في قلب الحرب الدونكيشوتية التي تخوضها الجزائر ضد قلمٍ لا يخشى الحقيقة، بات بوعلام صنصال، الروائي الجزائري الفرنسي، نموذجاً صارخاً لثنائية المعاناة الحقوقية التي تعرفها الجزائر، والانتقائية التي تعيشها المنظمات الحقوقية. فصنصال حينما وطئت قدماه أرض الجزائر في 16 نوفمبر 2024، لم يكن يستعد لاعتقال روتينيّ، بل لدخولٍ إلى عالم من الصمت المطلق حيث حرم من التواصل مع محاميه وعائلته، وظلّ لأسابيع في الحبس الانفرادي الذي يُرغمك على التساؤل: هل الحقيقة تستحق هذا القمع؟

العالم كان شاهداً على مشهد محاكمةٍ سياسية تحمل أبعاداً جيوسياسية، لا قانونية بحتة، حين نطق القضاء الجزائري بحكمٍ بالسجن خمس سنوات وغرامة مالية ، متذرّعاً بتهم تهم “زعزعة الوحدة الوطنية” و”الإضرار بالاقتصاد”، جاء ذلك بعد أن اقتحم صنصال في حواره مع وسائل إعلام فرنسية جدار “المحرّمات”، متحدّثاً عن ترسيم حدود غربية كانت تاريخياً جزءاً من المغرب قبل الاستعمار الفرنسي.

وفي 1 يوليو 2025، أكّدته محكمة الاستئناف الحكم الجائر وغير المفهوم، رغم المناشدات الإنسانية الرسمية من بارس، ومخاوف الرئيس ماكرون الذي وصف اعتقاله بـ“الاعتقال التعسفي” وارتباطه بوضعه الصحي الخطير.

إن ما يُثير الانتباه ليس مجرد الإعدام الرمزي للحرية، بل الجمود الحقوقي العالمي أمام معاناة رجل في الثمانين من عمره، مصاب بسرطان، محجور في جناح “طبي/سجنيي” خاضع لمعاملة كما لو كان إرهابياً، فرغم الدعوات التي تطلق هنا وهناك، من البرلمان الأوروبي، ومن حراك فرنسي رسمي. إلا أن المنظمات الكبرى والنشطاء الحقوقيين لم يرفعوا سقف المطالب، كأن القضية لا تلامس مصالحهم الاستراتيجية أو الجغرافية.
وهنا يأتي بريق الانتقائية، اذ في حالة المغرب، ورغم مشاركته في محافل الأمم المتحدة الحقوقية، يحظى برقابة فورية لأبسط الممارسات والتي في جلها ذات طابع قانوني صرف، من تضييق على الصحافة إلى قمع نشطاء مدنيين، فتشهره المنظمات الدولية، ويعلو صوت البرلمان الأوروبي والغرب مطالبا “الاصلاح”. أما الجزائر، التي تعيش عزلة سياسية مزدوجةمقاطعة علاقات مع المغرب وانتقاد مواقفها الدوليةفلا تُعاقب عبر منهج حقوقي، ولا تُساءَل برجاحة قضائية، بل يُغضّ البصر عنها حين تُغلق فم قلم يريد قول الحقيقة.

هذه المعادلة تكشف ضوءاً قاتماً على روح الحقوق المشروطة؛ فحين تُعارض مواقفها الجغرافيا السياسية أو تُنحاز لها، تتحوّل القضايا الحقوقية إلى أوراق مساومة. ففي قلب هذا الواقع، نجد صنصال محفوفاً بصفته الفكرية في لعبة كبرى، اذا كتب عن الطابوهات و عن الحدود، فبات ورقة ضغط تُلوح بها الجزائر كمساس ل “وحدتها”. وهنا يكمن الإشكال، إذ ليس أخطر من أن تُسجن فكرة، أو أن يُسجَّل فاعل ضمير في ثمانين من عمره على أنّه تهديد للوحدة الوطنية، بينما تُغضّى النظر عن التنديدات الدولية معه، تماماً كما تعطَّل آلة الضغط عندما تكون الدولة محمية من الريادة الحقوقية، بينما تُصدَر التصريحات “الشاجبة” بلا أن تلتزم بتنفيذ واقعي.

الذين يرفعون شعار “المساواة أمام القانون” ويجعلونه درعًا يُدافعون به عن ممارسات الدول، يتغافلون عن وعي أو غفلة عن حقيقة مرة: القانون ليس نصًا جامدًا، بل ممارسة ترتبط بمن يمتلك القوة لفرض تأويله، أو القدرة على إسكاته. فحين تُفصّل القوانين على مقاس الأنظمة لا على مقاس العدالة، يتحول الادعاء بالموضوعية إلى قناع زائف يُشرعن القمع ويواري الاستبداد بعبارات كاذبة عن “الأمن القومي” و”المصلحة العليا للوطن”. وما بوعلام صنصال إلا شاهد حيّ على هذه الخديعة المعمّمة، حيث الكلمة الحرة أصبحت جريمة، والرأي المستقلّ عُدَّ تهديدًا، والتاريخ نفسه أُدخل قفص الاتهام.

الحق لا يُقاس بالبُعد الجغرافي ولا بمزاج الأنظمة، بل يُقاس بمدى الاعتراف به وتوفيره كضمانة يومية للمواطن، أيًّا كانت آراؤه أو انتماءاته. لكن في عالم تحكمه موازين السياسة والاصطفاف، لا يكون الصمت علامة حياد، بل مشاركة ضمنية في الظلم. حرية التعبير، في هذا السياق، تصبح رهنًا بصدى الأصوات القوية. فإن علا صوت مثقف فرنسي الجنسية في باريس، ارتجفت المنصات الحقوقية. وإن صرخ مثقف جزائري في الجزائر، اختفى صوته في جدران الزنزانات ولم يجد من يُنصت إلا بعد أن يكون قد تهالك جسده وصوته وأمله.

صنصال لم يُسجن لأنه حمل سلاحًا، أو حرّض على عنف، بل لأنه اختار أن لا يصمت. كتب عن حدود تُناقش في التاريخ والخرائط، فحوّلها النظام إلى خطوط حمراء من نار. والذين يدّعون أن القانون حكمه، يتناسون أن هذا القانون ذاته أُفرغ من معناه عندما لم يُفعَّل على مسؤولين فاسدين أو على خطابات تحريضية تملأ القنوات الرسمية. لم يبقَ من هذا القانون سوى سوطه المسلط على من لا سند لهم سوى الكلمة. وما أقسى أن تُدان على فكرة لا لأنها خطأ، بل لأنها صادفت هوى سلطة تخشى أن تُكسر روايتها الرسمية.

حين تُترك حرية التعبير بلا حماية، ولا تجد من يدافع عنها سوى أقلام قليلة ومنظمات تصرخ من بعيد بلا قدرة على التأثير، فإنها تفقد بريقها وتتحول إلى خيال مؤجل، إلى حُلم يتنفس تحت أنقاض السجون ويُدفن تحت ركام البلاغات الباردة. وهكذا تصبح الحرية، كما عاشها صنصال، شبحًا يطارد دولة تُعلن التزامها بالقانون، بينما ترتكب باسم القانون أكبر خياناته. تصبح الكتابة فعل مقاومة، لا من أجل التغيير فحسب، بل من أجل النجاة من النسيان.

خاتمة القول، لا مشكلة في ممارسة المغرب للقانون الوطني والدولي طالما خاضع لمراقبة حقيقة خصوصا على المستوى الداخلي، بينما الخطير في الممارسة الجزائرية، حين تُوظف باسم “الوطن” وسجنه مصابًا بالسرطان. في عالم الحقوق والمعايير، لا قيمة لما هو مكتوب في القانون إن لم يكن واقفًا على شفع محاسبة حقيقية ودعم عالمي حقيقي. وفاة الضمير ليست حين يسجن صنصال، بل حين نصمت عليه.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.