قوى خفية يعتقد أنها قادرة على تعطيل مسارات الحياة وتوجيهها في اتجاهات غير مرئية، قصص وحكايات تتوارثها الأجيال تنهل من الثقافة الشعبية المغربية، يتجاوز حضورها حدود الممارسات السحرية ليتحول إلى آلية من آليات الضبط الاجتماعي التي تترجم علاقة المجتمع بالجسد، والرغبة، والسلطة، إنه “التقاف”.
ويبرز “التقاف” كظاهرة سوسيولوجية معقدة، فبين البعد الوقائي الذي يحرس العفة، والبعد الانتقامي الذي يسعى إلى الثأر، يظل “التقاف” مرآة تعكس تداخل الرمزي بالواقعي والخيالي بالاجتماعي في مجتمع تتجاذبه ثنائية التقليد والحداثة.
أنواع متعددة
أوضح محمد شرايمي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، أن “التقاف” تعبير عن توقف شيء ما أو تعطيل دينامية معينة، معتبرا إياه ظاهرة سوسيولوجية في صور متعددة تعكس امتداده إلى مختلف مجالات الحياة الفردية والاجتماعية.
وأضاف الأكاديمي المغربي ذاته أن من أبرز تجليات هذه الظاهرة ما يعرف بـ”تقاف الإنجاب” أي تعطيل القدرة على الإنجاب ومنع تحقق الخصوبة الطبيعية؛ كما قد يظهر في شكل آخر يسمى “تقاف الدراسة”، ويرتبط بما ما يتم تداوله شعبيا حول فشل التلميذ أو الطالب في مساره الدراسي نتيجة تأثير خارجي غير مرئي.
أما “تقاف العمل”، يورد شرايمي، فيتجلى من خلال العجز عن الحصول على وظيفة أو تحقيق استقرار مهني رغم توفر الكفاءات والمؤهلات، وزاد: “كما قد يتمثل ‘التقاف الجنسي’ أو ما يُعرف بـ’تقاف ليلة الدخلة’ في عجز الرجل عن إتمام العلاقة الجنسية أو في تحول جسد المرأة إلى حاجز يحول دون الاختراق”.
وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس، أن الشكل الأخير يعد الأكثر انتشارا، ويعتبر ظاهرة سوسيولوجية متجذرة في بعض المجتمعات التقليدية، وخاصة في المغرب، حيث تتداخل المعتقدات الشعبية بالممارسات السحرية لتشكل، إلى جانب الخبرة الاجتماعية، أنماطا خاصة من آليات الضبط الاجتماعي، مردفا بأن هذه الأخيرة تُستثمر في توجيه السلوك الفردي والجماعي وضبطه وفق معايير غير رسمية، يُفهم منه التوقف القسري عن ممارسة العلاقات الجنسية، سواء عند الذكور أو الإناث، بفعل تدخل خارجي.
وشدد أستاذ علم الاجتماع على أنه من خلال الأمر ذاته تنكشف البنية الثقافية والاجتماعية التي تتعامل مع الجسد والجنسانية ضمن إطار قيمي محافظ تسوده هواجس المراقبة والسيطرة، مشيرا إلى أن “التقاف” يُفهم كسلوك اجتماعيرمزي يربط بين الذكر والأنثى بطريقة تعطل طاقتهما الجنسية وتشل فاعليتهما، بحيث يتحول الجسد إلى مجال للتدخل الطقوسي الذي يفرغ الرغبة من ديناميتها الطبيعية.
وأضاف المتحدث ذاته أن تأثير الأمر يتجاوز التعطيل البيولوجي ليصل إلى فعل رمزي يمس “الروح الجنسية” باعتبارها تعبيرا عن الطاقة الحيوية للإنسان؛ ومن هذا المنطلق يصبح “التقاف” وسيلة لتقييد حرية الجسد وإخضاعه لمنطق الأعراف والقيم التي تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع في الممارسة الجنسية.
بين الوقاية والانتقام
أوضح شرايمي أن “التقاف” يحمل وجهين متمايزين، الأول وقائي: يخص الفتاة، حيث تتدخل الأم أو إحدى القريبات لإخضاعها لهذه الممارسة حفاظا على عذريتها إلى حين الزواج، مع الإبقاء على الحل، مثل “خيط النيرة”، مبرزا أن الجسد الأنثوي يتحول هنا إلى موضوع للرقابة الأسرية، تُمارس عليه إجراءات رمزية لتعطيل الرغبة مؤقتاً. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار “التقاف” بديلا رمزيا عن ختان الإناث في بعض المجتمعات، إذ يؤدي الوظيفة نفسها المتمثلة في كبح الرغبة وضبط الجسد، لكن عبر وصفة معدة مسبقا بدل الممارسة الجسدية الجراحية.
أما الوجه الثاني، يضيف شرايمي، فيتسم في الطابع الانتقامي ويرتبط باستهداف الرجل بشكل مباشر عن طريق شل قدرته الجنسية، مع محاولة إخفاء الحل عبر “الدفن أو إقفال العملية بقفل وإتلافه مع مفاتيحه مثلا”؛ وغالبا ما تلجأ إليه امرأة تعرضت للخيانة أو للتهميش بعد وعد بالزواج، فتستعمل هذه الممارسة كسلاح اجتماعي يضرب في عمق الرجولة والسلطة الذكورية؛ وهنا يظهر “التقاف” كآلية للانتقام وإعادة التوازن الرمزي بين الجنسين في سياق غير متكافئ.
وذكر أستاذ التعليم العالي أن “التقاف” ينتشر في فضاءات اجتماعية تقليدية، حيث يلتقي الذكور والإناث في أنشطة يومية، مثل جلب الماء أو الرعي أو جمع الحطب؛ وهي فضاءات يُنظر إليها كمناطق محفوفة بالخطر الأخلاقي، حيث يصبح “التقاف” جزءا من منظومة أوسع للضبط الاجتماعي تهدف إلى حماية الأعراف وضمان استمراريتها.
وأضاف شرايمي أن “التقاف” يعكس من منظور سوسيولوجي صراعا بين منطق الحداثة الذي يربط الجسد بالحرية الفردية ومنطق التقليد الذي يخضعه للرقابة الجماعية، موضحا أن هذه الظاهرة تكشف عن هشاشة الأطر القانونية والمؤسساتية في معالجة قضايا الجنسانية، ما يترك المجال مفتوحا أمام وصفات ذات تأثيرات غير عضوية لتؤدي دورا بديلا في التحكم في الجسد.
قوى غيبية
الدكتور كمال الزمراوي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة القاضي عياض بمراكش، قال إن ظاهرة “التقاف” متجذرة في المخيال الاجتماعي المشترك لدى فئات عريضة بالمغرب، أو كما يصفه سيرج موسكوفيتشي بأنه تمثل اجتماعي وصورة ذهنية ورمزية مشتركة تعمل على توجيه رؤيتنا للوقائع ومنح إطار لتفسير وفهم الأحداث.
وأضاف الزمراوي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذه الأحداث غالبا ما يستعمل فيها “التقاف” كوسيلة سحرية لتعطيل الزواج أو العلاقات العاطفية والجنسية أو حتى الرزق والعمل، ما يؤكد أنه واحد من المعتقدات الشعبية التي تشكل جزءا من اللاشعور الجمعي، الذي يعزى من منظور من يؤمن به إلى وجود قوى غيبية غير مرئية يمكنها أن تحقق بعض أو كل المرامي.
وأوضح المتحدث أن علم النفس الاجتماعي يعمل على فهم الظاهرة في إطار ما تسمى التمثلات الاجتماعية والميكانيزمات والسيرورات النفسية الاجتماعية، على اعتبار أن ظاهرة “التقاف” يستحيل ضبطها وتفسيرها موضوعيا وعلميا، مشددا على أنها آلية نفسية جماعية يلجأ إليها الأفراد لتبرير العديد من الإخفاقات، ولاسيما تلك التي ترتبط بمجالات ذات حساسية وأهمية من قبيل تأخر الزواج وعسر أو فشل العلاقات الجنسية بين الأزواج وعدم الإنجاب والفشل في إيجاد فرصة عمل.
وشدد الأكاديمي عينه على أن هذا التبرير يعمل شعوريا ولا شعوريا على التخفيف من حالات القلق النفسي وتفكك صورة الذات، وكذا حدة الضغط الاجتماعي الناجمة عن تلك الإخفاقات لدى الأفراد ذكورا أو إناثا.
وأكد المصدر ذاته أنه يمكن فهم “التقاف” من منظور علم النفس الاجتماعي كآلية رمزية تمنح الأفراد معرفة اجتماعية تنطوي على تفسيرات جاهزة لواقع يتسم بكثير من التعقيد، وتوفر لهم شعورا بالسيطرة في مواجهة المجهول، موردا أن تحليل هذه الظاهرة يساهم في كشف عمق وقوة المعتقدات الشعبية ودورها في بناء وتشكيل السلوك الاجتماعي والتحكم فيه، ما يستدعي بالضرورة تعزيز مكانة التربية النفسية والاجتماعية كمدخل لتحرير الفرد من التفسيرات الغيبية للمعاناة الإنسانية.
المصدر: هسبريس