رغم مرور أكثر من أربعة عشر عاما على إقرار دستور المملكة المغربية لمبدأ المناصفة بين النساء والرجال، لا يزال هذا المبدأ يراوح مكانه في مستوى الخطاب، دون أن يجد طريقه إلى الممارسة التشريعية والمؤسساتية. فقد أنهى مجلس النواب التصويت على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس ذاته، دون أي مستجد يذكر في ما يخص تعزيز التمثيلية النسائية، الأمر الذي خيب آمال الحركة النسائية والحقوقية التي كانت تراهن على هذه المحطة التشريعية لتكريس مبدأ المساواة الفعلية.
ينص الفصل 19 من دستور 2011 على أن الرجل والمرأة يتمتعان على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ويؤكد على مبدأ المناصفة بوصفه هدفا تسعى الدولة إلى تحقيقه. غير أن الواقع التشريعي يظهر مفارقة صارخة بين وضوح النص وغموض الممارسة؛ إذ لم تفعّل مقتضيات الفصل التاسع عشر ضمن المنظومة الانتخابية الجديدة، مما يعكس استمرار منطق التردد وضعف الإرادة السياسية في ترجمة الالتزامات الدستورية إلى سياسات عمومية وتشريعية واضحة.
في هذا السياق، تعد الحركة من أجل ديمقراطية المناصفة، بقيادة الناشطة الحقوقية خديجة الرباح، من أبرز الفاعلين في المشهد المدني المدافع عن التمكين السياسي للنساء. وقد كثفت هذه الحركة ( التي تضم قرابة ألف أطار مدني نسائي وحقوقي) منذ غشت الماضي تحركاتها عبر إصدار مذكرات ترافعية وبيانات وتنظيم لقاءات مع الفرق والمجموعات البرلمانية، مطالبة بإدماج المبدأ الدستوري للمناصفة ضمن القوانين التنظيمية.
لكن رغم هذا الزخم المدني، لم تلق المطالب تجاوبًا فعليا، سواء من طرف وزارة الداخلية التي قدمت المشروع، أو من الأحزاب السياسية التي لم تجرؤ على جعل المناصفة محورا للتعديل. هذا الموقف السلبي أظهر بجلاء هشاشة الالتزام الحزبي بقضايا المساواة، رغم تواتر الخطابات الرسمية حول الديمقراطية التشاركية والمواطنة الشاملة.
لقد اعتمد المغرب منذ سنة 2002 “نظام الكوتا” كآلية مرحلية لتوسيع مشاركة النساء في الحياة السياسية، انطلاقا من توافق جمع بين الإرادة الملكية القوية ونضالات المجتمع المدني النسائي. وقد خصصت آنذاك 30 مقعدا للنساء، قبل أن يرتفع العدد إلى 60 مقعدا سنة 2011 في إطار “الدائرة الانتخابية الوطنية”، ثم إلى 90 مقعدا في الانتخابات التشريعية الأخيرة سنة 2021 ضمن “دوائر انتخابية جهوية”.
غير أن هذا التدرج الكمي لم يتحول إلى تحول نوعي في بنية اتخاذ القرار السياسي، إذ بقي حضور النساء مرتبطا بإجراءات تمييز إيجابي محدودة الأثر، بدل أن يتأسس على رؤية مؤسساتية تكرس المناصفة كمبدأ مؤطر للتمثيلية الديمقراطية.
لا يمكن النظر إلى قضية المناصفة بمعزل عن المرجعيات الدولية التي التزم بها المغرب. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، ومنهاج عمل بكين (1995)، كلها وثائق تؤكد على حق النساء في المشاركة الكاملة في الشأن العام.
كما أن قرارات مجلس الأمن وخاصة القرار رقم 1325؛ وأهداف التنمية المستدامة (الهدف الخامس) شددا على ضرورة إدماج النساء في دوائر القرار. وبناء على ما نص عليه دستور 2011 من أولوية للاتفاقيات الدولية، فإن هذه المرجعيات تعد التزاما قانونيا لا مجرد إطار استئناسي، مما يجعل استمرار “الصمت التشريعي” انتكاسة لجهود المساواة والتمكين.
تظهر التطورات الحالية غياب إرادة سياسية حقيقية لتفعيل المناصفة. فالمسألة لا ترتبط بنقص في الإطار القانوني بقدر ما تتصل بضعف في الثقافة الديمقراطية الحزبية. كما أن النساء الفاعلات في الحياة السياسية ما زلن يتعرضن لأشكال متعددة من العنف السياسي، سواء في الحملات الانتخابية أو داخل المؤسسات المنتخبة، في غياب آليات قانونية واضحة للحماية والمساءلة.
وبالتالي فإن هذا الوضع يكرس ما يمكن تسميته بـ”التمييز المؤسسي الصامت”، حيث يتم الالتفاف على روح الدستور عبر إقصاء فعلي مغلف بخطاب المساواة.
تؤكد الحركة من أجل ديمقراطية المناصفة أن أي إصلاح انتخابي لا يتضمن إجراءات واضحة لضمان المناصفة، هو إصلاح مبتور يفرغ الديمقراطية التمثيلية من مضمونها.
ولهذا تطالب بمأسسة المناصفة من خلال التنصيص الواضح على ضمان تمثيلية:
_ 133 عضوة تنتخب على صعيد الدوائر الانتخابية الجهوية؛
_ 60 عضوة تنتخب على صعيد الدوائر الانتخابية المحلية، بمعنى إلزام 60 لائحة محلية لكل حزب لترشيح عضوة على رأسها كوكيلة اللائحة. إضافة الى تخصيص دعم مالي خاص للأحزاب السياسية التي تعمل على ترشيح نساء في اللوائح التشريعية المحلية.
وتبقى الكرة اليوم في ملعب مجلس المستشارين لتصحيح ما عجز مجلس النواب عن تحقيقه، فالمعركة ليست فئوية أو مطلبية فحسب، بل هي معركة من أجل استكمال البناء المؤسساتي الديمقراطي وضمان العدالة الجندرية في تدبير الشأن العام.
إن تمكين النساء ليس منة تمنح، بل حق واستحقاق ديمقراطي يستند إلى الدستور وإلى المواثيق الدولية التي التزم بها المغرب. فالمناصفة ليست ترفا سياسيا أو شعارا نسويا، بل ركيزة من ركائز الدولة الحديثة، ومؤشر على صدقية التحول الديمقراطي.
فالتمييز الإيجابي، وإن كان إجراء مرحليا، يظل وسيلة ضرورية لتصحيح اختلال تاريخي بنيوي، أما المساواة الفعلية فهي الغاية التي تترجم القيم الدستورية إلى ممارسة ملموسة.
فهو إذن، مطلب ديمقراطي يعبر عن إرادة المجتمع في تحقيق العدالة الجندرية وتكافؤ الفرص في الولوج إلى مواقع القرار. فالتمييز الإيجابي، كما في “نظام الكوتا”، لا يمثل تفضيلا عاطفيا، بل آلية تصحيحية لإعادة التوازن إلى فضاء عمومي هيمن عليه لعقود طويلة منطق الإقصاء والتفاوت البنيوي. ومن ثَم، فإن أي إصلاح انتخابي لا يُدرج المناصفة في صلبه يبقى إصلاحا ناقصا لا يترجم فلسفة الدستور ولا يستجيب لمتطلبات المساواة الفعلية التي ترتكز عليها التنمية والديمقراطية.
إن بناء الديمقراطية لا يكتمل ونصف المجتمع لا يزال خارج دوائر القرار، ولا يمكن تحقيق تنمية شاملة ما لم يعترف للنساء بحقوقهن كاملة في التشريع، الرقابة وتقييم السياسات العمومية، والقيادة… فتمكين النساء هو واجب مؤسساتي وعدالة دستورية تعكس نضج الدولة والمجتمع معا.
المصدر: العمق المغربي
