أن يؤدي إلى تقليص التعددية داخل هذا المجال، وأن يعزز بشكل غير مباشر هيمنة المجموعات الصحافية الكبرى على تمثيلية هذه الفئة. ويترتب عن ذلك تهميش واضح للهيئات والمنشآت الإعلامية والصحافية الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل جزءا لا يستهان به من النسيج المهني، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الإنصاف في التمثيلية، ويقوض كل إمكانية لضمان توازن سليم بين مختلف مكونات الجسم الصحافي. فلا يمكن لهذه التمثيلية أن تبنى على منطق القوة الاقتصادية أو حجم الاستثمارات فقط، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار معطيات أخرى.

هناك من يدفع مثلا بمعيار الانتشار والمقروئية باعتبارهما المؤشرين الأكثر تعبيرا عن الحضور الفعلي والتأثير المجتمعي للمؤسسات الإعلامية من منطلق أن المؤسسة الإعلامية، أيا كان وضعها المالي أو الاقتصادي، لا تؤدي وظيفتها العامة إلا بقدر ما تصل إلى الجمهور وتحظى بمتابعته وتفاعله. ومن هذا المنظور، فإن اعتماد معيار القراءة والمشاهدة الفعلية يعكس طبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام والمجتمع، ويمنح التمثيلية طابعا ديمقراطيا حقيقيا، يقطع مع منطق الامتياز المالي أو القرب من دوائر السلطة والإشهار. غير أن هذا المعيار بدوره لا يخلو من إشكالات، خاصة في ظل التحولات التي يعرفها المجال الإعلامي، حيث لم يعد التأثير يقاس حصرا بعدد القراء أو نسب المشاهدة، بل دخلت مؤشرات أخرى كعدد “الإعجابات” و”المتابعات” في وسائط التواصل، ما يجعل المقياس التقليدي للانتشار خاضعا بدوره لمحددات رأسمالية قد تعيد إنتاج التفاوت نفسه.

لذلك، يبدو اعتماد نظام التمثيل النسبي كآلية أكثر توازنا وإنصافا، قادرا على استيعاب تعددية الحقل الإعلامي المغربي وتمثيل مختلف فئاته بشكل عادل. فهذا النظام يمكن من الجمع بين ضمان تمثيلية المؤسسات الكبرى، لما لها من وزن داخل القطاع لا يمكن إنكاره، وبين تأمين حد أدنى من الحضور المؤسساتي للمقاولات الصحافية الصغرى والمتوسطة، التي، وإن كانت محدودة من حيث الموارد والإمكانيات، فإنها تشكل أغلبية عددية وواقعية، وتعكس تنوع الحساسيات المهنية والجهوية والثقافية داخل المشهد الإعلامي الوطني. وبالتالي، فإن التمثيلية القائمة على التعدد والتوازن تمكن من بناء مشهد إعلامي أكثر انفتاحا وعدالة، وتسهم في تعزيز شرعية المجلس كمؤسسة تعددية تمثل مختلف أصوات الحقل الإعلامي بدل اختزاله في نخبة اقتصادية محدودة.

وبهذا الشكل، يمكن أن تتحقق عدالة تمثيلية تراعي مبدأ التعددية، وتعكس الواقع البنيوي للقطاع، دون أن تترك المجال لهيمنة المؤسسات القوية ماليا أو القريبة من دوائر النفوذ السياسي والإشهاري، كما يفترض أن يسهم ذلك في إرساء تمثيلية أكثر ديمقراطية وتوازنا داخل المجلس، تعزز من شرعيته وتوسع قاعدته التمثيلية.

وإذا كان يسجل للمشروع على هذا المستوى أنه تضمن مقتضى صريحا بخصوص المناصفة بين النساء والرجال في تركيبة المجلس، وهو مكسب مهم يتماشى مع روح الفصل 19 من دستور 2011، الذي يكرس مبدأ المساواة والمناصفة، ومع التزامات المغرب الدولية في هذا المجال، فإن التنصيص على المناصفة القانونية لا يعفي من ضرورة ضمان مشاركة فعلية وفعالة للنساء داخل المجلس، وذلك عبر توفير شروط التمكين المهني، ومنع اختزال الحضور النسائي في بعد رمزي أو شكلي، أو حصره في تمثيليات محددة سلفا دون تنوع.

وبالتالي، فإن تعديل تركيبة المجلس، كما جاء في المشروع، يمكن أن يعبر عن نزوع نحو الفعالية الإدارية على حساب التعددية المؤسساتية، ما يفقد المجلس جزءا من شرعيته التمثيلية، ويضعف قدرته على لعب دور الحكم المهني المحايد أو على الأٌقل الموضوعي والمنفتح، كما يفترض في أي هيئة قائمة على منطق التنظيم الذاتي.

رابعا: نظام العقوبات التأديبية بين مطلب الشفافية ومخاطر المس بحرية الصحافة

من بين المستجدات اللافتة التي جاء بها مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة ما يتعلق بإرساء نظام عقوبات تأديبية أكثر تفصيلا واتساعا، سواء من حيث الإجراءات أو من حيث آثارها.

لأول وهلة، قد يقرأ هذا النظام التأديبي الموسع بوصفه تعزيزا لمبدأ الشفافية والمساءلة المهنية، ومحاولة لضمان الحد الأدنى من التدرج في الطعن. بيد أن القراءة المتأنية لهذه المقتضيات تبرز عددا من الإشكاليات الجوهرية، على مستوى الضمانات الإجرائية والمفاهيم القانونية الناظمة.

1ـ إن توسيع صلاحيات المجلس في المجال التأديبي، لاسيما ما يتعلق بقرارات تصل حد توقيف النشر، يمثل تجاوزا لمجال التنظيم الذاتي ودخولا في منطق السلطة الزجرية التي من المفترض أن تكون من اختصاص القضاء وحده، خاصة عندما يتعلق الأمر بحق دستوري أصيل كحرية التعبير بواسطة الصحافة. وفي هذا الإطار، تظهر التجارب الديمقراطية أن اتخاذ قرارات بتوقيف الصحف أو منع النشر لا يفترض أن يتم إلا استثناء، وبموجب أحكام قضائية مبررة، وفي حالات قصوى، مثل التحريض العلني على العنف أو التمييز أو الإرهاب، وليس بناء على مخالفات مهنية أو تأويلات فضفاضة لميثاق الأخلاقيات.

2ـ غياب النص الصريح على قواعد المحاكمة العادلة داخل المسطرة التأديبية يعد خللا بنيويا في المشروع. فالمحاكمة العادلة، كما حددتها المواثيق الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14)، تقتضي ضمانات أساسية، من بينها:

  • إعلام الصحافي المعني بشكل واضح بالأفعال المنسوبة إليه.
  • تمكينه من تقديم الدفوع والردود.
  • منحه الحق في التمثيل القانوني.
  • ضمان استقلال الجهة المقررة عن الجهة المشتكية أو المبلغة.
  • مبدأ التناسب بين الفعل والعقوبة.
  • تعليل القرارات.
  • إتاحة الطعن أمام هيئة مستقلة ومحايدة.

وفي غياب التنصيص الواضح على بعض هذه الضمانات، تصبح العقوبات التأديبية معرضة لشبهة التحكم والتأويل الانفرادي، بل وربما التوظيف السياسي أو المهني في صراعات داخل الجسم الإعلامي أو مع السلطة.

3ـ تطرح مقتضيات المشروع إشكالية الجمع بين المهام التنظيمية والرقابية داخل نفس الهيئة. فالمجلس، حسب مشروع القانون، هو من يضع القواعد الأخلاقية من خلال اعتماد ميثاق الشرف، ومن يراقب مدى الالتزام بها، وهو أيضا من يصدر العقوبات التأديبية في حال الإخلال بها، ثم هو من يستأنف أمامه نفس القرار التأديبي عبر لجنة داخلية.

هذا الوضع ينتج ما يعرف في أدبيات التنظيم المهني والقانون الإداري بـ”تضارب الوظائف”، حيث الهيئة تصبح خصما وحكما في آن واحد، ما يقوض ضمانات الحياد والإنصاف، ويفتح الباب أمام تعسف محتمل في استعمال السلطة، سواء لأسباب مهنية أو سياسية أو شخصية. في حين توصي المعايير الدولية، بما فيها توصيات مجلس أوروبا واليونسكو، بضرورة الفصل بين الوظائف، وعدم تمركز السلطات بيد هيئة واحدة، حتى وإن كانت مهنية، لما في ذلك من تهديد لحرية الصحافة، بل تشدد هذه المعايير على أن يكون التأديب ـ متى تعلق بعقوبات جوهرية تمس الحق في النشر والعمل ـ محصورا في يد سلطة قضائية مستقلة، وليس بقرار من هيئة تنظيمية أو تأديبية ذاتية.

4ـ إن مبدأ التناسب بين الخطأ المهني والعقوبة يظل غائبا في المشروع، أو غير على الأصح غير مضمون بآليات واضحة. فلا يعقل أن تواجه مخالفات بسيطة، مثل خرق شكلي في نسب التصريحات أو أخطاء تحريرية غير مقصودة، بعقوبات جسيمة كالإيقاف المؤقت أو التشهير المهني. فالقواعد التأديبية يجب أن تصمم على نحو تدريجي وتربوي، لا زجري صرف، حماية لكرامة الصحافي أولا، ولمبدأ حرية التعبير ثانيا.

لذلك، فإن مقتضيات المشروع في هذا الباب، وإن حملت نوايا إصلاحية على مستوى التنظيم والانضباط المهني، فإنها، في غياب الضمانات القانونية الصارمة، قد تفضي إلى منظومة تأديبية غير متوازنة تهدد حرية الصحافة من داخلها، باسم التنظيم المهني.

خامسا: اللجنة المؤقتة بين سد الفراغ التنظيمي ومخاطر التطبيع مع الاستثناء

ينص المشروع على إمكانية إحداث لجنة مؤقتة لتصريف المهام، في حالة تعذر تجديد هياكل المجلس بعد انتهاء ولايته، على إثر حكم قضائي يثبت ذلك التعذر. ولا شك أن هذا التنصيص يعد تحسنا ملحوظا مقارنة بالقانون السابق، الذي لم يتضمن أي مقتضى يعالج الفراغ المؤسساتي في حالة تعطل الآليات الانتخابية، مما أدى فعليا، خلال الفترة الأخيرة، إلى لجوء استثنائي وغير مؤسس إلى آلية تعيين لجنة مؤقتة، وهو ما أثار نقاشا واسعا حول مدى احترام مبدأ التنظيم الذاتي واستقلالية الهيئة.

غير أن هذا التحسن، رغم أهميته، لا يخلو من إشكالات، لاسيما إذا نظرنا إلى مدى ضبط المشروع لشروط تشكيل اللجنة المؤقتة، وحدود اختصاصاتها، وأجل ولايتها. فالمشروع يحدد مدة اشتغال اللجنة في 120 يوما، قابلة ـ بحسب ما يستشف من النص ـ للتمديد الضمني إن لم يتم احترام الآجال الانتخابية. وهو ما يثير التخوف من أن تتحول هذه الآلية الاستثنائية إلى وضع دائم أو متكرر، يتم اللجوء إليه عند أول تعثر انتخابي، وبالتالي التطبيع مع المؤقت، وتفريغ مبدأ الانتخاب من مضمونه.

كما أن المشروع لا يحدد آجالا إلزامية ودقيقة لإجراء الانتخابات بعد انقضاء مدة اللجنة المؤقتة، ولا يرسي آلية للمراقبة أو الطعن في تمديد عملها، ما يفتح الباب أمام إمكانية إدامة حالة الاستثناء خارج رقابة واضحة أو معايير موضوعية. وكل ما ينص عليه المشروع هو أنه “تنتهي مهام اللجنة الخاصة بمجرد الإعلان عن النتائج النهائية لانتخاب وانتداب ممثلي الصحفيين المهنيين وممثلي الناشرين بالمجلس” (المادة 17)، ولا يعاجل بالتالي الوضعية التي قد يتعذر فيها عدم إجراء هذا الاقتراع أو الانتداب داخل المدة المؤقتة المحددة للجنة.

في التجارب المقارنة، كألمانيا والسويد، حين يلجأ إلى هيئات انتقالية أو لجان مؤقتة في حالات الضرورة، فإن التشريعات تنص صراحة على:

  • تحديد مدة زمنية صارمة وقصيرة لا يمكن تجاوزها إلا بقرار قضائي مبرر.
  • تقييد صلاحيات اللجنة في حدود تصريف الأعمال الجارية دون اتخاذ قرارات استراتيجية.
  • فرض توازن في تركيبتها يضمن حضور الفاعلين المهنيين المنتخبين أو المعبرين عن الجسم الصحافي، إلى جانب ضمان عنصر الحياد والاستقلال.

بمعنى آخر، فإن اللجنة المؤقتة، في التجارب الديمقراطية، تصمم كأداة طوارئ، تقيد بزمن ومهام محددة، ويراعى في تشكيلها ألا تتحول إلى امتداد للسلطة الحكومية أو مركزا لصنع القرار المهني دون شرعية انتخابية.

في الحالة المغربية، ورغم أن المشروع نص في المادة 16 منه على أن تشكيل اللجنة الخاصة يتم بعد صدور مقرر قضائي يقضي بحل الجمعية العامة للمجلس، إما بسبب رفض ثلاثة أرباع أعضائها المنتخبين أو المنتدبين حضور اجتماعاتها، وإما بسبب عدم الشروع في عمليات انتخاب أو انتداب هؤلاء الأعضاء، إلا أن طبيعة اللجنة كما نص عليها المشروع تطرح بعض الإشكاليات على مستوى الشرعية التمثيلية والتوازن المؤسساتي. وهو ما يثير مخاوف من أن يعاد إنتاج تجربة اللجنة المؤقتة، والتي عرفت انتقادات حادة بخصوص افتقارها للمشروعية الديمقراطية، وارتباك في حدود صلاحياتها.

فضلا عن ذلك، فإن منح رئيس الحكومة صلاحية تعيين عضوين من الفئة المهنية (ناشر وصحافي مهني) يطرح إشكالا من حيث مدى تعبير هؤلاء عن الجسم المهني فعليا، لأنهم لم ينتخبوا ولا رشحوا من طرف المؤسسات المهنية أو القواعد الصحافية، بل اختيروا من خارج منطق التفويض المهني، ما يفرغ التمثيلية من مضمونها، ولو مؤقتا. ثم إن الاقتصار على ممثل عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بصفته رئيسا وآخر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مع وجود تعيينين حكوميين، يقلص من حضور المهنيين داخل اللجنة المؤقتة، ويطرح تساؤلات حول قدرتها على اتخاذ قرارات تعكس تطلعات الصحافيين ومصالح المهنة.

صحيح أن اللجنة المحدثة تحمل طابعا مؤقتا، وأنها تأتي في سياق فراغ مؤسساتي ناتج عن انتهاء ولاية المجلس المنتخب، وتعذر تجديد هياكله في الأجل القانوني، إلا أن هذا الطابع الانتقالي لا يبرر تجاوز منطق التمثيلية المهنية الديمقراطية أو ترجيح كفة السلطة التنفيذية في تعيين أعضائها. ففترة الانتقال لا ينبغي أن تستغل كذريعة لتكريس أعطاب دائمة، بل يجب أن تصمم اللجنة المؤقتة بوصفها هيئة محايدة، ذات تمثيلية موزونة، مهمتها الإعداد لانتخابات جديدة بشفافية وتجرد، دون أن تتحول إلى أداة تحكم أو امتداد للسلطة التنفيذية داخل الجسم الصحافي.

وعليه، فإن تثبيت مبدأ اللجنة المؤقتة يجب ألا يفهم كمعالجة دائمة لانسداد الهيئات المنتخبة، بل كحل مؤقت مقيد بقيود قانونية صارمة، تضمن عدم استعماله كغطاء لتجاوز الآليات الديمقراطية، أو كذريعة لتفادي استحقاقات انتخابية لا تكون مواتية لبعض الجهات الفاعلة. فالتنظيم الذاتي، إن لم يؤسس على منطق التمثيلية والانتخاب، سرعان ما يتحول إلى تدبير فوقي مموه يغلف الإدارة بالشرعية المهنية، دون أن يستوفي شروطها.

في هذا الإطار، يمكننا أن نتساءل مثلا لماذا لا يتم النص على استمرار المجلس القائم في مزاولة مهامه خلال المرحلة الانتقالية، في حال تعذر انتخاب مجلس جديد داخل الآجال القانونية، على أن يقتصر دوره على تصريف الأعمال الجارية ولمدة محددة ينص عليها صراحة في القانون؟ شريطة أن يكون هذا التمديد المؤقت مضبوطا زمنيا، مثلا لمدة لا تتجاوز ستة أشهر أو سنة كحد أقصى، تحتسب ابتداء من انقضاء ولاية المجلس دون انتخاب خلف له، وذلك لضمان عدم تحول هذا الوضع الاستثنائي إلى حالة دائمة أو ذريعة لتعليق الانتقال الديمقراطي داخل المجلس.

إن مثل هذا التدبير المستلهم من منطق “حكومة تصريف الأعمال”، يعد أكثر انسجاما مع روح الاستمرارية المؤسساتية وضمان الشرعية الديمقراطية، سيما وأنه على الأقل يمكن من الحفاظ على مجلس منتخب بصلاحيات مؤطرة، بدل اللجوء إلى تشكيل لجنة معينة لا تستند إلى قاعدة انتخابية ولا تعكس توازنات المشهد الإعلامي.

وبالتالي، فبدل أن يؤدي التعثر في تنظيم الانتخابات إلى العودة إلى منطق التعيين أو خلق هياكل انتقالية غير شرعية، يشكل استمرار المجلس المنتخب، ضمن فترة زمنية محددة وبصلاحيات مقيدة، حلا وسطا يحمي انتظام المؤسسات، ويكرس الشرعية التمثيلية دون المساس بمبدأ التداول الديمقراطي.

على سبيل الختم

رغم ما يتضمنه مشروع القانون من تعديلات تنظيمية وتحسينات إجرائية في هيكلة وتدبير المجلس الوطني للصحافة، إلا أن جوهر الإشكال يظل قائما، إذ لا يلامس المشروع الأسئلة البنيوية العميقة التي تهم طبيعة النظام الإعلامي وأفق الإصلاح الديمقراطي، وأبرزها: كيف يمكن ضمان استقلال فعلي للمجلس عن الجهاز الحكومي؟ وكيف يمكن رسم حدود واضحة بين التدخل المشروع لضمان حسن التنظيم، وبين التدخل غير المقبول الذي يفضي إلى التضييق والتحكم في الحقل الإعلامي؟

ما يزال مفهوم “الاستقلالية” في حاجة إلى تدقيق قانوني صريح يوضح الفوارق الدقيقة بين وظائف التأطير العمومي للإعلام وضمان حريته، وبين ما قد يتحول إلى آليات للهيمنة الناعمة أو التوجيه غير المعلن. كما أن المشروع لا يضع ضمانات حقيقية لتحصين المجلس من التسييس أو من اختراقات تضعف مبدأ التنظيم الذاتي وتفرغه من محتواه.

ويبقى غموض وظيفة المجلس، هل هو هيئة مهنية مستقلة تعنى فقط بأخلاقيات المهنة، أم هيئة شبه تنظيمية تزاوج بين الضبط والتأديب، مسألة لم تحسم بشكل نهائي. وهو ما يفتح الباب أمام تداخل الاختصاصات وتنازع الأدوار، خصوصا في ظل استمرار التدخل الإداري والسياسي في بنيات التمثيلية المهنية. ولأن الإصلاح لا يمكن أن يكون مجتزأ، فإن الوضع يقتضي مراجعة شاملة للمنظومة القانونية والإدارية التي تحكم الحقل الإعلامي، بما يشمل: قانون الصحافة والنشر، القانون المنظم لصفة الصحافي المهني، النظام الضريبي الخاص بالمقاولات الإعلامية، وفعالية الحق في الحصول على المعلومات…إلخ.

وبالتالي، فإن مشروع القانون، رغم ما يحمله من مؤشرات على الرغبة في إعادة ضبط الإطار التنظيمي للمجلس الوطني للصحافة، يظل خطوة غير كافية ما لم تواكبها إرادة سياسية حقيقية لإعادة الاعتبار لاستقلالية الصحافة. فالمشكل الأساسي لا يكمن في النصوص فقط، بل في المناخ العام الذي ينتج هذه النصوص، وفي تصور الدولة لوظيفة الإعلام، وفي مدى استعداد الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين لتقبل وجود صحافة مستقلة تؤدي أدوارها في النقد والمساءلة.

فمقاربة الدولة للصحافة ما تزال تتسم بالحذر المفرط، وتبقي على الإعلام كـ”قطاع حساس” يحتاج إلى الرقابة والتأطير أكثر مما يحتاج إلى الحرية والتثمين. وهذا ما يفسر استمرار التدخلات غير المباشرة في تشكيل المجالس المهنية، واعتماد آليات تعيين تفرغ التمثيلية من مضمونها، وتضعف مبدأ التنظيم الذاتي عبر الامتدادات الإدارية والتقنية للسلطة.

ولكي يتحول هذا المشروع إلى لحظة تأسيس حقيقية، لا بد من القطع مع منطق “الترقيع” والانتقال إلى منطق الإصلاح الشامل الذي يقوم على المبادئ التالية:

ـ إعادة بناء العلاقة بين الدولة والإعلام على قاعدة الشراكة بدل الوصاية.

ـ تعزيز الطابع المهني والتعددي للمجلس الوطني للصحافة، وتجنب التمركز أو الإقصاء الرمزي لفئات بعينها.

ـ ربط آليات التأديب بضمانات قضائية ومهنية صلبة، تحمي حرية الصحافي وتصون حقوقه.

ـ تمكين المجلس من آليات للدعم والتكوين والتأطير، بدل التركيز فقط على العقوبات والانضباط.

ـ تحصين مبدأ التنظيم الذاتي من كل توظيف سياسي أو تأويل إداري قد يفرغه من معناه.

في النهاية، فإن بناء إعلام مستقل ومهني لا يتوقف على جودة الصياغة القانونية، بل يتطلب تحولا في الثقافة السياسية والرؤية الاستراتيجية لدور الإعلام في المجتمع. فالسؤال الحقيقي الذي يفترض أن يطرح اليوم هو: هل تنظر الدولة المغربية إلى الصحافة كسلطة شريكة في البناء الديمقراطي، أم كجهاز يجب ضبطه والتحكم فيه أو استعماله للضبط والتحكم؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست نظرية، بل ستكون هي الاختبار الحقيقي لمستقبل حرية الصحافة في المغرب، ولقدرة البلاد على مأسسة الديمقراطية من خلال منظومة إعلامية حرة، مستقلة، ومسؤولة.

أحمد بوز

أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، كلية الحقوق السويسي بالرابط

المصدر: العمق المغربي

شاركها.