بنكيران وبنعبد الله عن مسار معتصم: مهندس الدستور ورجل التوافقات
رحل المستشار الملكي محمد معتصم عن دنيا الناس، تاركا خلفه ذكرى ومسيرة رجل من رجالات الوطن الذين أفنوا عمرهم في خدمة الدولة والمؤسسة الملكية، من خلال تقلد العديد من المسؤوليات والمناصب التي ترك بصمة واضحة فيها، خاصة دوره البارز في إعداد الوثيقة الدستورية لسنة 2011 ومساهمته في تجاوز المملكة مطبات الربيع العربي التي هزت المنطقة.
خبر وفاة ابن مدينة سطات عن سن ناهز 67 سنة كان مفاجئا للكثير من المغاربة، بل إن الملك محمدا السادس وصفه بـ”النبأ المفجع”، في رسالة تعزية وجهها إلى أسرة الفقيد، معتبرا وفاته “خسارة لوطنه الذي فقد برحيله أحد خدامه الكبار الأوفياء الذي سخر حياته لخدمته بكل تفان ونكران ذات في تعلق متين بأهداب العرش العلوي المجيد، وتشبث مكين بثوابت الأمة ومقدساتها”.
مسار حافل
وبصم الراحل على مسار سياسي حافل، فقد دفعه تكوينه القانوني والدستوري إلى بلوغ أعلى الرتب والمناصب، توجت بتعيينه مستشارا للملك محمد السادس، بعد تقلده العرش، وتكليفه بعدد من الملفات السياسية، إلى أن جاءت لحظة إعداد دستور 2011، حيث بزغ نجم معتصم انطلاقا من تخصصه وتمكنه فيه، إذ أسند له الملك محمد السادس رئاسة آلية سياسية للتتبع والتشاور وتبادل الرأي حول مراجعة الدستور.
وتولى الراحل معتصم منصب مستشار الملك منذ يوليوز 1999، وكان كذلك أستاذا جامعيا بكليتي الحقوق بالدار البيضاء والرباط منذ 1983، ووزيرا سابق مكلفا بالعلاقات مع البرلمان، وعضوا سابق بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، كما كان عضوا مؤسسا للجمعية المغربية للعلاقات الدولية.
وقد صدرت للراحل مقالات مرجعية في القانون الدستوري ومؤلفات مختلفة في العلوم السياسية، من بينها “النظام السياسي المغربي”، و”الحياة السياسية المغربية: 19621992″، و”النظرية العامة للقانون الدستوري “، و”الأنظمة السياسية المقارنة”، فضلا عن ”التجربة البرلمانية في المغرب” (مؤلف جماعي).
وضمت الآلية السياسية للتتبع والتشاور وتبادل الرأي حول مراجعة الدستور، على الخصوص، رؤساء الهيئات السياسية والنقابية، وكذا رئيس اللجنة الخاصة بمراجعة الدستور عبد اللطيف المنوني.
خلال هذه المحطة، احتك زعماء وقادة الأحزاب السياسية بالمستشار الملكي الراحل عن قرب، إذ أجمع جل من تحدثت إليهم هسبريس على كفاءته العالية ووطنيته الراسخة في قيادة المشاورات مع الفرقاء السياسيين وتقريب وجهات النظر المتباينة قبل التوصل إلى دستور 2011 الذي جنب المملكة شبح الفوضى التي أحدثتها رياح الربيع العربي.
مستشار ملكي بارع
عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيس الحكومة الأسبق، بدا متأثرا وهو يتحدث لهسبريس عن العلاقة التي ربطته بالمستشار الملكي الراحل.
وقال في هذا الصدد: “كنت أعرف سي محمد معتصم مثل باقي المغاربة، وعندما أصبحت أمينا عاما للحزب كانت فرصة اللقاء به أكبر”، معتبرا أن أحداث 20 فبراير كانت فرصة للقائه مستشار الملك أكثر من مرة.
وأضاف بنكيران: “في بعض الأحيان كانت بيننا لقاءات خاصة في أكثر من موضوع، وخلال فترة إعداد الدستور كانت اللقاءات كثيفة بيننا وبينه، وبعدها تغيب بعض الشيء عن الساحة”.
وتابع: “عندما أصبحت رئيسا للحكومة كنا نلتقي بين الفينة والأخرى عند جلالة الملك، ولم تعد لقاءاتنا كما قبل. فالرجل كان يتميز بحس وطني كبير وبوفاء للوطن ولجلالة الملك، وبقدرة رائعة على التوفيق بين مختلف الآراء”، مؤكدا أن الراحل كان بارعا في استعمال مكانته كمستشار لدى جلالة الملك.
وزاد رئيس الحكومة الأسبق موضحا: “من الناحية النفسية كانت تربطني به علاقة جيدة، وكنت أقدره كثيرا وأعتقد أن التقدير كان متبادلا، بل كنت أعزه وكان في نفسي أن أزوره أكثر من مرة ولكن لم أفعل”.
وتابع بنكيران متحسرا على عدم زيارته لمعتصم قبل وفاته: “في بعض الأوساط الإنسان يفضل عدم القيام ببعض الأشياء، ويخاف أن يتم تأويلها بطريقة غير صحيحة، كنت أفكر في زيارته، حتى بلغني خبر وفاته، وكان خبرا محزنا، وراح إلى ربه حيث نتمنى أن يكون قد وجد سعة كافية وأن يكون لأسرته من بعده”.
طرائف بنكيران مع معتصم
وبخصوص روح المرح والدعابة التي كان يتميز بها المستشار الملكي الراحل، حكى بنكيران لهسبريس أن معتصم إبان إعداد الوثيقة الدستورية، استدعى بنكيران للقاء شخصي، استضافه في فيلا كان يشتغل فيها بحي الرياض للحديث في بعض الأمور، وقال: “أرسلوا لنا الإكرام من دار المخزن، وكان عندهم عصير جيد جدا، شربته فأعجبني وأنا أمين عام آنذاك، فسألته: السي معتصم هذا العصير كيف يتم إعداده؟ فأجابني (ضاحكا) بأن ذلك سر من أسرار الدولة، ولم أعرف هل كان يعرف كيفية إعداد ذلك العصير أم لا”.
وتابع: “عندما أصبحت رئيسا للحكومة شربت ذلك العصير أكثر من مرة بطبيعة الحال. وإلى حد الآن لا أعرف كيف يصنع، وهو عصير يتميز بمذاق عجيب”.
وفي حدث طريف آخر جمع رئيس الحكومة الأسبق بالمستشار الملكي الراحل، قال بنكيران: “كنت ذات ليلة نائما في منزلي، أيقظني مع 2 صباحا، فقلت له: “شنو هاد الشي آسي المعتصم ياك لاباس؟ فأجابني: سيدنا قالي فيقوا؟ فقلت له: مكين باس من سيدنا باغيني ليأخذ رأيي في موضوع معين؛ فأدخل عليّ ذلك السرور”.
وختم بنكيران حديثه قائلا: “لم أكن أعرف أنه كان مريضا، وعلمت أنه كان في غيبوبة منذ شهرين، ولو عرفت ذلك لزرته، رحمه الله وأحسن إليه”.
رجل التوافق
نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، واحد من القادة السياسيين الذين عايشوا معتصم خلال إحدى أدق المحطات الحساسة في تاريخ البلاد، قال عنه: “محمد معتصم كان قامة وطنية علمية وسياسية كبيرة، كما عرفته أستاذا وبيداغوجيا في مقارباته”.
وأضاف بنعبد الله، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الراحل “كان ينطلق من قناعات ديمقراطية راسخة، خاصة وهو يقارب المسألة الدستورية”، مؤكدا أنه بهذه الصفة وبتحمله “مسؤوليات كبيرة، وزارية، ثم كمستشار لصاحب الجلالة، من خلال التجربة والحنكة التي كان يتميز بها، لعب أدوارا أساسية في صياغة مدونة للأسرة جديدة في مطلع هذا القرن، واشتغل على مشروع الحكم الذاتي، كل ذلك في إطار التوجيهات السامية لصاحب الجلالة”.
وعن الأدوار التي لعبها المستشار الملكي الراحل على مستوى صياغة الوثيقة الدستورية، قال بنعبد الله: “أشهد أنه استطاع أن يتجاوز عددا من الصعاب عندما كان ينسق أشغال اللجنة المكلفة بصياغة الدستور، وعمل من أجل الوصول إلى صيغ متوافق حولها في عدة قضايا شائكة”.
وتابع الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية قائلا: “حظيت في تلك الفترة بإمكانية الاشتغال مباشرة معه حتى أوقات متأخرة من الليل في بعض الأحيان، وبكل تواضع، إلى جانبه، ساهمت في إيجاد بعض الحلول لبعض القضايا لدى أطراف سياسية مختلفة”.
وختم بنعبد الله شهادته بالقول: “اكتشفت خلال هذه المرحلة عمقه وحنكته وتجربته وقدرته على إيجاد الصيغ القانونية التي تعكس التوافق السياسي البناء والمثمر، وكان المرحوم صديقا كبيرا بالنسبة لي، ورجلا مرحا يحب البسط”، معتبرا أنه غادر في سن “كان بإمكانه أن يعطي أكثر”.
المصدر: هسبريس