تلجأ العديد من الأسر المغربية خلال العطلة الصيفية إلى الشاشات واللوحات الإلكترونية أملا في سكون البيت، وصرف نظر الصغار عن الشارع وتعويض الاستجمام واللقاءات الاجتماعية.
وبينما يحذر باحثون ومختصون من هذا الاعتياد الذي لا يقتصر أثره على تكريس الخمول وتآكل المهارات، غدت هذه الوسائط ملاذا يوميا لا غنى عنه، وملهى يخفي هاجس الأسرة من مستقبل تربوي وسلوكي مقلق، يتهدد بنية الطفل النفسية ويجعلها عرضة لزرع العنف، والتشبع بخطابات متطرفة، وأحيانا الوقوع ضحية لاستدراجات جنسية لا ترحم براءة الأعمار.
في ظل هذا الواقع، تثار الحاجة الماسة إلى صحوة جماعية تتقاسم فيها الأسرة والدولة والمجتمع المدني مسؤولية بناء زمن عطلة حقيقي لاستثمار الطاقات وصقل المهارات، وزرع وعي وطني متجذر وإحساس عميق بالمسؤولية والذات.
آثار نفسية
هاني البقالي، أخصائي في العلاج النفسي الحركي، قال إن الاعتماد المفرط على الوسائل الإلكترونية كبديل عن السفر والاستجمام في بعض الأوساط الأسرية، “لا يخلو من آثار نفسية وسلوكية مقلقة، خصوصا لدى الأطفال”، مشيرا إلى أن هذا الخيار، وإن بدا مريحا في الظاهر، إلا أنه “يسهم في تآكل الحس الإبداعي لدى الناشئة، نتيجة الاستهلاك المستمر لمحتوى جاهز لا يتيح لهم فسحة التفكير الحر أو تطوير قدراتهم الذهنية”.
وأضاف البقالي، في تصريح لهسبريس، أن “العزلة الاجتماعية تزداد بشكل ملحوظ مع تراجع فرص التفاعل الواقعي، ما يُضعف التجربة الحياتية للأطفال، ويجعلهم أكثر التصاقا بالزمن الافتراضي وأقل قدرة على تنظيم يومهم بشكل صحي وطبيعي”.
وحذر المتحدث من الآثار العميقة لهذا النمط من العيش، التي تشمل “ضعف التركيز، وتراجع الثروة اللغوية، وانفصال الطفل عن الإيقاع العادي للحياة، مع ميول متنامية للانغلاق على المحتويات الإلكترونية المتكررة”، موردا أن من بين المؤشرات المقلقة، “رفض التواصل العائلي المباشر، وأحيانا تمرد الطفل على كل ما يمثّل النموذج التواصلي التقليدي داخل الأسرة”.
ولتجاوز هذه الوضعية، دعا الأخصائي النفسي الحركي إلى برمجة أنشطة واقعية ممتعة داخل المحيط الأسري، من قبيل الرحلات القصيرة، الألعاب الحركية، والورش الإبداعية، مع تنظيم وقت الأطفال بين الشاشات والأنشطة التربوية والاجتماعية.
كما شدد على “أهمية تنمية الوعي الزمني، وتحفيز الأطفال على إنشاء مشاريعهم الشخصية، كوسيلة فعالة لاستعادة التوازن النفسي وتنمية الشعور بالإنجاز”، مشيرا إلى أن “أبسط التفاصيل، مثل تناول الوجبات في أجواء أسرية دافئة، بعيدا عن الشاشات، يمكن أن تعيد للطفل تواصله مع ذاته ومع من حوله”.
اختيار تربوي
قال محسن اليرماني، باحث في الفكر والعقيدة، إن العطلة الصيفية تعد “فرصة ثمينة للمساهمة في تشكيل معالم شخصية الأطفال واليافعين، باعتبارها فترة يتفاعلون فيها مع محيطهم الاجتماعي، الذي يمثل مدرسة مفتوحة يتلقّون من خلالها دروسا تطبيقية ومهارات حياتية”.
وأضاف اليرماني، في تصريح لهسبريس، أن المتتبع للواقع اليومي داخل العديد من الأسر خلال هذه الفترة، يلاحظ انكفاء فئة واسعة من الأطفال والشباب، وحتى الكبار، على الهواتف الذكية ووسائل الإعلام الحديثة ومواقع الإنترنت، وهو ما أدى إلى تراجع المشاركة الفعلية في الحياة الواقعية والاجتماعية، لا سيما لدى اليافعين.
وأورد الباحث ذاته أنه “رغم إدراك كثير من الآباء والأمهات المخاطر المرتبطة بالإدمان على الشاشات، وما قد ينجم عنها من آثار نفسية وسلوكية، كتشوش الهوية الفكرية والعقدية، وانهيار بعض القيم الأخلاقية مثل العفة والحياء، وكذا الانزلاق في ممارسات خطيرة كالفحش في القول أو الشذوذ أو تعاطي المخدرات، فإن هذا الوعي لا يترجم غالبا إلى مواقف حازمة، إذ يقتصر منع الهواتف في الغالب على فترة الدراسة، ويتم منح الأبناء حرية استعمالها خلال العطل، بدعوى تلبية رغباتهم وعدم حرمانهم مما يحبون”.
وأشار اليرماني إلى أن السماح باستعمال الهواتف الذكية أصبح بمثابة “جائزة” يحصل عليها التلاميذ في نهاية السنة الدراسية، كما تحول الهاتف إلى أداة تفاوض بين الآباء وأبنائهم.
وفي هذا السياق، دعا الدكتور اليرماني الأسر المغربية إلى “إعداد برامج صيفية متكاملة وبديلة، تتضمن أنشطة تثقيفية وترفيهية وتربوية، مثل السفر، والمخيمات الصيفية، والزيارات العائلية، واكتشاف مناطق جديدة، وممارسة الرياضة، والمطالعة الحرة، إضافة إلى تخصيص وقت لحفظ القرآن الكريم، سواء داخل البيت أو في الكتاتيب القرآنية”.
المصدر: هسبريس