الزمن الجميل
الزمن الرديء
حين تصفو نفسي أسترجع عبر ومضات سريعة شريط طفولة لم أعشها كبقية الأطفال.. إنه ماضٍ ياسرني، هو لي وحدي، جميل رغم كل شيء مادام، اليومَ، تأسيساً على بعض فصوله، أعيد صياغة حياتي، أو بعضاً منها على الأقل.
الأشقياء مثلي اعتادوا أن يفرقوا بين الزمن الجميل، والزمن غير الجميل (حتى لا أقول الرديء) دون أن يدركوا الحدود الفاصلة بينهما لمعرفة كُنَه الأول، وسر الثاني، وإن كانوا يعنون، في الغالب، بالنسبة للجميل ذلك الماضي الذي يمكن وصفه بالأبيض والأسود قبل الهجمة التكنولوجية الشرسة، والتي، حسب رأيهم، السببُ في غرق الجميع في وحلها رغم مناقبها الكثيرة، هم يعنون إذاً البساطة في العيش دون تعقيد.. وأنا أعني الجانب الأسود منها.. الظلم، والجوع، والعري، و…
في أواخر السبعينات، وبداية الثمانينات، في هذا الزمن الجميل الأبيض.. كنتُ مع الصغار من أقراني نعلن التحدي لإبراز ذواتنا في مدينة منسية فضاءاتُها موبوءة ومسدودة، عشنا فيها مضطرين حِيناً، وأبطالاً صغاراً في أحايين كثيرة، لا الزمان طاوَنا، ولا الأمكنة حَوَتنا إلا صحبةَ معاناة كانت أكبر من أن نتحملها، والناظور ما كانت لتعني لنا أكثر من فضاء واحد يتيم هو شارع محمد الخامس، بل لم نكن نسمي الناظور إلا لهذا الشارع، وبقية البطون ليست منه لدرجة أننا كنا نجيب كل من يسألنا عن وجهتنا، ونحن في الناظور، كنا نقول: “ذاهبون إلى الناظور”.
نحن في بطن الناظور، ونقول ذلك كما لو كنا في بلد آخر.. ولم نكن نعني طبعاً سوى شارع محمد الخامس، وكل بطون المدينة مختزَلة فيه بشكل كبير.
والفضاء الجميل حقاً الذي كان يطوينا نحن المراهقين يومها هو جمعية “الانطلاقة الثقافية”، كبرنا فيها، بل وهناك تشكل وعينا حين فتحنا أعيننا على حقائق كثيرة، أغلبها كان يُطرَح طرحاً غير صحيح البتة فيما له علاقة بالشأن المحلي لمدينتنا.. اعتدنا على الاختلاف إلى الجمعية كل مساء لنلعب الشطرنج، ونحن نسمع مارسيل خليفة وهو يصدح:
أحن إلى خبز أمي،
وقهوة أمي..
وكذلك أحمد قعبور الذي كنا نردد معه:
أناديكم، وأشد على أياديكم،
وأبوس الأرض… تحت نعالكم..
( … )
وسعيد المغربي الذي كان يشنف أسماعنا بأغانيه الجميلة، كلماتها منتقاة من منهل الواقع حيث القضايا مطروحة بدون ماكياج على غرار الأفلام الهندية التي خدرتنا لسنوات، هناك بدأنا نتعرف ما معنى أن يكون الفنان ملتزماً حين يكرس فنه من أجل خدمة المتلقي؛ فهمنا أن الفن الأصيل هو الذي ينقلك إلى عالم آخر لكن حقيقي، الوقائع مطروحة بشكل صحيح، لها صلة بالقهر، وظلم الإنسان للإنسان، أما ميمون الوليد الذي غنى عن “أدْشَار إينو” كانت أغانيه تجعلنا نحس بمدينتنا بشكل أفضل، بشكل أفضل والله.
أغانٍ كثيرة كانت تغسلنا من الداخل، وتجعلها تَرِقُّ وتفعل فينا فِعل مُزْنَة في الأرض، بعد البرق الخُلَّب، صحيح كنا صغاراً لكن كنا نعي الظرفية التاريخية التي سيّجت هذه الأغاني، شيء ما في دواخلنا كان يتملكنا حين نسمعها.
وحين نكون في موعد مع عروض يلقيها أساتذة أعزاء مثل عمر الحسني، وعبد الله حرش، وعبد السلام الفارسي، ومحمد أقوضاض، ومحمد ميرة.. كنا ننخرط في تظاهرة لكن علمية، وكان يوم العرض بالنسبة إلينا كرنفالاً حقيقياً، كانت مضامين عروض هذه الأسماء الكبيرة تمدنا بالطاقة، وتملأنا بأساً لمواصلة مشوارنا الدراسي. لقد أفادونا، وأمتعـونا في مدينة منسية، أهلها ضُرِب عليهم الخناق لأنهم “أوباش”.
ثانوية عبد الكريم الخطابي كان عالمنا المفضل، ولكنها لم تكن كل العالم، كانت هناك جمعية “الانطلاقة الثقافية” التي كنت أعتبرها المدرسة الثانية، تخرج منها أطر تركوا بصماتهم في الشأن المحلي الناظوري، أغلبهم الآن قضاة، محامون، أساتذة، فنانون، رسامون، منشطو برامج…
إيــه، يا زمن!
تُراك تذكرنا حين كنا نتلمس طريقنا، ونحن زُغَب الحواصل، في ناظور مغلق، لا باب خلفي له..
تراك تغفــر لنا شقاوتنا ونحن مراهقون..
تراك تذكرنا ..؟
تراك تذكر كيف كنا؟
لحظة يا أنا، دعني أقول لك كيف كنت أنا:
فتحت عيني في مدينة يغيب فيها أبسط شروط الحياة الكريمة، وفي أيام الآحاد، والعطل إذا لم ألعب كرة القدم، فإنني أظل أحرس باب سينما الريف، و”الرويو” لساعات لمعرفة فيلم اليوم، ولم يكن سوى فيلم هندي يخدرني لساعات.
كنت أعشق الأفلام الهندية وكانت هيما مالي، وممتاز، وريكا، وشارميلا طاغور فنانات يشغلن بالي، صورهُنَّ تسكن من أقراني القلوبَ، والأهداب، بعضنا وأنا منهم إذا انتهى الفيلم خرج حالماً، وفي البيت يحمل معه وقائع الفيلم، يخرج كراسته، فيبدأ في تسجيل عبارات الغرام الأثيرية التي أسمَعَها البطل لمعشوقته.
كنت أرسل شعري، وأتركه يندلق على كتفي، حسب الموضة، ولا زلت أتذكر اليوم الذي انخرط أصدقائي فيه بضحك هستيري حين أخبرتهم ببراءة بأني لا أحب المطر وحين استفسروني رددتُ بعفوية: “المطر يفسد تسريحة شعري”.
وكأي مراهقين كنا نحرص على هندامنا، وكان شرط سراويلنا الطويلة أن تكون ذات أكمام واسعة pattes d’éléphant تصل أخمص القدمين مع ضرورة تغطية الكعبين، نتباهى بها، ونسير بها في الأرض مرحاً، وكنا نحرص أيضاً على أن يكون لسراويلنا من الأرض نصيب وإلا فهي لا تستحق أن تُلبس.
كانت حياتنا عادية لكن حافية، ومع ذلك تمسكنا بها لأنها حياتنا عشناها بعمق رغم الكفاف، كنا نعتبرها كما قال ناظم حكمت بيت أبينا لا دار مستأجر.. مارسنا طفولتنا ومراهقتنا “بالخبز الحافي” ومع ذلك لم نكن نعدم وسيلة في الخروج من خندق “اللاشيء”، كتبنا خواطر، وأشعاراً، وقصصاً، ونظمنا رحلات.. بكلمات قليلة: “عرفنا مصيرنا فاقتحمناه”.
أما أشهر المقاهي التي كانت تُوسَم بأنها مخملية يومئذ فكانت “المنزه” ومقهى “الدار البيضاء” المركونة وسط شارع محمد الخامس، وإن كنا نفضل الجلوس في club العلامة الفارقة التي كانت تسم مدينة الناظور..
لحظة، من فضلكم..
على ذكر المقاهي هل تتذكرون مشروب “كروش” في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات.
لست أدري كيف حصل الاتفاق، والإجماع على أنه مشروب لا يليق بمتمدنين، فهو وقف على المتخلفين، لذلك لم يكن أحد منا يجرؤ على طلبه، وإلا سيكون مثار سخرية الأصدقاء، يا الله، كم كان مذاقه منعشاً، ومع ذلك فقد كنا نتشبه بالمتمدنين، ولا نقربه، شخصياً كنت أشربه خلسة، وإذا ارتويت ألقيت بزجاجته، ثم أفحص نفسي، وألعنها قائلاً: “أيها المتخلف الصغير”، لكن سؤالاً ظل يؤرقني هو: ما الفرق بين متخلف يستتر، وآخر يعلنه ويشرب كروش على مرأى الجميع؟ ثم هل هذا هو التخلف؟ … أسئلة كثيرة جَفَّت على لساني دون إجابة واحدة ترويه..
“كروش” مشروب المتخلفين،
يــــــاه كم كنا مساكين!
كنا نعيش في ناظور مثل مستنقع، الفراغ ينخرنا من الداخل والخارج، مسؤولونا الكبار جاروا علينا، وكانوا مثالاً ليس للسرقة، بل كيف تُسْحَت هذه السرقة، (اللصوص ليسوا سواسية، لص فنان ليس كمن يسرق كيفما اتفق..).
لقد حوّل رؤساء المجلس البلدي الناظور مدرسة للنهب لمن يريد أن يتعلم.. هم ربما كانوا يشربون كروش، وبدل أن يسخروا من المشروب كانوا يسخرون منا في جلساتهم الحميمية، يسكرون بأروع “الكانيات”، وبأغلى أنواع الويسكي في مليلية المحتلة.. وحين يرون الحمار غزالاً تَنُمُّ عيونهم، وتزداد أفواههم اتساعاً، ثم يبدأون في نهش لحم مدينتنا، هم يعتبرون أهلها متخلفين، ومدينتهم لا تستحق أية تنمية، وعليه فإن أي مشروع يجب ألا يطالها، بل كل من يريد أن ينجح عليه أن ينقل مشروعه إلى فاس، أو الرباط أو الدار البيضاء… كانوا يعتبرون أهل هذه المدن هم المتحضرون، أما أبناء الناظور مجرد متخلفين، وحثالة يعيشون على التهريب.. الأنذال نهبوا خيرات الناظور، وتركوها كمغتصَبة غارقة في دمائها بعد أن يتناوب عليها مسؤولون/ ذئاب في هيئة بشر تنكروا لها في الأيام السود سود الله سعيهم، وقبّح الله وجوههم..
السنون مرت بسرعة كما السحاب، واليوم كبرنا، وصرنا شيوخاً،
كل في طريق،
أصبحنا آباء وأجداداً، حققنا مآربنا قد لا تكون كلها، ولكن بعضاً منها، صرنا أطراً تفخر بها عائلاتنا،
ومنا من صار في موقع القرار، لكنه تنكر، بصلف لمدينته وللأصدقاء بطريقة بتنا نراهم بها أقزاماً ليس إلا، بعضهم غير جلده، كرسوا سياسة “كبار” المدينة فكانوا امتداداً لسلفهم وخير خلف لهم، لقد ترك الأنذال الأسلاف أثرهم فيهم، تخرجوا من مدرستهم، علموهم لا كيف يبنون بل كيف يهدمون…
السنوات لم نحس بها، مرت سريعة سريعة.
ومنا من غادر، ومنا من مات، والباقي ينتظر.. وحدها الناظور باقية نرجو أن يعيش أولادنا وحفدتنا في زمنها المُهَم كما في المثل الصيني.
لحظة رجاء: هل الناظور اليوم فعلاً تتغير؟
المصدر: هسبريس
