في زمن يتسم بتصاعد التنافس الجيوسياسي وتآكل المنظومات التقليدية، تدخل العلاقات الدولية مرحلة ما بعد “التموضع الكلاسيكي”، حيث تعاد هندسة خرائط النفوذ ليس فقط انطلاقًا من توازن القوة، بل وفق منطق جديد عنوانه: “السيادة التمكينية” وفي هذا الإطار، يُعد اعتراف المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية لحظة مفصلية ضمن دينامية إعادة التموقع الاستراتيجي التي تشهدها لندن بعد “البريكست”، وإعادة بناء التكتلات المرنة التي تتجاوز الانغلاق الجغرافي.

يتقاطع هذا الاعتراف مع الرؤية الملكية المغربية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، التي حولت الجنوب المغربي من هامش جغرافي إلى محور جيواقتصادي صاعد. إنه التقاء بين “بريطانيا العالمية” (Global Britain) و”المغرب المتموقع”، بين عقيدة إعادة الارتباط الأطلسي ومشروع الربط العمقي الإفريقي، في ما يمكن تسميته بـ”التحالف التشاركي السيادي” مصطلح جديد يعكس تحولات العلاقات الدولية من منطق التبعية إلى منطق التمكين التبادلي.

في قلب هذا التقاطع، تتجلى معالم “جيواستراتيجية الأطلسي الموسّع”، حيث يتحول المغرب إلى عقدة وصل بين دوائر التأثير الأوروبية، الأطلسية، والإفريقية. فمشروع أنبوب الغاز نيجيرياالمغرب يشكّل تجسيدًا ملموسًا لعقيدة “التكامل الطاقي جنوبشمال”، التي تنقل القارة الإفريقية من موقع المزود الخام إلى فاعل مهيكل ضمن منظومة الطاقة العالمية. فبامتداده على طول يفوق 5600 كلم، وعبر 13 دولة إفريقية على الأقل، يمثل هذا المشروع بنية تحتية ذات طابع فوققاري، تضع أسس “سيادة طاقية مشتركة”، تعزز قدرة الدول الإفريقية على التحكم في مواردها واستثمارها في خلق القيمة، بدل تصديرها بشكل منفصل وغير منظم. الطاقة هنا لا تُختزل في بعدها التجاري، بل تتحول إلى رافعة للاندماج الإقليمي، وتحفيز الأسواق الوطنية، وتكثيف الاستثمار في شبكات الكهرباء، والربط الصناعي، والخدمات اللوجستية. فالمشروع، الذي يرتبط بخطط تمويل من مؤسسات دولية على رأسها البنك الإسلامي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية، يتجاوز الوظيفة التقنية نحو بناء ممر سيادي للطاقة والتنمية، يربط إفريقيا بأوروبا عبر بوابة مغربية مستقرة وذات مصداقية.

هندسة مغربيةبريطانية

هذا النموذج يُعيد تعريف العلاقة بين الجنوب والشمال، حيث لم تعد الطاقة أداة تبعية أحادية الاتجاه، بل قناة متوازنة للتأثير والتكامل. فالمغرب، بما يتوفر عليه من موقع جغرافي محوري، وإطار تشريعي جاذب، وخبرة متقدمة في الطاقات المتجددة (أزيد من 37% من الكهرباء المنتَجة حاليًا مصدرها الطاقات النظيفة)، يتحول إلى منصة تحويلية للطاقة، لا تقتصر على التصدير، بل تشمل التخزين، التوزيع، والتصنيع المرتبط بالطاقة (الهيدروجين الأخضر، الأسمدة، الصناعات التحويلية).

وهكذا، يصبح الربط الطاقي أداة لإعادة هيكلة الخريطة الاقتصادية لغرب إفريقيا، حيث ينشأ لأول مرة محور اندماجي طاقيسيادي يمتد من خليج غينيا إلى طنجة، وينفتح على أوروبا عبر الممر المغربي، مما يُعيد هندسة موازين الطاقة، ويوطّد دور المغرب كوسيط استراتيجي في المعادلة الطاقية القارية والأورومتوسطية.

أما ميناء الداخلة الأطلسي، فهو أكثر من واجهة بحرية؛ إنه ما يمكن اعتباره “بنية سيادية احتياطية” تؤسس لاستقلالية إفريقيا الغربية في الوصول إلى الأسواق العالمية. من خلال هذا الميناء، يتبلور مفهوم “الانفتاح الموجه”، حيث لا يكون الربط هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة لإعادة رسم خرائط القيمة المضافة.

هذا التموقع المغربي يجد في بريطانيا شريكًا طبيعيًا يسعى إلى منفذ جيوسياسي موثوق نحو إفريقيا المتحرّكة، في وقت بات فيه بعض الحلفاء يواجهون تآكلًا في صدقيتهم الاستراتيجية نتيجة ارتهانهم لمحاور إقليمية غير مستقرة، وانكشاف دورهم في أزمات معقّدة كالوضع الليبي وتغذية التوترات بدل المساهمة في احتوائها.ومع انخراط الولايات المتحدة في الدينامية نفسها، تتشكل نواة ما يمكن تسميته بـ”المثلث الأطلسي النشط”: الرباط لندن واشنطن، وهو مثلث ليس قائمًا على تحالفات أمنية جامدة، بل على هندسة سيادية مرنة تعيد التوازن للأطراف وتُقلص الهشاشة البنيوية.

لقد تحولت الصحراء المغربية إلى مختبر جغرافي لتطبيق مفاهيم مثل “التنمية الجيوسيادية” و”السيادة الإنتاجية”، حيث يتم تجاوز النموذج الريعي نحو نموذج تحويل الصحراء إلى منصة إنتاج وربط وتوزيع عابرة للمجالات. ومشروع “Xlinks” لنقل الكهرباء الخضراء من المغرب إلى بريطانيا ليس فقط صفقة طاقة، بل تعبير عن انتقال بريطانيا إلى شراكة تقوم على “الربط المؤسسي المستدام” مع بلدان الجنوب.

في هذا السياق، الاعتراف البريطاني لا يمكن قراءته إلا كمؤشر على انخراط لندن في صياغة مشهد جيوسياسي جديد قوامه “واقعية الحسم” بدل دبلوماسية الانتظار. فحين تصبح ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا) داعمة صراحة لسيادة المغرب، فإننا أمام تحول نوعي يُعيد تعريف إطار القضية من نزاع إلى قضية سيادة مكتملة الأركان.

زيادة على ذلك، تتقاطع هذه الاعترافات مع متغيرات اقتصادية عالمية تُعيد الاعتبار لموقع المغرب كبوابة عبور ذكية نحو إفريقيا، ليس فقط عبر البنية، ولكن عبر الفكر السيادي. فالمغرب اليوم لا يُصدر فقط الفوسفات والطاقة، بل يُصدر نموذجًا جديدًا من الشراكة يقوم على ما يمكن تسميته بـ”السيادة المؤسسية المتضامنة”، أي تبادل الاستقرار مقابل الاحترام المتبادل للمصالح.

إن هذه المرحلة تقتضي أن تتحول لندن من موقع الدعم السياسي إلى موقع التمكين الاستثماري والتقني، عبر تعميق حضورها في المشاريع الكبرى جنوب المغرب، وتوسيع نطاق الشراكة في القطاعات الاستراتيجية كالرقمنة، والذكاء الصناعي الزراعي، والاقتصاد الأزرق. كما أن المغرب، بدوره، مدعو إلى توسيع فلسفة “StraitBelt” كعقيدة ربط

استعادة التوازن

إن رسم المستقبل يتطلب بناء كتلة استباقية للتماسك السيادي، تنبع من تقاطع المصالح العميقة، وتتأسس على رؤية واقعية تستوعب التحديات وتُحوّلها إلى فرص استراتيجية. إنها مقاربة تؤمن بأن إفريقيا لم تعد على هامش الخريطة الاقتصادية العالمية، بل أصبحت أحد أبرز فضاءات صياغة التوازنات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، وفضاءً مركزيًا لإنتاج القيمة، وربط الأسواق، وإعادة تشكيل منطق الشراكة في النظام الدولي الجديد.

في هذا الاتجاه، ومنذ مطلع القرن العشرين، شكلت المدرسة البريطانية في الجيوبوليتيك مرجعية كبرى في تصور النفوذ العالمي وإعادة هندسة العلاقات الدولية. وقد كانت هذه الرؤية دائمًا مبنية على ترابط وثيق بين الجغرافيا والسلطة، بين السيطرة على المفاصل البحرية والبرية، وإمكانية إعادة تعريف موازين القوى. في هذا السياق، يُعتبر السير هالفورد ماكندر المؤسس الأبرز لنظرية “قلب العالم”، التي افترضت أن السيطرة على المناطق الداخلية الكبرى تمنح الدول قدرة حاسمة على التحكم بمصير النظام الدولي. فبالنسبة له، من يسيطر على شرق أوروبا يتحكم في قلب العالم، ومن يسيطر على القلب يحكم الجزيرة العالمية، ومن يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم. وقد كانت هذه الرؤية دعوة ضمنية للمملكة المتحدة من أجل المحافظة على تفوقها الإمبراطوري عبر تحكمها بالممرات الحيوية، لا سيما الأطلسي، المتوسط، وقنوات الربط بين القارات.

ومن هذا التصاعد في التكامل الجيواقتصادي بين الرباط ولندن، تبرز الحاجة إلى تعميق الإطار النظري الذي يؤسس لتحالف استراتيجي أكثر تجذرًا، يتجاوز منطق المشاريع الظرفية نحو بناء منظومة مفاهيمية جديدة. ففي عالم يشهد إعادة هيكلة موازين القوى، لم يعد كافيًا الحديث عن تقاطعات مصلحية، بل أصبح من الضروري التفكير في مقاربات سيادية تستجيب لتعقيدات النظام المتعدد الأقطاب، وتؤسس لتحالفات قائمة على الرؤية والتموقع المشترك.

من المفهوم إلى التمكين

في ظل التحولات البنيوية التي يعرفها النظام الدولي، تبرز ضرورة بلورة مفاهيم سيادية جديدة قادرة على مواكبة منطق العالم المتعدد الأقطاب. ومن هذا المنطلق، يندرج “التشابك الجيوسياسي” و”الرأسمال السيادي المشترك” باعتبارهما ركيزتين لتحالف مغربيبريطاني يتجاوز منطق التبادل الكلاسيكي نحو بناء نموذج تشاركي يعيد تعريف مفهوم الشراكة الاستراتيجية على أساس التقاء الأمن بالتنمية، والسيادة بالاستقرار. ويشكّل الموقع الجغرافي المغربي، بما يتيحه من ربط طاقي وتجاري، نقطة تقاطع مع تجارب دولية ناجحة كالحالة السنغافورية في آسيا، أو الدور التركي في ممرات الربط الأوراسي ما يعزز من دور المغرب كبوابة جيواقتصادية عبرقارية. وفي ظل تفاقم التهديدات غير المتماثلة في الساحل، بما في ذلك الإرهاب، والنزعات الانفصالية، والقرصنة البحرية، تكتسب هذه الشراكة بُعدًا جيوأمنيًا يعزز من تموضع بريطانيا في فضاء حيوي يُعاد تشكيله. وفي هذا السياق، لم تعد المواقف السياسية كافية ما لم تُترجم إلى مبادرات فاعلة داخل مجلس الأمن، خصوصًا عبر دعم مبادرة الحكم الذاتي كحل سيادي مستدام يضمن الاستقرار، ويؤسس لنقلة نوعية في التعاطي مع النزاع بعيدًا عن منطق الجمود، وضمن رؤية واقعية تُمكِّن من إغلاق هذا الملف المفتعل بشكل نهائي ومؤسس.

لعل هذه المقاربة المبتكرة، التي تجعل من المفاهيم السيادية أدوات لصياغة التموقع الجيواستراتيجي، لا تنفصل عن تطور الفكر الجيوسياسي نفسه، الذي أعاد النظر في مراكز الثقل والنفوذ، وانتقل من مركزية اليابسة إلى دور الهوامش البحرية كمفاتيح للتحكم في خرائط القوة. وفي هذا الصدد، تتقاطع هذه الرؤية مع الأطروحات الكبرى التي أعادت تشكيل نظريات الهيمنة الجغرافية…

غير أن هذا التصور وجد له تطويرًا مرنًا على يد المفكر نيكولاس سبايكمان، الذي أدرك أن القوة الحقيقية لا تكمن فقط في الداخل القاري، بل في الأطراف البحرية التي تحتضن مراكز النشاط الاقتصادي والحضاري، وصاغ لذلك نظرية “Rimland”، حيث تمثل الهوامش البحرية الحلقة الحاسمة في فرض النفوذ. ومن هذا المنطلق، فإن الصحراء المغربية، بما تمثله من عقدة جيوبحرية تربط بين العمق الإفريقي والمجال الأطلسي، تدخل اليوم ضمن منطق “الهوامش الفاعلة”، حيث تصبح السيادة المغربية على هذه الأقاليم ليس فقط قضية شرعية، بل أيضًا ضرورة جيواستراتيجية ضمن بنية التوازنات الجديدة.

وليس من قبيل الصدفة أن تتقاطع هذه الرؤية مع التحولات العميقة في الفكر الاستراتيجي البريطاني خلال العقد الأخير، خاصة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. فقد برز المفكر والسياسي جون بيو كأحد أبرز مهندسي مرحلة جديدة من التفكير الجيوبوليتيكي البريطاني، هذا الفكر لم يَعُد أسيرًا للارتباط بالمنظومة الأوروبية، بل توجه نحو صياغة عقيدة أطلسية متجددة، تقوم على إعادة التموقع ضمن فضاءات استراتيجية كإفريقيا، والبحر المتوسط، والبحر الهندي. لقد كانت هذه الرؤية تقوم على التفاعل الذكي بين القوة الصلبة والقوة الناعمة، ضمن منظومة تأثير مرنة، قابلة للتكيف مع تحديات القرن الواحد والعشرين.

وبالنظر من هذه الزاوية، فإن اعتراف المملكة المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه لم يكن مجرد موقف سياسي أو استجابة ظرفية، بل هو تتويج لميل استراتيجي أعمق: اختيار المغرب كحليف ذي موقع محوري في الريم لاند الإفريقي (Africain Rimland) قادر على تسهيل ولوج بريطانيا إلى العمق القاري، وربطها بشبكات لوجستية وطاقية وتجارية صاعدة. فالرباط اليوم لا تطرح نفسها كحليف تقليدي، بل كمُهندس لتكامل أطلسيإفريقي جديد، يؤمن بأن السيادة والتنمية والاستقرار تشكل مثلثًا لا يمكن فصله في رسم خرائط المستقبل.

في هذا الصدد، ومن أجل تقعيد عقائدي يشرب من الرؤية الملكية المتبصرة، يشكل الحزام السيادي البحري المغربي (StraitBelt) ترجمة لعقيدة استراتيجية متجددة، ترتكز على تعزيز السيادة الوطنية على الأقاليم الجنوبية للمملكة، من خلال تحويل المجال البحري الممتد من مضيق جبل طارق إلى عمق الأطلسي والساحل الإفريقي إلى فضاء جيواقتصادي موحد. وفي قلب هذا التصور، تندمج الصحراء المغربية ليس كأرض نزاع، بل كحلقة وصل سيادية، ومنصة للتكامل الطاقي، اللوجستي، والرقمي بين الشمال والجنوب.

فـ “StraitBelt” ليس مجرد تصور جغرافي، بل عقيدة تكاملية جديدة تُحول الممرات البحرية والمناطق الساحلية المغربية إلى أعمدة سيادية للربط التجاري، الطاقي، والرقمي بين أوروبا وإفريقيا. وبالنسبة لبريطانيا، التي تسعى إلى توسيع عمقها الاستراتيجي، فإن الالتحام مع هذه الرؤية يفتح لها منفذًا مؤسَّسًا نحو “إفريقيا الإنتاج” بدل “إفريقيا الموارد”، ضمن مقاربة سيادية تقوم على التموقع لا على التبعية، وعلى الاندماج لا على الارتباط الظرفي.

يأتي هذا الاعتراف البريطاني في لحظة استراتيجية ناضجة، تتقاطع فيها الرؤية الملكية المغربية لإعادة ربط الجنوب المغربي بعمقه الإفريقي، مع سعي بريطانيا ما بعد “البريكست” إلى تموضعات جيوسياسية بديلة وأكثر استدامة في الفضاءات الصاعدة. فالمشروع الملكي لا يُختزل في مجرد إنجازات متفرقة، بل يقوم على هندسة منظومة سيادية متكاملة، تُحوّل المجال البحري والحدودي، ولا سيما في الأقاليم الجنوبية، إلى رافعة للتموقع الاستراتيجي والتنمية الجيواقتصادية .إنها رؤية تؤسس لنموذج مغربي مستقل، يُعيد تشكيل الفضاء الأطلسي والساحلي الإفريقي من خلال دمج السيادة الجغرافية بالسيادة الاقتصادية والطاقية، وخلق توازن جديد في منظومة الربط العابر للحدود. وفي هذا السياق، تأتي المشاريع الكبرى، كميناء الداخلة الأطلسي، وأنبوب الغاز نيجيرياالمغرب، وممرات الربط القاري نحو الساحل، لتجسد فكرًا استباقيًا في التحكم بمفاصل الاندماج الاستراتيجي.

وبالتالي، تتحول الصحراء المغربية من مجال جغرافي إلى حلقة وصل مركزية غير قابلة للتجزئة ضمن شبكات التجارة والطاقة المتنامية بين إفريقيا، الأطلسي، وأوروبا، وهو ما يجعل من هذه الدينامية المشتركة بين الرباط ولندن ركيزة جديدة لهندسة التحالفات الجيواقتصادية متعددة القارات.

كما أن هذه الرؤية تُعيد تعريف العلاقة بين الشمال والجنوب، لا من زاوية الخضوع أو التبعية، بل من منظور التكامل السيادي والشراكة الاستباقية. فالمغرب ليس حافةً للنفوذ الأوروبي أو البريطاني، بل منصة مركزية تعيد توزيع التفاعلات بين الضفتين الأطلسيتين. وفي هذا الإطار، يصبح التموقع البريطاني الجديد ليس فقط تأييدًا لحل سياسي لقضية الصحراء، بل انخراطًا عضويًا في مشروع هندسة توازنات جديدة، أكثر عدالة، وأكثر اتساقًا مع التحولات الجيوسياسية العالمية.

وهكذا، تصبح هذه اللحظة التاريخية منصة استراتيجية لإعادة تعريف العلاقة بين الشمال والجنوب، ليس فقط من منظور المصالح، بل من منظور التموقع المشترك في عالم متحوّل، تُكتب فيه التوازنات لا على الورق، بل على الأرض، عبر مشاريع ملموسة، وتحالفات مرنة، ورؤية شاملة.

إن لحظة التقاء رؤية صاحب الجلالة الملك محمد السادس مع تحولات بريطانيا ما بعد “البريكست” ليست مجرد تقاطع عابر بين أجندتين سياسيتين، بل تشكّل منعطفًا تأسيسيًا لصياغة محور “جيوتشاركي” يمتد من شمال الأطلسي إلى عمق الساحل الإفريقي. محور لا يقوم على استنساخ تحالفات تقليدية أو إعادة تدوير معادلات النفوذ القديمة، بل على إعادة ابتكار منطق الشراكة الدولية وفق مفهوم “التكامل السيادي متعدد الأقطاب”، حيث لا يُنظر إلى إفريقيا كمجال نفوذ، بل كفاعل شريك في صياغة القواعد الجديدة للعبة الجيواقتصادية.

في هذا السياق، يغدو هذا التموقع البريطانيالمغربي فرصة لإعادة هندسة الأطلسي السياسي والاقتصادي، عبر بناء خطوط ربط بحرية، وطاقية، ورقمية، تخلق ما يمكن تسميته بـ”الهلال الأطلسي الإنتاجي”، الذي يربط الأسواق الأوروبية بمراكز التحول الإفريقي، من طنجة إلى لاگوس، مرورًا بالصحراء المغربية. إن بريطانيا، بخروجها من الاتحاد الأوروبي، في حاجة إلى مسارات سيادية جديدة تعيد لها زمام التأثير في محيطها الموسّع، والمغرب، برؤيته الإفريقية الأطلسية، يمثل قاعدة آمنة وديناميكية لتحقيق هذا الطموح.

وفي سياق هذا الزخم الجيواقتصادي المتنامي، لا يقتصر التموقع البريطاني في المغرب على إعادة التموضع الجيوسياسي، بل يتجلى كذلك في انخراط عملي متسارع عبر اتفاقيات ملموسة، ومشاريع استراتيجية متعددة القطاعات.

فالعلاقات بين المملكتين بدأت تنتقل تدريجيًا من مستوى الخطابات السياسية إلى تمويلات مباشرة، وشراكات تنموية، وآليات تنفيذية تُرسّخ منطق التمكين المتبادل.

وتُمثل الاتفاقيات الموقعة بين المملكتين والتي تشمل تخصيص تمويل بريطاني لمشاريع مغربية، والتعاون في البنية التحتية المرتبطة بكأس العالم 2030، فضلاً عن مجالات الطاقة، والتعليم، والصحة، والدفاع خطوة متقدمة نحو شراكة تنموية تستند إلى نقل الخبرات والتكنولوجيا البريطانية وتعزيز المحتوى المحلي المغربي.

وضمن هذا المسار، تم الإعلان عن تخصيص 5 مليارات جنيه إسترليني من قبل وكالة تمويل الصادرات البريطانية (UKEF) لدعم مشاريع جديدة في المغرب. وقد ناقش الطرفان إمكانية إدراج المشاريع المبرمجة في الأقاليم الجنوبية ضمن برامج التمويل البريطانية. ويعكس هذا التوجه إيمان المملكة المتحدة بدور المغرب كبوابة استراتيجية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في إفريقيا، وتجدد التزامها بتعميق هذه الشراكة معه باعتباره شريكًا للنمو عبر القارة. وفي هذا السياق، يُنتظر التوقيع خلال الأيام المقبلة على اتفاقيات إضافية بارزة، من بينها مذكرة تفاهم بين الجمعية البريطانية للصناعات الدفاعية والأمنية (ADS Group) والوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، وأخرى مع شركة “BAE Systems” لتعزيز القدرات الصناعية الوطنية في مجال الصناعات الدفاعية. وهي اتفاقات تؤشر إلى تحول نوعي في طبيعة العلاقة بين الرباط ولندن، ما يعكس الانتقال من الشراكة الخطابية إلى تكامل متعدد الأبعاد، يربط الأمن بالتنمية، والسيادة بالاستقرار، ويؤسس لمعادلة إنتاجية جديدة جنوبشمال.

وهكذا، تصبح هذه اللحظة التاريخية منصة استراتيجية لإعادة تعريف العلاقة بين الشمال والجنوب، ليس فقط من منظور المصالح، بل من منظور التموقع المشترك في عالم متحوّل، تُكتب فيه التوازنات لا على الورق، بل على الأرض، عبر مشاريع ملموسة، وتحالفات مرنة، ورؤية شاملة للقرن الحادي والعشرين.

وهكذا، لا يُمكن فهم الاعتراف البريطاني بسيادة المغرب على صحرائه كخطوة معزولة أو استجابة ظرفية، بل كجزء من هندسة شاملة لتحالف جيوسيادي جديد، يُعيد رسم خرائط التأثير من منطق “المركز والهامش” إلى منطق “الربط والتكامل”. ففي عالم يتسارع نحو تعددية الأقطاب وتَشظّي المنظومات التقليدية، تبرز الرباط ولندن كقوتين واثقتين تُراهنان على هندسة ممرات جديدة للنفوذ، قوامها التموقع الآمن والتحالفات المرنة. إنها ليست مجرد شراكة عابرة، بل بداية لكتابة أطلس جديد للقرن الحادي والعشرين، حيث لا يُقاس الحضور الجيوسياسي لا يُختزل في الإمكانات التقليدية فقط، بل بقدرة الدول على خلق التقاء استراتيجي بين الجغرافيا والإرادة.

ومن ثمة، حين تتحول الجغرافيا إلى إرادة، والسيادة إلى هندسة، تُولد تحالفات تصنع التاريخ لا تستهلكه. والمغرب وبريطانيا اليوم لا يعيدان فقط رسم ممرات الربط، بل يعيدان تعريف من يملك مفاتيح المستقبل في جنوبشمال جديد.

المصدر: هسبريس

شاركها.