في اليوم السابع من فعاليات النسخة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة التي تمتد إلى غاية 25 أكتوبر الجاري، يتجدد اللقاء مع السينما المغربية في أبهى تجلياتها، حيث تتقاطع التجارب الإبداعية بين الواقع والحلم، بين الذاكرة الفردية والجماعية، وبين السينما التي تسائل المجتمع وبين تلك التي تصالحه مع ذاته. هو يومٌ تتنفس فيه الشاشة الكبيرة حكايات من لحم هذا الوطن ووجدانه؛ من العيطة التي تصدح بوجع الأنثى في فيلم “الجميع يحب تودا”، إلى عتمة المناجم في فيلم “المينة”، مرورا بذاكرة النسيان والحنين في فيلم “شذرات”، وصولا إلى مأساة البيروقراطية والكرامة في فيلم “حدائق الجنة”، إنه يوم بالفعل يكرس تنوع الرؤى وقوة التراث وثراء الأصوات في المشهد السينمائي المغربي.

“الجميع يحب تودا”

في فيلم “الجميع يحب تودا” (2024/ 102 دقيقة) للمخرج نبيل عيوش، نجد أنفسنا أمام تجربة سينمائية تنتمي بعمق إلى سينما الشخصيات حيث تتحول البطلة إلى مرآة لأسئلة المجتمع والهوية والأنوثة. تودة، التي تجسدها نسرين الراضي، ليست مجرد شيخة تغني العيطة، وإنما امرأة تصارع كي تعيد للغناء الشعبي كرامته، ولجسدها حقه في الاحترام، ولحياتها معنى يتجاوز الغواية والعار. ومنذ المشهد الافتتاحي، حيث العيطة تمتزج بالخمر وبالرقص الجماعي، يضعنا المخرج في قلب التناقض المغربي بين الطرب والحرام، وبين الفن والجسد، وبين اللذة والألم. ويفتح الاغتصاب الوحشي بالغابة في بداية الفيلم على يد ثلاثة رجال الجرح الذي سيظل ينزف طوال الفيلم.

ويحيل هذا إلى اسم تودة (تودا)، الذي يعني في اللهجة المغربية هو تصغير أو تحوير لاسم فاطمة الزهراء أو فاطمة التودة، وأحيانا يُستخدم كاسم شعبي يدل على الأنثى البسيطة، القروية، أو المحبوبة؛ لكن من حيث المعنى اللغوي الأصلي، “تودة” مشتقة من الجذر “ودّ”، أي المحبة والمودة، فيكون معناها القريب “المحبوبة” أو “الودودة”. وفي السياق الثقافي والسينمائي في فيلم “الجميع يحب تودة”، يحمل الاسم دلالة رمزية وجمالية: لا تمثل تودة فقط اسما لشخصية، بقدر ما تمثل الأنثى المغربية التي تجمع بين الودّ والجرح، بين الحنان والتمرّد، فهي امرأة تحب وتُحب؛ لكنها تُواجه قسوة العالم بصوتها وغنائها ولرقصها، وبهذا تعني تودة المحبوبة أو الودودة، وهي في الفيلم رمز للحب، وللمرأة التي تحيا رغم الألم وتُصرّ على الغناء كي تظل على قيد الحياة.

وتمثل تودة، المرآة المكسورة في بيتها، نصف صورة لنصف حياة، تكثف المعنى الرمزي لانكسار الذات أمام مجتمع لا يرى في الشيخة إلا جسدا قابلا للاستهلاك. وبجانب ابنها الصغير ياسين، (تسع سنوات) الذي لا يتكلم، تتحول لغة الإشارة بينهما إلى شكل آخر من التواصل، صامت لكنه أكثر صدقا من كلام الآخرين. ولا يعتبر الصمت في الفيلم غيابا أو تغيبا للكلام وإنما مساحة لقول ما لا يقال، حيث تنطق العيون بما يعجز اللسان عن قوله. وتواجه تودة كأم وامرأة وفنانة قسوة الواقع بصلابة المغنية الشعبية التي تعرف أن صوتها هو سلاحها الوحيد.

وتظهر رقية، الأخت، كنقطة توازن بين الخضوع والتمرد، بينما تجسد حليمة، الشيخة المنافسة، كوجه آخر للمهنة، امرأة تستسلم لإغراءات الحانة والمال؛ لكن تودة في لحظة ما تقول عبارتها الشهيرة: “أنا لست قحبة أنا شيخة”، لتلخص المأزق الأخلاقي الذي يعيشه هذا العالم النسائي المغلق حيث الحدود بين الفن والانحراف تكاد تتلاشى.

ويتنقل الفيلم بين فضاءات الأعراس والفنادق والحانات والمواسم، في رحلة تكشف التحولات الجسدية والنفسية للبطلة. ومن الأطلس المتوسط إلى غول الدار البيضاء، تتغير الألوان كما تتغير نبرات العيطة؛ من دفء القرية إلى برودة المدينة، ومن البساطة إلى التعقيد. وترتدي تودة في المدينة الأبيض متخلية عن اللون الأحمر، كأنها تمر من النار إلى الماء، من الخطيئة إلى محاولة التطهير، مشهد السباحة في النهر يصبح لحظة غسيل داخلي من كل الأدران، وإعلانا عن رغبة في الولادة من جديد.

ويشتغل المخرج نبيل عيوش بلغة بصرية تعتمد على الجسد والنظرة والإيقاع، فيجعل من الغناء بديلا للحوار ومن الرقص تعبيرا عن المقاومة. ولا تمثل الموسيقى خلفية وإنما كيان حي يرافق تطور الشخصية. ولا تعتبر العيطة في الفيلم مجرد فن تراثي، وإنما شهادة فنية على معاناة النساء اللواتي غنين ليبقين على قيد الحياة. لذلك يصبح صوت تودة بطلا موازيا، يكبر معها ويتحول من وسيلة تسلية إلى نداء حرية.

العبارة التي ترددها أم تودة “اللهم العيطة ولا زواج الذل” تختصر فلسفة الفيلم، فهنا لا يتعلق الأمر بمهنة بل باختيار للكرامة، بالتمسك بالفن كملاذ أخير ضد القهر. ويرفض شقيق تودة في البادية مصافحتها والحديث معها ووسمها بالشيخة، يمثل النظرة الذكورية التي لا تفهم الفن إلا من خلال الجسد، بينما في البيت ومع عائلتها تودة تبدو أكثر إشراقا، كأن العيطة تمنحها لحظة صلح مع نفسها ومع الطبيعة.

من جانب آخر، قدمت الممثلة نسرين الراضي جهدا استثنائيا في الاشتغال على الشخصية من خلال الجلوس لمدة سنة مع الشيخات بمناطق مختلفة من المغرب خاصة أسفي، ومرافقتهن ومعرفة طقوس العيطة عن قرب. لذلك، جاء دورها استثنائيا وغير نمطي تتعايش مع العيطة كهاجس يسكنها في دور استثنائي مبهر ومؤثر ومقنع إلى حد كبير؛ “كان يبحث عنها منذ سبع سنوات لينطلق الفيلم”، بتعبير المخرج نبيل عيوش خلال الندوة الصحافية.

ويقدم فيلم “في حب تودا” صورة إنسانية لامرأة تقاوم الانكسار بالغناء. ويحرر الفيلم العيطة من فضاءات العتمة إلى الضوء، ومن الحانة إلى الشارع، ومن الجسد إلى الروح. ولا يدافع نبيل عيوش فقط عن الشيخة وإنما عن حق الفن في أن يكون فعلا للكرامة، وعن حق المرأة في أن تُحب لا لأنها تُغني، وإنما لأنها إنسانة تعرف أن صوتها يمكن أن يغير العالم، ولو بمواويل من وجع وحرية.

ذاكرة الفحم

يمثل فيلم “المينة” (2025/ المدة 20 دقيقة) للمخرجة راندا معروفي رحلة بصرية داخل عمق الذاكرة السوداء لمدينة جرادة، المدينة التي شكلها الفحم واستهلكها في الآن نفسه. وتنزل الكاميرا ببطء إلى باطن الأرض كما لو أنها تشق طريقها في ذاكرة جماعية مطمورة، لتكشف عن وجوه متعبة وعمال يزحفون على أنصاف أجسادهم وسط عتمة لا تنتهي. ولا يرتكز المكان هنا على ديكور خاص، وإنما كائن حيّ ينبض بالدخان والعرق والرماد، حيث تتحول الحفرة إلى مرآة للمجتمع بأكمله. وبين الأكياس السوداء والمصابيح الصغيرة تتجسد حياة منسية، تحرسها أيدي شيوخ وشباب يواصلون العمل رغم غياب الأمل. وتتقاطع الصورة مع السياسة حين تستعيد الكاميرا صدى الاحتجاجات والاعتقالات التي أعقبتها، لتتحول جرادة من مدينة للفحم إلى مدينة للغضب.

وفيلم “المينة” ليس مجرد وثائقي عن منجم مغلق، بقدر ما هو فعل مقاومة جمالي يستنطق الذاكرة المنسية للعمال ويمنحها جسدا جديدا على الشاشة. إنه من أفلام السينما البديلة والسينما المضادة التي ترفض التجميل، وتواجه الواقع ببطء الصورة وصدق التفاصيل، لتسائل علاقة الإنسان بالمكان والزمن، وتؤكد أن ما مات في أعماق الأرض ما زال يتنفس في عيون من بقوا فوقها.

فيلم “شذرات”

يأتي فيلم “شذرات” (2025/ 93 دقيقة) من إخراج حنان فاتن محمدي وعبد الإله زيراط كأنغام متقطعة من آلة موسيقية قديمة، كل نغمة فيه تحمل شظية من الذاكرة، من الحب، ومن الفقدان. ويفتتح المخرج فيلمه بمقطع من الطرب الأندلسي، كأنه مفتاح الدخول إلى عالم تغمره الموسيقى ويثقله الصمت. وتتوزع الحكاية بين شخصيتين رئيسيتين تجمعهما الهشاشة نفسها وإن اختلفت مصائرهما: غيثة، المغنية التي أفقدها المرض صوتها وذاكرتها، وعمر الكومندو المتقاعد في الجيش، الرجل الصارم الذي لا يغفر للزمن ولا يصالحه. وكلاهما يواجه الشيخوخة والمرض، وكلاهما يقاوم النسيان عبر التمسك بشذرات من ماضٍ يرفض أن يموت.

وكانت غيثة تصدح بالطرب الأندلسي وتحتفي بفريد الأطرش والموسيقى الطربية، أصبحت سجينة دواء وزهايمر وذاكرة مثقوبة. وتتناول حبوبها بانتظام كمن يحاول أن يتشبث بالحياة من خلال طقوس صغيرة. وفي لحظات الصفاء القليلة، تعود لتتذكر عمر، حبها الأول، الجندي الذي أهدى لها فراشة فضية قبل أن يفرقهما القدر. ويتقاطع هذا الحب الضائع مع صمت زوجها حسن، عازف الفرقة، الذي يظل شاهدا صامتا على احتراقها الداخلي. وفي مقابلها، يقف الكومندو الذي فقد شغفه وكل رغبة في الحياة، يعيش في عزلة وغضب دائمين، لا يقبل العلاج ولا زيارة أحد، إلا حين تعود أمل ابنته القادمة من كندا، فتوقظ داخله ما تبقى من إنسان.

ويتخذ الفيلم من الذاكرة بطله الخفي، ويجعل من الزهايمر استعارة كبرى للنسيان الجمعي الذي يصيب الإنسان والمجتمع على حد سواء. فغيثة لا تنسى حبها رغم ضياع كل شيء، وعمر الكومندو لا ينسى السلاح رغم خفوت قوته ولا ينسى غيثة. وهنا، يصبح التذكر فعل مقاومة، والغناء محاولة لاستعادة الذات المبعثرة. وتتحرك الصورة ببطء، في إيقاع هادئ يتناغم مع انطفاء الحياة في الشخصيات، بينما يضيء الصوت الداخلي للفيلم صوت الموسيقى الطريق نحو لحظة صفاء نادرة.

تكمن جماليات الفيلم في قدرته على نسج الحاضر بالماضي من خلال الفلاش باك، حيث تتحول اللقطات القديمة إلى مقاطع من حلم بعيد، تُعيدنا إلى زمن كانت فيه الموسيقى وعدا بالحب والحياة. ويعكس اللون والضوء التحول من النور إلى العتمة، من الذاكرة إلى النسيان، في انسجام مع الحالة النفسية للشخصيات. أما الكاميرا فتسير بهدوء، كأنها تخشى أن تزعج هشاشة اللحظة، مكتفية بالتأمل في وجوه تصارع الزمن والغياب.

ولا يمثل فيلم “شذرات” مجرد فيلم عن المرض أو الشيخوخة، وإنما هو تأمل عميق في معنى الذاكرة كهوية، وفي قدرة الفن على إنقاذ ما تبقى من الإنسان حين تتداعى الأشياء. وغيثة التي ترى نفسها “عصفورة في قفص منذ 48 سنة” تختصر مأساة كاملة لجيل عاش بين قيود المجتمع وأقفاص الذاكرة؛ بينما يتحول اللقاء المتأخر بينها وبين عمر إلى استيقاظٍ رمزي، لحظة عودة للحب والحنين معا.

بهذا المعنى، ينجح الفيلم في أن يكون عملا جماليا بقدر ما هو إنساني، مستخدما الموسيقى الأندلسية ليس كخلفية صوتية، وإنما كلغة للروح، تترجم ما لا يُقال وتعيد تشكيل ما ضاع. وفيلم “شذرات” هو قصيدة سينمائية عن التذكر والنسيان، عن الحنين الذي لا يشيخ، وعن صوتٍ يصرّ أن يغني حتى وهو يختنق بالصمت.

الخلاص ورقة موقعة

تنفتح الحكاية في الفيلم القصير “حدائق الجنة” (2025/ المدة 10 دقائق) للمخرجة صونيا تراب على قلقٍ إنساني يختزل صراع الكرامة في تفاصيل يومية صغيرة؛ فحضور الأب أحمد لتوقيع ورقة انتقال ابنه من مدرسة الكريان إلى المدرسة الجديدة يبدو في ظاهره إجراء إداريا بسيطا لكنه يتحول إلى امتحان للضمير إذ تتقاطع الرغبة في الخلاص مع ثقل الواقع القاسي في عالم لا يمنح الفقراء فرصة للنقاء.

وتبحث الأم نعيمة عن “المقدم” بحثا عن منفذٍ يتيح لها تجاوز هذا الجدار الإداري؛ لكنها تصطدم بجدارٍ آخر هو جدار القيم حين ترفض امتحان الدعارة، وتختار أن تواجه قدرا غير منصف بوسائلها الهشة بين يديها ورقة وقلم وتوقيع غائب لكنها تملك ما هو أصدق من ذلك كرامة الأم التي ترفض أن يُباع جسدها مقابل مستقبل ابنها.

ويشتغل الفيلم على جمالية الصمت وتفاصيل النظرات، إذ تتحول المدرسة إلى رمزٍ للعبور من العتمة إلى الضوء؛ غير أن الضوء هنا ملوث بيروقراطيا ووجعا إنسانيا. ولا تنال نعيمة خلاصها بقدر ما تكشف عن عري الواقع الذي يجعل من التوقيع حلما ومن الكرامة ترفا لا يقدر عليه الجميع. لا يقدم فيلم “حدائق الجنة” وعدا بالفردوس بل مرآة تعذب على جحيم الأرض رفقة طفلها المتخلى عنه.

اختتم اليوم السابع من الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة بحصيلة فنية وإنسانية تؤكد أن السينما المغربية تمضي بخطى ثابتة نحو عمق التجربة الجمالية والجرأة في الطرح. وتنوعت المقاربات بين أفلام تحتفي بالمرأة والفن، وأخرى تستنطق الذاكرة والمكان، فبدت الشاشة المغربية مساحة للتعبير والبوح والاختلاف. فتودا غنت وجعها، وعمال جرادة استعادوا ظلالهم، وغيثة غنت ما تبقى من الذاكرة، فيما نعيمة واجهت واقعها بصمت الكرامة. إنها لحظة سينمائية مكثفة تختصر رحلة البحث عن الحرية والمعنى، وتعيد تأكيد أن السينما ليست ترفا، وإنما لغة حياة تنبض من قلب هذا الوطن.

المصدر: هسبريس

شاركها.