الورطة الفرنسية في كاليدونيا الجديدة .. إقليم استراتيجي وساحة للتنافس الدولي
يرى سفيان يوان أديمولا، خبير متخصص في السياسات الخارجية، أن إقليم كاليدونيا الجديدة ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لفرنسا، واصفا إياه بأنه أحد الأركان الأساسية في الاستراتيجية الفرنسية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، مستحضرا الصراع القائم بين مؤيدي الاستقلال والموالين للحكم الفرنسي.
الباحث ذاته، في مقال منشور على منصة مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة بعنوان “هل تتحول كاليدونيا الجديدة إلى ساحة للتنافس الدولي؟”، أشار إلى وجود قوى خارجية مختلفة نشطة في هذه المنطقة. وأضاف أن هذا الإقليم متأثرٌ بشدة بالمنافسة بين الولايات المتحدة والصين، لافتا إلى أن وجود مثل هذه الأزمة الداخلية فيه سيضعف بالتأكيد الوجود الغربي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وأبرز أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة يزيد من تعقيد الديناميات السياسية في كاليدونيا الجديدة، وقد تسعى الحركات المؤيدة للاستقلال إلى التحالف مع الصين أو روسيا لكسب ثقل موازن للسيطرة الفرنسية، في حين من المتوقع أن تتحالف الفصائل المناهضة للاستقلال بشكل أوثق مع القوى الغربية للإبقاء على الوضع الراهن.
نص المقال:
كاليدونيا الجديدة هي أرخبيل مكون من اثنتي عشرة جزيرة تقع في جنوب المحيط الهادئ، على بعد 1500 كيلومتر من الساحل الشرقي لأستراليا، وحدث أول اتصال بين السكان الأصليين لتلك الجزر، أي شعب الكاناك، وبين الأوروبيين عام 1774 عندما وصل بعض البحارة الإنجليز إلى شواطئ جراند تير، الجزيرة الرئيسية في الأرخبيل، وأطلق هؤلاء البحارة الإنجليز على الجزيرة اسم كاليدونيا الجديدة تكريماً للاسم اللاتيني لإسكتلندا، التي تسمى كاليدونيا باللاتينية، ثم ما لبثت الإمبراطورية الفرنسية الثانية، بقيادة نابليون الثالث، عام 1853 أن بدأت بشكل منهجي في استعمار كاليدونيا الجديدة، وإنشاء مستعمرة هناك لتعزيز الوجود الفرنسي في جنوب المحيط الهادئ. ثم تم تنصير السكان المحليين وإجبارهم على التكيف مع العادات واللغة الفرنسية، وتم كذلك إلغاء الملكيات المحلية وضم الجزر رسمياً إلى الإمبراطورية الفرنسية عام 1860.
في وقت لاحق من عام 1945، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تغيرت الأوضاع عالمياً؛ إذ تم إلغاء المستعمرات، وتم دمج كاليدونيا الجديدة مع فرنسا كواحدة من أقاليمها فيما وراء البحار، ومنحت فرنسا شعب الكاناك الجنسية الفرنسية وحصل تدريجياً على حق التصويت. وبالعودة إلى الوقت الحالي والنظر في الأوضاع بكاليدونيا الجديدة في الآونة الأخيرة، نجد أن هناك اضطرابات سياسية أدت إلى أعمال شغب وعنف بسبب قانون جديد مثير للجدل كان من المفترض أن يتم إقراره. ففي الواقع كانت هناك محاولة لتغيير قوائم التصويت الفرنسية في كاليدونيا الجديدة، مما نتج عنه إشعال أزمة عنيفة بالأرخبيل؛ وبالتدقيق في هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها هذه الأراضي الفرنسية الواقعة فيما وراء البحار، تتصاعد الأسئلة عن جذور هذه الأزمة وعن أهمية فهم السياسة العالمية في الوقت الحالي.
وبالنظر إلى تاريخ فرنسا الاستعماري الطويل والصراعات المريرة التي وقعت في السابق من أجل إنهاء الاستعمار (مثلما حدث في الجزائر أو الهند الصينية)، فهل تُعد أزمة كاليدونيا الجديدة آخر صراعات فرنسا الاستعمارية، أم أنه صراع جديد من نوع مختلف؟
إقليم استراتيجي
يبدو أن إقليم كاليدونيا الجديدة ذو أهمية استراتيجية بالنسبة لفرنسا، إذ يُعد أحد الأركان الأساسية في الاستراتيجية الفرنسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فضلاً عن ذلك، فإن سياسة الولايات المتحدة القائمة على “التمركز حول آسيا”، وظهور الصين كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية عالمية، جعلا منطقة آسيا والمحيط الهادئ منطقة استراتيجية عالمياً بالنسبة لقوى القارة القديمة؛ ولأن فرنسا ترغب في الحفاظ على مكانتها كقوة عالمية، فإنها تقوم باستخدام أراضيها الواسعة لتكون فاعلاً رئيسياً في مختلف مناطق العالم، خاصة في منطقة المحيط الهادئ؛ ولهذا فإن كاليدونيا الجديدة، باعتبارها أرضاً فرنسية، تستضيف وجوداً عسكرياً فرنسياً كبيراً، يضم قواعد بحرية وجوية، تؤدي دوراً محورياً في تعزيز قدرة فرنسا على إبراز قوتها ونفوذها بالمنطقة.
ومن الناحية الاقتصادية، تُعد كاليدونيا الجديدة ضرورية أيضاً بالنسبة لفرنسا؛ إذ يمتلك الأرخبيل أحد أهم احتياطات النيكل في العالم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الموارد البحرية بالأرخبيل غزيرة، فهو يوفر لفرنسا منطقة بحرية قيمّة بالمحيط الهادئ. وكذلك تتمتع كاليدونيا الجديدة بموقع استراتيجي بين القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى؛ إذ تقع جغرافياً في جنوب المحيط الهادئ. ويوفر موقعها هذا نقطة مراقبة جوهرية لرصد وتأمين الطرق البحرية التي تُعد حيوية للتجارة الدولية والخدمات اللوجستية العسكرية؛ ولذلك وبسبب الدور الاستراتيجي الذي تمثله كاليدونيا الجديدة اقتصادياً وجيوسياسياً لفرنسا، فإن الأخيرة مرتبطة بكاليدونيا بشدة، وعلى الرغم من ذلك، فإن كاليدونيا كافحت كثيراً مع حركات الاستقلال المختلفة بهدف تحرير أراضيها.
جذور تاريخية للأزمة
منذ عام 1945 أصبحت كاليدونيا الجديدة إقليماً فرنسياً فيما وراء البحار. ومنذ ذلك الحين ظهر تعارض واضح بين المستقلين (مؤيدي استقلال الأرخبيل) والموالين للحكم الفرنسي. ففي ثمانينيات القرن العشرين اندلعت الاشتباكات بين الطرفين، وبلغت ذروتها عام 1988؛ إذ قتل المستقلون أربعة من ضباط الشرطة، واحتجزوا 27 آخرين وأحد المدعين العامين كرهائن في كهف أوفيا للمطالبة بإجراء محادثات مع الحكومة الفرنسية حول استقلال كاليدونيا الجديدة.
وكنتيجة لهذه العملية العنيفة أطلقت الحكومة الفرنسية “ميثاق ترينتينير” عام 1988، وهو ميثاق ظهر بهدف إقامة تنمية اقتصادية وثقافية لكاليدونيا الجديدة وشعب الكاناك، فضلاً عن إعادة التوازن السياسي إلى الأرخبيل. وهكذا تم افتتاح مراكز ثقافية جديدة للكاناك، وإدارة عامة لتطوير ثقافتهم. وتم استهداف البطالة من خلال سياسات تنموية واقتصادية مختلفة، ودُربت نخبة محلية لإدارة هذه المنطقة، وافتتحت مدارس جديدة، بالإضافة إلى حرم جامعي جديد لجامعة كاليدونيا الجديدة. وسمحت هذه السلسلة من السياسات الجديدة بالتوازي مع اتفاق نوميا، الذي وقع عام 1998، بالمزيد من الحكم الذاتي لكاليدونيا الجديدة، وخلق تصور لتنظيم استفتاء على الاستقلال بين عامي 2014 و2018.
وتماشياً مع حق تقرير المصير، أشار اتفاق نوميا إلى أنه في حالة ظهور النتيجة سلبية على الاستفتاء الخاص باستقلال كاليدونيا الجديدة، ينبغي تنظيم استفتاء ثانٍ، بل حتى ثالث في حال ما كانت نتيجة الاستفتاء الثاني سلبية أيضاً. ولضمان تقرير المصير لشعب الكاناك تم السماح فقط للمواطنين المسجلين في قائمة الناخبين وقت توقيع اتفاق نوميا عام 1998 بالتصويت. وقد أفاد ذلك سكان الكاناك لأنه منع المواطنين الفرنسيين الذين استقروا في كاليدونيا الجديدة من التصويت على استفتاء تقرير المصير.
وهكذا حدد كونغرس كاليدونيا الجديدة تاريخ أول استفتاء لتقرير المصير في 4 نوفمبر 2018، وكانت نتيجته رفض 56.4 بالمئة من الناخبين استقلال كاليدونيا الجديدة عن فرنسا؛ ومن ثم تأكيد رغبتهم في البقاء جزءاً من الدولة الأوروبية. وعقب ذلك تم إجراء استفتاء ثانٍ في 6 سبتمبر 2020، ونتج عنه تأكيد 53.24 بالمئة من الناخبين مرة أخرى تمسكهم بفرنسا. ثم تم تحديد موعد الاستفتاء الثالث والأخير لتقرير المصير في 12 ديسمبر 2021. وفي هذا الاستفتاء دعت الأحزاب الداعمة للاستقلال إلى مقاطعة التصويت؛ مما أدى إلى انخفاض معدل المشاركة إلى 44 بالمئة فقط من الناخبين. ومع ذلك أعرب 96 بالمئة ممن شاركوا في التصويت عن رغبتهم في البقاء فرنسيين.
ولكن على صعيد آخر، فإن تجميد قائمة الناخبين في كاليدونيا الجديدة طرح جدلاً قانونياً؛ إذ يجرد ذلك العديد من المواطنين الفرنسيين الذين يعيشون في الأرخبيل من حقهم الدستوري في التصويت. وقد أوضح رجل القانون الفرنسي فرديناند ميلين سوكرامانيان أن “المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان صادقت على [تجميد قائمة الناخبين] فقط لأنها خطوة في عملية إنهاء الاستعمار، بشرط أن تكون هذه الخطوة إجراءً مؤقتاً. وينطبق الشيء نفسه على المجلس الدستوري ومجلس الدولة (أعلى السلطات القضائية في فرنسا)، اللذين ذكرا في مناسبات عديدة أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى”؛ ونتيجةً لذلك، وبعد الاستفتاءات الثلاثة، التي عبرت عن رغبة المصوتين في البقاء جزءاً من فرنسا، قرر وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، تقديم قانون جديد يهدف إلى إلغاء تجميد قائمة الناخبين في كاليدونيا الجديدة. وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت نار التمرد في الأرخبيل؛ إذ عارض المستقلون بشكل جذري هذا القانون الجديد، معتبرين إياه أداة استعمارية جديدة من قبل الحكومة الفرنسية لجعل السكان الأصليين أقلية سياسية على أرض أجدادهم.
أطراف دولية أخرى
وتُعد هذه الأزمة، استناداً إلى القانون الدولي، أزمة داخلية، إلا أن هناك قوى خارجية مختلفة نشطة في هذه المنطقة. فعلى سبيل المثال، هذا الإقليم متأثرٌ بشدة بالمنافسة بين الولايات المتحدة والصين، ووجود مثل هذه الأزمة الداخلية فيه سيضعف بالتأكيد الوجود الغربي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد أوضح جرايم سميث، المحلل المتخصص بإقليم المحيط الهادئ بالجامعة الوطنية الأسترالية، أن استخدام الشرطة الفرنسية للعنف في نوميا يمكن أن يدفع الصين إلى تعزيز تسليحها ضد الإرث الاستعماري للدول الغربية بالمحيط الهادئ. في الواقع، أقام الحزب الشيوعي الصيني علاقات قوية مع حزب الكاناك الرئيسي المستقل (وهو الحزب الذي يمثل جبهة التحرير الوطني الاشتراكي) لسنوات.
إن السرد الصيني المناهض للاستعمار، الذي عملت الصين على تسليط الضوء عليه يعكس رغبة الحزب الشيوعي الصيني في التقرب من دول حركة عدم الانحياز، كما أنه يبرز تصاعد قوة الصين في النصف الجنوبي من العالم؛ وما يحدث الآن هو أن قوة الصين المستمرة في التزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تصطدم بالمصالح الأمريكية في المنطقة ذاتها، مما سينتج عنه قيام الصين بتحركات واسعة النطاق لزعزعة استقرار الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة (مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وبالطبع فرنسا)؛ ولذلك من المتوقع أن تستفيد الصين من هذه الأزمة الحالية في كاليدونيا الجديدة لزعزعة استقرار الوجود الفرنسي في جنوب المحيط الهادئ.
علاوة على موقف الصين من الأزمة الحالية في كاليدونيا الجديدة، تأخذ روسيا هي الأخرى موقفاً مماثلاً من الأزمة، وإن كان لأسباب أخرى. فروسيا العالقة في حربها ضد أوكرانيا تلك الحرب التي يرجع سببها في الأساس إلى الدعم العسكري الغربي لنظام كييف تعمل بشكل منهجي على زعزعة استقرار دول “الناتو” في أوروبا وإفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والمواجهة بين فرنسا وروسيا لم تبدأ بأزمة كاليدونيا الجديدة، بل كانت بالفعل قائمة؛ إذ كانت روسيا تحارب المصالح الفرنسية في جميع أنحاء إفريقيا حين زرعت مليشيات “فاغنر” في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2018، وفي مالي عام 2022، وحين أطلقت العديد من حملات التضليل ضد فرنسا منذ فترة. ولكن الموقف الروسي من أزمة كاليدونيا الجديدة يُعد أمراً مختلفاً لأن هذه الأزمة هي شأن فرنسي داخلي، وتدخل روسيا فيه من شأنه أن يضعها في موقف حرج وفقاً للقانون الدولي. ويأتي التدخل الروسي في تلك الأزمة، وفقاً للمصادر الفرنسية، في شكل حملات التضليل، أو الأساليب غير التقليدية؛ إذ رصدت السلطات الفرنسية هجوماً إلكترونياً “غير مسبوق” في كاليدونيا الجديدة ووجد أنه مرتبط بعناوين IP روسية.
بالإضافة إلى كل من الصين وروسيا، فإن هناك دولاً أخرى أقل وضوحاً تتدخل في هذه الأزمة، مثل أذربيجان. فقد بدأ التعارض بين فرنسا وأذربيجان منذ قيام صراع في الأراضي الأذربيجانية في منطقة كاراباخ، التي تسكنها بشكل رئيسي أقلية أرمينية، وقيام فرنسا بدعم جمهورية آرتساخ المعلنة مستقلة ذاتياً، وتنديدها بموقف الحكومة الأذربيجانية؛ مما أدى إلى تدهور العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين بشكل كبير.
رداً على ذلك، غيرت أذربيجان سياستها الخارجية، وعارضت فرنسا في العديد من المناطق، خاصةً في إفريقيا حيث يتراجع النفوذ الفرنسي. وشوهدت هذه السياسات المعارضة تُمارس من قِبل أذربيجان في كاليدونيا الجديدة. فعلى سبيل المثال، أطلقت أذربيجان عام 2023 مجموعة مبادرة “باكو”، التي تهدف إلى “دعم الحرب ضد الاستعمار والاستعمار الجديد”. وكذلك قامت بدعم العديد من الأحزاب السياسية في مختلف الأقاليم الفرنسية التي تطالب باستقلالها عن فرنسا؛ إذ رصدت الحكومة الفرنسية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر بعض مثيري الشغب في كاليدونيا الجديدة وهم يلوحون بأعلام أذربيجان، وحظرت فرنسا تطبيق “تيك توك” في الإقليم بأكمله.
في الختام، قد يكون من السهل تسطيح الأزمة الحالية في كاليدونيا الجديدة واعتبارها مجرد صراع استعماري، ولكن في حقيقة الأمر يُعد الواقع أكثر عمقاً وتعقيداً. فالأهمية الاستراتيجية لكاليدونيا الجديدة اقتصادياً وجيوسياسياً تجعلها مصدر قوة لفرنسا لا تريد الاستغناء عنه. أضف إلى ذلك أن الاستفتاءات الثلاثة لتقرير المصير التي أجريت منذ عام 2018 أسفرت جميعها عن تأكيد رغبة المصوتين في بقاء الأرخبيل إقليماً فرنسياً؛ ومن ثم فإن هذا يؤكد الشرعية القانونية للموالين للحكم الفرنسي بصورة واضحة، ولكن يظل الصراع قائماً بين مؤيدي الاستقلال والموالين للحكم الفرنسي لأن الصراع متجذر بعمق في التاريخ الاستعماري لفرنسا واحتلالها لشعب الكاناك. علاوة على ذلك، فإن التنافس بين الصين والولايات المتحدة يزيد من تعقيد الديناميات السياسية في كاليدونيا الجديدة، وقد تسعى الحركات المؤيدة للاستقلال إلى التحالف مع الصين أو روسيا لكسب ثقل موازن للسيطرة الفرنسية، في حين من المتوقع أن تتحالف الفصائل المناهضة للاستقلال بشكل أوثق مع القوى الغربية للإبقاء على الوضع الراهن.
المصدر: هسبريس