بوصوف يقارب النظام العالمي الجديد بين “نهايات التاريخ والتطور الأيديولوجي”
قال الخبير في العلوم الإنسانية عبد الله بوصوف إن “الرئيس الفرنسي يمتلك شرعية تمثيل الشعب عن طريق انتخابات مباشرة، وكذلك نواب مجلس البرلمان يمتلكون الشرعية نفسها، لكن البرلمان والنقابات والجمعيات تمكنت من إخراج الشعب ذاته إلى الشارع في احتجاجات عارمة ضد القانون. بالمقابل لم يحرك الرئيس الفرنسي الشعب نفسه لمناصرة قانون التقاعد، مما أدخل الديمقراطية التمثيلية في مأزق أو في أزمة”.
وبعدما سلط الضوء على عدد من القضايا الدولية، أشار بوصوف، في مقال له بعنوان “النظام العالمي الجديد بين جدلية نهايات التاريخ والتطور الأيديولوجي”، إلى أن “ما يعيشه العالم اليوم من تسارع للأحداث بوتيرة رهيبة هو فقط حلقة جديدة من التدافع الفكري والفلسفي والسياسي والاقتصادي”، مضيفا أن “تسارع الأحداث حول حرب أوكرانيا ومآلاتها بين الاستمرار المدمر ومحاولات السلام الصعب سيعجل بميلاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب”.
هذا نص المقال:
أعتقد أن ما يعيشه العالم اليوم من تسارع للأحداث بوتيرة رهيبة، ومن ترتيبات لنظام عالمي جديد لما بعد أزمة “كوفيد 19″، واندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022، وأزمات الطاقة والحبوب والكهرباء ومطالب الانتقال البيئي والرقمي وغيرها.. هو فقط حلقة جديدة من التدافع الفكري والفلسفي والسياسي والاقتصادي وليس نهاية التاريخ والإنسان الأخير كما جاء به الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما سنة 1992، عقب سقوط حائط برلين سنة 1989، وانهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 وما تبعه من تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري.
فـالـزخم السياسي الكبير، الذي عرفـه العالــم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في عهد ميخائيل غورباتشوف، ورفعه مشروع “البيريسترويكا” أو إعادة الهيكلة، الذي أنهى الحرب الباردة وسمح بتوحيد ألمانيا، هو الذي جعل فوكوياما وغيره يقولون إن الديمقراطية الليبرالية وما تحمله من مفاهيم عن الحركات الفردية والليبرالية والعولمة… هي آخـر شكل للتطور الأيديولوجي للإنسان. لكن سرعان ما انهالت عليه العديد من الانتقادات والقراءات، التي أبانت عن قصور شعار “نهاية التاريخ”، حيث إنه في ظل النظام الليبرالي نفسه، وتحت قيادة القطب الوحيد للولايات المتحدة الأمريكية، تعرض العالم لهزات خطيرة كحرب البوسنة والهيرسك (1992 1995)، والحادث الإرهابي للحادي عشر من شتنبر بنيويورك سنة 2001، والأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008، والانقلابات بأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وحربي الخليج الأولى والثانية، وتداعيات الربيع العربي لسنة 2011 من هجرات جماعية نحو أوروبا وصلت ذروتها سنة 2015، وهي السنة التي عرفت ضربات إرهابية بفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا وغيرها… مهدت الطريق لأفكار أحزاب اليمين المتطرف لتصبح بديلا للأحزاب الكلاسيكية بدول الغرب، وتُجْـهِـز على مكتسبات المهاجرين بدول الغرب الديموقراطي، وتُـروِج لشعارات الكراهية والخوف، خاصةً من المهاجرين المسلمين…
فكل هذه الأحداث، رغم سوادها وضحاياها ومآسيها أو منجزاتها ومكتسباتها، تدخل في إطار التدافع وحتى لا نقول الصراع الفكـري والعقائدي والأيديولوجي، بدليل عجز الديمقراطية الليبرالية اليوم عن فك شفـرة الديمقراطية التمثيلية، وهو ما تعيشه فرنسا اليوم على خلفية أزمة قانون إصلاح التقاعد ولجـوء حكومة بورن إلى المادة 49.3، وعدم عرض القانون على البرلمان. فالرئيس الفرنسي يمتلك شرعية تمثيل الشعب عن طريق انتخابات مباشرة، وكذلك نواب مجلس البرلمان يمتلكون الشرعية نفسها. لكن البرلمان والنقابات والجمعيات تمكنت من إخراج الشعب ذاته إلى الشارع في احتجاجات عارمة ضد القانون. بالمقابل لم يحرك الرئيس الفرنسي الشعب نفسه لمناصرة قانون التقاعد، مما أدخل الديمقراطية التمثيلية في مأزق أو في أزمة، كما وصفها العديد من المتتبعين، سواء في فرنسا أو البرازيل، مع عودة اليساري لــولا وعدم تقبل أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو نتائج الانتخابات، أو حادث “الهجوم على الكابتول” بواشنطن الأمريكية.
والتدافع نفسه هو الذي خلق حركة عدم الانحياز ببلغراد (يوغوسلافيا) سنة 1961 كنتيجة لأعمال المؤتمر الآسيوي ـ الإفريقي بباندونغ (إندونيسيا) في أبريل من سنة 1955، للدفاع عن استقلال أعضائها وسيادتها، بعيدا عن حلفيْ وارسو والناتو العسكرييْـن، وهي الحركة التي سيخِـفّ صوتها متأثـرا بنتائج نهاية الحرب الباردة وبسيطرة القطب الأمريكي على معادلات التطور الاقتصادي والتفوق العسكري. كما نعتقد أن النسق السياسي/ الاقتصادي نفسه خلق فضاءات متنوعة للنقاش السياسي أو الاقتصادي أو المالي أو العسكري كمجموعة “جـي 7” أو “جـي 20” ومنتدى دافوس الاقتصادي ومؤتمر ميونيخ للأمن والمنتدى الاجتماعي العالمي.
لكـننا نحـاول نقـاش ترتيبات النظام العالمي الجديد لما بعد جائحة “كوفيد 19” من زاوية التدافع والتحالفات الكـبرى، لكن ليس باختزالها فقط في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، مع التأكيد على أن هذه الحرب ستغير لا محالة ترتيبات وأولويات النظام العالمي المقبل. كما نحاول تحديد مساحات مشتركة بين أسباب خلق حركة عدم الانحياز (رغم الخلفية اليسارية لأغلب مؤسسيها) من جهة، وخلق تحالف دول “البريكس” من جهة ثانية، وهل سيعوض تحالف “البريكس” الجديد حركة عدم الانحياز؟ وهل الانضمام إلى “البريكس” يعني الانسحاب الأوتوماتيكي من عدم الانحياز؟..
ولعـل ما يدفعنا إلى هذا الاتجاه هـو الاعتقاد بتشابه البيئة الحاضنة لخلق كل من الحركة والتحالف، وهو مواجهة الغرب بكل تجلياته الديمقراطية والاقتصادية والعسكرية والمالية. فحركة عدم الانحياز خُـلِقت أولا بإندونيسيا (آسـيا) في 1955، ثـم الإعلان الرسمي عنها في المعسكر الشرقي بيوغوسلافيا في 1962 إبان نيل العديد من البلدان الإفريقية والآسيوية استقلالها. لكن لا يمكننا تصـديـق أن كل أعضائها الـ120 بـلـدا كانوا في الواقع غير منحازين سواء إلى التيار الشرقي/ الاشتراكي أو التيار الغربي/ الليبرالي، في حين أن منطق الأشياء يقول بانحيازهم إلى المعسكر الشرقي لأنه لم يكن هو المُسـتعمـر للدول الأعضاء. لذلك فقـدت الحركة قوتـها منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي سنة 2009 أُعـلِـن من مدينة بيكين الصينية (آسـيا) عن تأسيس حلف “البريكس”، المكون من خمس دول هي الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهنـد، وهو تحالف يضم أكثر من 40 بالمائة من سكان العالم، ويشكل سوقا استهلاكيًا كبيرا، مع توفره على مصادر الطاقة واليـد العاملـة والتكنولوجيا، وتوفر عضوين فيه على العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي، وهو ما يعني توفرهما على “حق الفيتو”. كما يتوفـر التحالف على “بنك للتنمية”.. وهي كلها عناصر جذب لانضمام دول جديدة إلى التحالف كإيران والجزائر وكزاخستان وفنزويلا. وهنا نلاحظ أن توقيت تأسيس “البريكس” كان بعد انهيار النظام المالي الغربي والأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008، وأن الفاعل الرئيسي، أي الصين، لم يكن ينتمي إلى تحالف وارسو ولا إلى الناتو، بل قَـبِل بـلقب المارد التجاري، خاصة توغلـه التجاري في إفريقيا وإحـياءه طريق الحرير بين آسيا وأوروبا وإفريقيا.
في المقابل فإن العضو الآخر، أي روسيا، يُـعد من رواد صناعة الأسلحة بكل أنواعها، وأصبح منافسا لدول الغرب ودول الخليج في السوق الإفريقية، بل تدخل عسكريا في أزمة سوريا، ونشـر سفنه في البحر المتوسط وقاعدة عسكرية بحرية بالقادسية وأخرى بالجزائر في القادم من الشهور.
وإذا كانت حركة عدم الانحياز قـد أفـل نجمها بعد انهيار المعسكر الشرقي سنة 1991، فإن تحالف “البريكس” استفاد من كل أزمات المعسكر الغربي في أفغانستان وسوريا ولبنان وليبيا واليمن وجنوب إفريقيا الساحل. فقد لوحظ امتناع 35 دولة إفريقية عن التصويت ضد قرار أممي يدين تدخل روسيا في أوكرانيا عسكريًا في فبراير 2022، ولوحظ امتناع دول “الأوبك” عن رفع إنتاج البترول والغاز لتعويض الغاز الروسي. كما لوحظ تواجد مليشيات “فاغنـر” الروسية في سوريا وليبيا ودول الساحل جنوب الصحراء، واكتشِفتْ درونات إيرانيـة سلمت إلى روسيا في الحرب الأوكرانية، وأخرى سلمت إلى الجزائر لتسليمها إلى انفصاليي البوليساريو بتندوف في تهديد لزعزعة استقرار المنطقة بالكامل.
وفي الوقت الذي احتفلت دول الناتو بانضمام دولة فنلندا الحدودية مع روسيا يوم 4 أبريل 2023، في انتظار انضمام السويد، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدا لأمنها القومي، فإن الصين التي تقدمت بمبادرة سلام لإنهاء الحرب الأوكرانية ثم خطة بديلـة للأمن العالمي، ستفاجئ العالم بإعلان مصالحة إيرانية/ سعودية بوسَاطـة صينية، وبعودة العلاقات الثنائية وتبادل السفارات، وهو ما كشف عن الوجه الآخر للصين من وصفها بالمارد التجاري إلى الفاعل الديبلوماسي الكبير في العلاقات الدولية، وصولا إلى المارد العسكري من خلال إعلان عن نوايا تزويـد روسيـا بالسلاح فـي حربـها ضد أوكرانيا، وتوقيع شراكات غير محدودة مع بوتين. وتكفي دلالات زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لموسكو يوم 22 مارس الماضي، وتصريحاته حول دور موسكو وبيكين في قيـام النظام العالمي القادم.
أكثر من هذا فقد وصفت منابر غربية العاصمة الصينية بيكين بكونها أصبحت ملتقى الطرق، ومزارا سياسيا واقتصاديا. فبعد زيارة سانشيز الإسباني جاء دور الرئيس الفرنسي ماكرون رفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين يوم 6 أبريل الجاري. وعرف اليوم نفسه اجتماع وزيريْ خارجية السعودية وإيران ببيكين. كما تنتظر بيكين زيارة المستشار الألماني أولاف شولـز، حسب بعض المنابـر الإعلامية.
إن تسارع الأحداث حول حرب أوكرانيا ومآلاتهـا بين الاستمرار المدمر ومحاولات السلام الصعب سيعجل بمـيلاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وبفاعل جديد، أي الصين، طرح تصوره في ميادين الاقتصاد والسياسة والسلام الدولي، وهو ما يـدعـو الدول الإفريقية ودول الجامعة العربية إلى الرفع من قـوتـها التفاوضية في مواجهة تلك الأقطاب الاقتصادية والعسكرية، وتحديد أهدافها وتحالفاتها الاستراتيجية، التي تتماشى مع رصيدها التاريخي ومواردها الطاقية والمعدنية وعنصرها البشري، بعيدا عن أجندات تدميرية بالوكالة أو لقاءات مجاملة تحت شعارات عـدم الانحياز، تستغلها بعض الدول لشراء ولاءات تهـدد السلم وسيادة واستقـرار المنطقة لأن النظام العالمي المقبل لا يعني نهاية التاريخ، بل هو شكل جديد للتطور الأيديولوجي لمفاهيم الديمقراطية والحريات والنظم الاقتصادية والعولمة.
المصدر: هسبريس