باحثون مغاربة يحذرون من غزو الفرنكفونية ويدافعون عن “التربية الوالدية”
اهتمت ندوة علمية وطنية بأزمة النموذج التي تعيشها الأسرة المغربية، مع تقديم دراسات وتشخيص لإشكالات وتوصيات حول أدوار التربية الوالِدية في التنشئة، وصيانة الدور المركزي للأسرة بالمملكة، من أجل “الأسرة الإيجابية”.
استقبلت هذه الندوةَ العلمية الوطنية قاعةُ الندوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، ونظمتها منظمة المجتمع المدني الدولية لقيم المواطنة والتنمية والحوار، بشراكة مع المركز الدولي لخدمة اللغة العربية ومختبر اللسان والتواصل والبيداغوجيا والتنمية (سبلالتنمية).
وقال عبد الجليل الكريفة، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، إن موضوع الندوة “يكتسي أهمية وراهنية، ويأتي في سياق الحوار الذي فُتح بالدعوة التي وجهها جلالة الملك محمد السادس لتعديل مدونة الأسرة.”.
محمد الزباخ، رئيس منظمة المجتمع المدني الدولية لقيم المواطنة والتنمية والحوار، تحدث بدوره عن ضرورة “الوقوف في وجه ثقافة القيم المتوحشة التي أصبحت تهدد سلامة الإنسان والعمران، وصيانة البناء الهوياتي”، والحاجة للعمل “من أجل تخليق الحياة العامة التي أساسها الإيمان بأن أسلحة الحوار هي الكفيلة بتدمير أسلحة الدمار”.
أما مولاي البشير الكعبة، رئيس المركز الدولي لخدمة اللغة العربية، فقد انصبت مداخلته على “أهمية التربية الوالدية بوصفها آلية تساعد على تنشئة الأجيال وتأهيلهم لمواجهة الحياة، ليصبحوا مواطنين صالحين في المجتمع”، ووضح أن الندوة “لن تعالج كل الإشكالات المرتبطة بموضوع التربية الوالدية، بقدر ما تثير أسئلة جوهرية تلامس قضايا تدخل في إطار الوعي الجمعي والهم المشترك”.
وفي مستهل مداخلات الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها الأكاديمي عبد الجليل هنوش، قال الأكاديمي مصطفى الزباخ إن مفهوم التربية الوالدية يجد أصوله في كتب التراث الإسلامية والنظريات التربوية وأبحاث العديد من المفكرين العرب القدماء أمثال: ابن خلدون، الغزالي، القيرواني…
وتابع موضحا الحاجة إلى “إزالة اللّبس الحاصل بين مفهوم التربية الوالدية التي تشمل الوالدين فقط، ومفهوم التربية الأسرية التي تتجاوز الوالدين إلى أفراد أخرى (الخال والعم والجد)”، قبل أن يذكر أن “تربية الأبناء على القيم الأخلاقية والنقدية والثقافية مشروع مجتمعي وحضاري ينبغي أن نوليه أكبر اهتمام، لما له من دور في تربية الأبناء وتأهيلهم لمواجهة الحياة بأسلوب تربوي شامل أساسه الوسطية والتدرج والمرجعية الإسلامية.”
وفي مداخلتها بعنوان “من الوالدية الإيجابية إلى الأسرة الإيجابية”، قدم الأكاديمي محمد الزعري خلاصة بحث ميداني جمعوي أنجزته “مؤسسة زاكورة” بناء على معطيات إحصائية شملت مجموعة من الأسر المغربية التي تعرف تزايد وتنوعا كبيرا وتواجهها تحديات كبرى، “يشكل الانتقال من الوالدية الإيجابية إلى الأسرة الإيجابية الحل الأمثل لمواجهتها”.
ومن التحديات التي رصدها البحث “تحدي الهوية نتيجة الاستلاب الفكري ونموذج الأسرة المأمول من جهة، وتعزيز الهوية المغربية والتعدد الثقافي من جهة ثانية، وتحدي الهشاشة الذي يتجلى في تواضع الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للأسر وتزايد فقرها، وتحدي الصحة النفسية؛ ذلك أن نمط الحياة المعاصرة أسقط الأزواج في فخ التوتر والضغط النفسي، مما أدى إلى غياب مقومات الحياة الأسرية المتوازنة المتمكنة من المقاربة النفسية والاجتماعية، وتحدي التربية والتعليم في ظل التحول التكنولوجي والرقمي، وتحدي القيم في وقت نسجل فيه تراجع منظومة القيم.”
أما مداخلة حميد بودار، الخبير لدى منظمة اليونسكو واليونيسف، فذكرت أن الهدف ليس هو استحضار الإشكالات فقط، “بقدر ما هو سبيل لاقتراح الحلول الإجرائية لأزمة النموذج، بالتركيز على الطرح الأكاديمي النابع من الأصول المعرفية النفسية والاجتماعية، ومساءلة التمثلات والذهنيات التي تنتقل لسلوكيات.”
وحذّر المحاضر من الخطر الذي يهدد الهوية الثقافية، أو كما سماها “الثقافة الهوياتية”، من “الغزو الفرنكفوني الذي يجعلنا أمام نموذج وجودي أصبح يتدخل في كل أشكال التفاعل والتواصل اليومي داخل الأسرة والمجتمع ككل، إلى حد التباهي”، وهو إشكال يزداد خطورة “عندما يتعلق الأمر بمرحلة المراهقة التي تتميز بإعادة إنتاج ما تم تلقيه وامتصاصه من الآخر بطريقة أو بأخرى عبر أفعال وسلوكيات، خاصة وأن اللغة حمالة تصورات وحمالة ثقافة وحمالة إيديولوجيات”.
من جهتها، اعتبرت الأكاديمية حياة الدغاي أن الرهان اليوم “هو إعداد جيل يملك نظرة مستقبلية تتلاءم مع احتياجاته وتطلعاته الفكرية والمعرفية”، وهو ما لن يتأتى “إلا عن طريق الإيمان بالدور الإيجابي للحافز الذاتي في تعديل السلوك التطبيقي عند الأشخاص (الأطفال) المتمردين ليتحولوا إلى أشخاص فاعلين إيجابين، مع ما يتطلب ذلك من مقتضيات أهمها: زرع الثقة بالنفس في نفوسهم، وإدماجهم في أنشطة اجتماعية (المجتمع المدني)، وإيلاء أهمية كبيرة لدور الأم والأب في التربية الوالدية، وتعزيز المهارات الحياتية عند المتعلمين والطلبة.”
ومن زاوية قانونية قارب الأكاديمي محمد خروبات مفهوم التربية الوالدية مقدما قراءة في بنود مدونة الأسرة التي أطرت الأسرة بميثاق الزواج، وحددت حقوق الأبناء على الآباء، وقننت شروط الحضانة والتبني وغيرها من المقتضيات التي سنتها والتي عبرها نستطيع تحديد مواصفات “التربية الوالدية المنشودة”.
ومن بين الحلول التي اقترحها للحد من “الخطر الذي يهدد الإنسانية من التدمير الشامل الذي يراد له نسف القيم”، العمل في اتجاه ضبط علاقة الطفل بربه، وعلاقته بنفسه وعلاقته بالآخرين، ثم إصلاح الذات قبل الآخر؛ لأن التربية قبل كل شيء تكون بالفعل وليس بالقول، إضافة إلى الرجوع الى الثوابت الموجودة في الخطاب الديني، والتي حددت مواصفات مكونات الأسرة وحسمت في نظامها؛ “فلسنا بحاجة الى نظريات غربية كي نؤسس قواعد التربية”؛ ذلك أن “كل القيم النبيلة التي يأخذها الطفل من والديه تكون بمثابة اللبنة الأولى لبناء أسرة متماسكة ومجتمع متماسك”، قبل أن ينهى كلمته بـ”التشديد على أن التربية شأن مجتمعي تتدخل فيه أطراف متعددة من أسرة ومدرسة ومجتمع وإعلام.”
أما الأكاديمي عبد الرحمان العمراني فقد سجل أن “التربية الوالدية نابعة من جملة آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فهي مسألة تعبدية تربط الإنسان بأخراه قبل أن تربطه بدنياه”، وشرح في هذا السياق مضمون الآية القرآنية: “وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا”؛ إذ “التربية تكون في الصغر، ومن قبل الوالدين معا: الأب والأم على حد سواء حسب المرحلة العمرية للطفل، ولنا في وصايا لقمان لابنه من القيم والأخلاق والموجهات ما يكفي لتحديد معالم التربية الوالدية السليمة القائمة على الرفق واللين والتوجيه والتعليل.”
في حين استقرأت الأكاديمية حنان الخياطي العديد من المصادر القديمة والحديثة وخلصت إلى “غياب تحديد مفهومي دقيق لمصطلح التربية الوالدية”، ولاحظت “ألا وجود له حتى في المنابر الإعلامية”، مما جعلها تدعو إلى “تبني رؤى تؤصِّل مفهوم التربية الوالدية التأصيل الشرعي، حيث كان الإسلام سباقا لذلك، بدءا بالبناء العقدي ووصولا إلى المهارات الرياضية (السباحة والملاحة والرماية).”
كما استخلصت المتدخلة تعريفا إجرائيا للتربية الوالدية بوصفها “مجموع القدرات والمهارات التي تمكن من إعداد أبناء وفق منهج الله للعيش في زمانهم بكفاءة واقتدار”، تقوم على مقومين هما “مقوم الفطرة ومقوم الوظيفة التي تتجاوز معنى الرعاية إلى خلق إنسان متوازن.”
وخصصت أسماء لعكري عرضها لمقاربة “مفهوم أزمة التربية الوالدية من منظور الروائيين المعاصرين المغاربة في منتصف القرن العشرين”، معتبرة أن الأعمال الأدبية بصفة عامة والروائية بصفة خاصة، إنما هي “انعكاس للحياة التي عاشها مبدعوها، ووسيلة لترجمة الواقع بطريقة شعورية أو غير شعورية، حيث ينقل الكتاب عبرها أحداث ومواقف ترسبت في أذهانهم خلال فترات زمنية مضت، خاصة في مرحلة الطفولة، وتركت آثارا كبيرة في مساراتهم الحياتية”، وقدمت أمثلة لذلك بـ”رواية الخبز الحافي” للكاتب محمد شكري، و”مختلف” للكاتب مولاي الصديق الرباج، إضافة إلى روايات الكاتب فؤاد العروي.
المصدر: هسبريس