بويخف يكتب: “التعدد الحكومي” يضعف مؤسستي إمارة المومنين والمجلس العلمي الأعلى
مسألة تعدد الزوجات وما أُعلن بشأنها في التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة من القضايا التي أثارت الكثير من الجدل، وكانت موضوع صناعة “الهزل الأسود” والتنمر وكل أشكال صناعة التفاهة والاثارة المجانية، وأيضا صناعة الفتوى وإطلاق الأحكام… لكن الأغرب الصادم من كل هذا هو ما اقترفته الحكومة في حق الدستور ومؤسستي إمارة المومنين والمجلس العلمي الأعلى من تجاهل وتجاوز.
في التقدير، موضوعيا لا يشكل تعدد الزوجات في الواقع المجتمعي بالمغرب قضية تحتاج لأي تشريع جديد يضيقه أكثر مما تضمنته المدونة الحالية نفسها. ذلك أن التعدد لا يمثل سوى 0.66 في المائة من أدونات الزواج التي تصدرها محاكم المملكة، كما أكد ذلك تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية لسنة 2023. وهي نسبة ضعيفة جدا لا تبرر تحويل التعدد، في مجتمع عازف عنه عمليا، إلى قضية خلاف مجتمعي، علما أن 80 بالمائة من المغاربة يؤيدون التعدد، كما أكدت دراسة أعدها “مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون” في نفس السنة.
فمن منظور مجتمعي لا يطرح التعدد مشاكل أكثر مما يطرحها الزواج نفسه بشكل عام، لكن الذين يعتبرونه مشكلة فهم ينظرون إليه ليس من منظور مجتمعي بل من منظور الاتفاقيات الدولية والقيم الغربية، لذلك فهم لن يغمض لهم جفن حتى توضع على صدورهم نياشين الإعلان عن أن التعدد في المغرب أصبح ممنوعا.
لكن الصادم في ورش تعديل مدونة الأسرة، والذي من شأنه إضعاف الثقة في المؤسسات المركزية في الورش، هو ما أقدمت عليه الحكومة من تجاهل واضح لفتوى العلماء.
ونقول الحكومة وليس “الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة” على اعتبار أن دور هذه الأخيرة قد انتهى بعد رفع مقترحاتها إلى الملك محمد السادس بصفته أمير المومنين. فبعد الاجتماع الذي ترأسه الملك لمدارسة حصيلة التعديلات، تعتبر الحكومة المسؤولة دستوريا على مواصلة ورش تعديل المدونة.
ففي مسألة التعدد شدد المجلس العلمي الأعلى، كما نقل عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ذلك، على أنها “مسألة لا يمكن تجاوز رأي لجنة الفتوى فيها إلا بقرار من ولي الأمر باعتبار المصلحة”.
وأكد المجلس في إجابته عن مسألة “إدراج شرط موافقة الزوجة الأولى في التعدد” برأيين الأول: “لا يستجيب المجلس لمشروعية إدراج شرط موافقة الزوجة الأولى في التعدد”. والثاني: “يمكن لولي الأمر أن يقرر إدراج شرط موافقة الزوجة الأولى في التعدد”.
وهو ما يؤكد أن الأصل في الفتوى الشرعية هو عدم إدراج شرط موافقة الزوجة الأولى في التعدد، والاستثناء هو أن لجنة الإفتاء فوضت لولي الأمر، الذي هو الملك أمير المومنين وليس وزير العدل ولا الحكومة، إدراج ذلك الشرط من عدمه.
ورغم ذلك أصرت الحكومة على مخالفة فتوى المجلس العلمي وتجاوز مؤسسة إمارة المومنين وأعلنت عن تعديل ينص على “إجبارية استطلاع رأي الزوجة أثناء توثيق عقد الزواج، حول اشتراطها عدم التزوج عليها، من عدمه، والتنصيص على ذلك في عقد الزواج. وفي حال اشتراط عدم الزواج عليها، فلا يحق للزوج التعدد وفاء منه بالشرط”.
وفي مسألة الترجيح بين رأيي لجنة الفتوى فوض المجلس العلمي الأعلى بشكل حصري ذلك لأمير المومنين باعتبار المصلحة، وأوضح أن “أمير المومنين لم يستعمل هذا التفويض، مما يفيد أنه يضع ثقته في العلماء ويحملهم مسؤولياتهم”. والنتيجة هي أن عدم إدراج شرط استطلاع الزوجة حول التعدد خلال توثيق الزواج هو فتوى المجلس العلمي الأعلى.
إن إصرار الحكومة على تجاوز فتوى المجلس العلمي الأعلى والسطو على التفويض الذي أعطاه حصريا لأمير المومنين يضعنا أمام أمرين خطيرين. يتعلق الأمر الأول بالسطو البين على اختصاصات مؤسسة إمارة المومنين واختصاصات المجلس العلمي الأعلى. والثاني يتعلق بمخالف صريحة للدستور.
فالفصل 41 من الدستور يؤكد أن المجلس العلمي الأعلى هو ” الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة”. والحال أن فتوى المجلس التي طلبها أمير المومنين تجاهلتها الحكومة بتجرؤ غير مسبوق، وصادرت التفويض الحصري الذي أعطاه المجلس لأمير المومنين في الإبقاء على شرط يخالف فتواه دون الرجوع إليه.
الذي لا ينتبه إليه المشرعون الجدد هو أن فتوى المجلس العلمي الأعلى كانت بطلب من أمير المومنين وفق الفصل 41 من الدستور، وأن تلك الفتوى تم الإعلان عنها للعموم، وبالتالي فقد أصبحت وفق الدستور القرار الرسمي للدولة ولدى الرأي العام الرأي الشرعي الذي ينبغي على الدولة الالتزام به، وخلاف هذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو لا مصداقية المؤسسات الدستورية.
إن سلوك الحكومة يضع مصداقية الدستور والمؤسسات الدستورية والرأي العام الوطني على محك التجرؤ وسياسة الأمر الواقع.
إن الشرط الأساسي الذي ما فتئ أمير المومنين يؤكد عليه واعتبره قاعدة ثابتة في ضبط عملية التشريع في مدونة الأسرة، ويردده أعضاء الحكومة بشكل آلي، هو شرط “لا أحل حراما ولا أحرم حلالا”.
ومن المفارقات أن وزير العدل في كلمته خلال الندوة الصحفية لإعلان حصيلة التعديلات المقترحة أبلغ الحاضرين “تثمين جلالة الملك للرأي الشرعي الاجتهادي للمجلس العلمي الأعلى، ودور الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء في بلورته، في ظل الضابط الذي ما فتئ جلالته يؤكد عليه بأن أمير المؤمنين لا يحل حراما ولا يحرم حلالا”.
وفي ظل هذا الإصرار الحكومي على مخالفة رأي لجنة الفتوى في المجلس العلمي الأعلى، أين سنضع تلك الفتوى من ذلك “الضابط”؟ وأين سنضع ذلك الإصرار الحكومي؟ ألا تعني الفتوى تعزيز تلك القاعدة/ الضابط، ومخالفة الفتوى مخالفة لتلك القاعدة؟ إن الحكومة، بإصرارها السافر على تمرير التعديل المرفوض بالفتوى، قد خرقت تلك القاعدة و”بالعلالي”؟
إن الحكومة تعلم علم اليقين أن المجلس العلمي الأعلى لا يملك سلطة التدخل المباشر في سيرورة عملية التشريع بعد أن أنهى مهمته بإصدار رأيه في القضايا المحالة عليه وفق افصل 41 من الدستور، لذلك فهي، بذل احترام الدستور واختصاصات المؤسسات الدستورية، تمارس سياسة الأمر الواقع بفرض توجه يخالف الدستور ويمس بهيبة ومصداقية مؤسستين حيويتين في النظام السياسي المغربي، وهما مؤسسة أمير المومنين ومؤسسة المجلس العلمي الأعلى.
إن قاعدة “لا أحل حراما ولا أحرم حلالا” هي أكثر شيء يعزز ثقة المغاربة المتشبثين بدينهم في المؤسسات الدستورية حين تباشر التشريع في مدونة الأسرة بشكل خاص، وها نحن أمام ممارسة حكومية من شأنها أن تنسف هذه الثقة التي تعتبر الرصيد الحيوي الذي يستند عليه الأمن الروحي للمغاربة واستقرارهم المجتمعي.
المصدر: العمق المغربي