اخبار المغرب

بوتشيش يرصد تدبير الدولة لاختلاف الإسلاميين والحداثيين حول مدونة الأسرة

سلط إبراهيم القادري بوتشيش، أستاذ فخري بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، الضوء على ردود الفعل التي تناسلت مع قرب إفصاح الهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة عن التعديلات التي طالتها، بعد تجميع الآراء والمقترحات والمشاورات التشاركية بين المؤسسات الرسمية ذات الصلة بمجال الأسرة والنسيج الجمعوي لحقوق الإنسان والمرأة والطفل والأكاديميين المتخصصين في هذا المجال.

وأشار الباحث الأكاديمي، في مقال توصلت به هسبريس، إلى أن أبرز مشاهد هذا التراشق تجلى في وصف الأمين العام لحزب العدالة والتنمية مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بـ”المذكرة المارقة”، وتهديده بمسيرة مليونية، واتهامه وزير العدل بفتح باب الفتنة، لافتا الانتباه إلى أن “الدولة لها سلطة رمزية مُجَسدَة في إمارة المؤمنين، تمتلك الذراع الطويلة لتطويق الخلاف بين التيارين، بتوظيف مبدأي الوسطية والسلم الاجتماعي، واستثمار قاعدة التحكيم الملكي الذي تخضع له كافة الأطراف المتنازعة”.

نص المقال:

بعد انتهاء الهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة من تجميع الآراء والمقترحات والمشاورات التشاركية بين المؤسسات الرسمية ذات الصلة بمجال الأسرة والنسيج الجمعوي لحقوق الإنسان والمرأة والطفل والأكاديميين المتخصصين في هذا المجال، بغية رفعها إلى ملك المغرب، وبعد التصويت على مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وقرب إفصاح الهيئة سالفة الذكر عن التعديلات التي طالتها، بدأت ردود الفعل تتناسل، وتتجه نحو ما يمكن أن يعيد سيناريو سنة 2000 من مسيرات ومسيرات مضادة، وتراشق لفظي بين التيارين الإسلامي والحداثي.

أبرز مشاهد هذا التراشق تجلت في وصف الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المذكرة سالفة الذكر بـ”المذكرة المارقة”، وتهديده بمسيرة مليونية، واتهامه وزير العدل بفتح باب الفتنة، ثم جاء رد أحد قياديي حزب الأصالة والمعاصرة عليه واتهامه بالعنف الرمزي الذي يمارسه الحزب الإسلامي إثر تراجع شعبيته، وفشله الذريع في الانتخابات الأخيرة، ناهيك عن حملة “ما تقيش عائلتي” التي تجتاح هذه الأيام وسائل منصات التواصل الاجتماعي، ووصفها من قِبَل البعض بأنها تشوش على عمل الهيئة المكلفة بتعديلات المدونة… فكل هذه المواقف والمواقف المضادة، التي تصب الزيت على النار، توحي بأن “بروفا” أولية دخلت مرحلة التجريب لخوض معركة بين التيارين الإسلامي والحداثي حول مدونة الأسرة.

ويبدو أن الدولة، بما لها من سلطة رمزية مُجَسدَة في إمارة المؤمنين، تمتلك الذراع الطويلة لتطويق الخلاف بين التيارين، بتوظيف مبدأي الوسطية والسلم الاجتماعي، واستثمار قاعدة التحكيم الملكي الذي تخضع له كافة الأطراف المتنازعة.

في هذا السياق يمكن قراءة ممكنات تدخل الدولة لتدبير الخلاف بين التيارين الإسلامي المحافظ والحداثي، من خلال ثلاثة مداخل:

أولها يتمثل في إبراز مركزية إمارة المؤمنين وتسيدها على كافة قوى المجتمع المدني، واعتبار موافقتها على أي تعديل لنصوص المدونة شرطا لازما لضمان التوازنات والحياد تجاه أي طرف. ومن ثم، فإن أية مبادرة تعديلية لنصوص المدونة لا تمر عبر رقابة الملك تعد تجاوزا لاختصاصاته بصفته أميرا للمؤمنين.

ووفقا لهذا المحدد الذي لا يترك مجالا للتأويل حول من يملك سلطة الموافقة على التعديل أو الإضافة، لا يوجد منتصر أو منهزم من كلا التيارين ما داما معا يسيران وفق ضوابط المؤسسة الملكية التي لها وحدها الحق الكامل في ترسيم حدود مساحة التحرك في مجال تعديل نصوص مدونة الأسرة، انطلاقا من مبدأ تحقيق التوازن والحياد بين أطراف المجتمع والتماهي مع المتغيرات والمستجدات الوطنية والالتزامات الحكومية مع المواثيق الدولية، من دون الانفلات من مرجعية الثوابت الدينية وممكنات الاجتهاد في النص القرآني وفق الحدود التي تؤطرها إمارة المؤمنين، وهي الحدود التي تلخصها مقولة ملك البلاد: “لا أحلل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله”. ونحسب أن هذا التوازن في التدبير يفيد في إذابة الاختلاف بين الإسلاميين والحداثيين وتفعيل عملية الحوار بين طروحات مرجعيتيهما، ويساعد على تقريب المسافات لخلق توافقات بينهما.

أما المدخل الثاني الذي نقرأ به تدبير الدولة لتطويق الخلاف بين التيارين الإسلامي والحداثي في موضوع تعديلات مدونة الأسرة، فيكمن في طريقة تدبيرها لملف المدونة، من خلال انتهاج سياسة إبقاء اللبس والغموض في بعض نصوصها، حتى تبقى حمالة لقراءات متعددة، تحسبا لأي تعديل مرتقب، يخدم منظومة حيادها، ويساير الموقف المجتمعي وإرضائه بالدفاع عن هويته وثوابته، ويطمئن في الوقت ذاته الموقف الدولي، تجنبا لأية محاسبة بتقويض الديمقراطية وحقوق المرأة، أو محاباة الاتجاه الإسلامي. لذلك، آثرت الدولة الانتصار للقيم التي تريدها وسطية معتدلة غير متطرفة، وغير مؤدلجة أو خاضعة لوصاية أي تيار، ويمكن تطويع مرامي نصوص المدونة خدمة لهذه الوسطية.

في حين يتمظهر المدخل الثالث لاستئصال الاختلاف بين التيارين فيما يتضمنه دستور 2011 من توليفة قانونية ترضي الإسلاميين والحداثيين معا؛ فقد نص الفصلان 19 و164 من الدستور على المساواة والمناصفة وعدم التمييز بين الجنسين وفق ما جاء في مقتضيات الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وهو ما يتماهى مع توجهات التيار الحداثي والمواثيق الدولية. وفي الوقت نفسه، نص الدستور في الفصلين 32 و169 على احترام الزواج الشرعي، وضمان استقرار وتماسك الأسرة، والحفاظ عليها باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع؛ وهو ما يساير توجهات التيار الإسلامي الذي يعض بالنواجذ على مؤسسة الأسرة وفق المرجعية الإسلامية.

وتوحي هذه المداخل الثلاثة ودلالاتها بأن التقريب بين التيارين الإسلامي والحداثي وخلق توافق بينهما يحتل موقعا مفصليا في استراتيجية خطاب الدولة من أجل إحداث التوازنات وضبط تطور المجتمع المغربي بما يخدم المصلحة العامة بالقدر الذي يخدم مصلحتها هي نفسها؛ فإنجاز مثل هذا الدور “التصالحي” بين تيارين يتشربان من مرجعيتين مختلفتين يشكل بالنسبة للدولة هدفا محسوبا بدقة، لتلميع هيبتها داخليا وخارجيا وإبراز قوتها كمؤسسة ضامنة لوحدة المجتمع وتماسكه.

وأحسب أن استثمار دور الدولة في نزع فتيل الخلاف بين التيارين المتدافعين رهن بأجرأة الحوار بينهما تأسيسا على مقاربات نقدية ومبادرات شجاعة تمتاح قوتها وفعاليتها من ثقافة المجتمع المغربي وقيمه وليونته وقدرته على التفاعل مع المجتمعات الكونية الأخرى وعقلانيتها، بمنأى عن التقوقع والانغلاق على الذات. وفي الوقت ذاته الابتعاد عن وعي الذات من خلال الآخر، والتمييز بين القيم الكونية الإيجابية، والوافد الثقافي “الإمبريالي” الساعي إلى الهيمنة، وتقويض القيم المحلية المرتبطة بالمرأة ومقومات الأسرة.

إن الاختلاف والتعدد ناموس كوني ونعمة وفضل من الله على البشر، ولا يوجد في التاريخ البشري مجتمع خال من الاختلاف في الرؤى بسبب القناعات الفكرية المتباينة. ومدونة الأسرة ليست وصفة جاهزة أو قاعدة حسابية رياضية لا تقبل الجدل؛ بل هي مشروع مجتمعي متداخل يستدعي الحوار بين كافة مكونات المجتمع، من فقهاء وأحزاب سياسية وقوى اجتماعية مدنية وأكاديميين من دون استثناء أو إقصاء أي طرف.

لذلك، فإن هذا المشروع الحضاري مطالب بالانفتاح على تلقي كل المبادرات، والتغذي من كافة الأفكار والتجارب والإبداعات الإنسانية، ومدارسة كل طرف يدعي امتلاك الحقيقة أفكار مشروع الطرف الآخر وفهمه فهما واعيا رصينا.

كما أن أي تعديل يروم تحقيق درجات من الاستقرار الاجتماعي بالمغرب يستدعي وجوب إخراج مدونة الأسرة من العباءة السياسية والمسبقات الإيديولوجية والحزبية، وفك الارتباط مع منطق السياسة القائم على الربح والخسارة، وإنزالها إلى ساحة الرأسمال المعرفي ونتائج العلوم الاجتماعية والإنسانية والبحوث الميدانية، جنبا إلى جنب مع العلوم الفقهية.

وإذا ما تم استثمار دور الدولة في الحفاظ على التوازن بين التيارين الإسلامي والحداثي كما أسلفنا القول، وتم استغلال نتائج هذه العلوم، ومخرجات فقه المقاصد وفقه الواقع، ونُظِرَ إلى المدونة من زاويا متعددة، أي من كليات مكونات الأسرة وليس المرأة فحسب، فإن الاختلاف بين التيارين يتحول إلى طاقة إيجابية خلاقة وبيئة تتعايش فيها الأطراف المتدافعة، من خلال البحث عن القواسم المشتركة، وتقريب المتناقضات. عندئذ، يمكن الحديث عن مدونة لا تنصف المرأة فحسب؛ بل الأسرة برمتها، داخل مساحة محترمة من العدالة والديمقراطية، تجمع بين نور العقل ووهج الدين.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *