اخبار المغرب

المغاربة المفقودون في طريق الحلم الأوروبي: الهجرة السرية بين المتوسط والبلقان”

في قلب أشغال الندوة الدولية بمناسبة اليوم العالمي للصحافة التي اختير لها كعنوان الاعلام والقانون “التحديات والفرص في العصر الرقمي”، التي احتضنتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، التقت زوايا الإعلام بالقانون والاجتماع، وسط نقاشات حيوية أفرزتها مواضيع شائكة ومتداخلة. في الصفوف الأمامية، وتحت لافتة “خاص”، تجمّعت وجوه وازنة من المشهد الأكاديمي والسياسي الوطني: والي الجهة، قضاة، برلمانيون، أساتذة جامعيون، ورئيس اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر بالمغرب، كلٌّ من موقعه ومجاله. في خلفية هذا المشهد الرسمي، كان الطلبة الصحفيون يتهيؤون للتدخل عقب جلسة تناولت الإطار القانوني والمقاربة الاجتماعية لوسائل التواصل، طالب في سلك ماستر الصحافة والإعلام يحمل في جعبته قضية إنسانية ثقيلة: مأساة المفقودين في المغرب. خطوة بخطوة، تقدم نحو المنصة، مدفوعًا بأمل أن تجد ملاحظته صدىً لدى الحضور، وأن تفتح باب الاهتمام الإعلامي والاجتماعي والقانوني بهذا الملف المنسي، لما له من تبعات قاسية تمزّق نسيج العديد من الأسر المغربية، خصوصًا بجهة بني ملال خنيفرة التي كانت ولا تزال تنزف جراح فقدان أبنائها مجهولي المصير، أحس الطالب بعلامات التعجب والاستغراب في وجه غالبية الحضور، ربما كانت الملاحظة شاردة عن موضوع الجلسة، انبرت الأستاذة الجامعية والنائبة بالبرلمان المغربي مليكة الزخنيني للتعقيب على الملاحظة نافية وجود مفقودين ومجهولي مصير في المغرب، وأن هذا الأخير طوى الملف قبل سنوات مع جلسات المصالحة وهيئة الانصاف والمصالحة  في بداية الألفية الثالثة التي غطت فترة ما بين سنة 1956 و 1999.

حلم الهجرة… جنائز بلا أجساد

لم يدرك غالبية الحضور تلك المآسي الغائبة في قرى مثلث الموت كما يحلو لمتخصصي الهجرة تسميته في البحوث الأكاديمية والمقالات الصحفية، هناك حيث مئات المنازل التي تستذكر كل صباح عيد مفقودا من أفراد أسرتها، هناك حيث أقيمت جنائز بلا أجساد تلتحف الأكفان، هناك حيث أقيمت صلوات الغائب مع كل اتصال من شباب نجا من رحلة الموت نحو الحلم الأوربي، بينما البقية فقدت حياتها في البحر أو المحيط أو غابات البلقان، هناك حيث لا زالت مئات الأمهات في انتظار تحديد مصير أبنائها، بين من تعيش على أمل رجوع الفقيد حيا، ومن تأمل العثور على بقايا الجسد لتفتح له قبرا و”تبرد الروح” كما تحكي غالبية الأمهات.

يحكي م.ك الذي كان قبل عامين من الآن طالبا في شعبة الدراسات الفرنسية ببني ملال، عن فقدان بعض من أصدقائه الذين فقدوا أرواحهم في الرحلة القاتلة التي تجاوزت أسبوعا بأيامه ولياليه، بعد أن ضلت بوصلة القارب الطريق نحو جزر الكناري، بعضهم لفظ أنفاسه عطشا أو بفعل ضربات الشمس ونوبات الهلع الناتجة عن الضياع في المحيط، بصوت متأسف تمكنت منه أهوال الرحلة يقول م.ك أن أصعب من رؤية إنسان يلفظ أنفاسه الأخيرة، هي أن تتخلص من جثث أصدقائك في عرض المحيط.

خلف ملاحظة الطالب الصحفي، تختبئ أسئلة مؤلمة عن واقع شباب يحلم بالعبور إلى الضفة الأخرى، باحثًا عن كرامة مفقودة وفرص حياة أوسع. دوافع الهجرة لم تعد تقتصر على الفقر والبطالة، بل تجاوزتها إلى شعور عام بانسداد الأفق، وتآكل الثقة في المؤسسات، وانهيار الحلم الجماعي داخل الوطن. شباب جهة بني ملال خنيفرة ، كغيرهم في ربوع المغرب، يختارون الهجرة، عبر قوارب الموت وغابات التيه، هربًا من التهميش، ومن واقع اجتماعي لا يمنحهم صوتًا ولا مستقبلًا. كثيرون منهم يتحولون إلى مجرد أرقام في قوائم المفقودين، بينما تغيب مقاربة شاملة تجمع الإعلام بالقانون والسياسات الاجتماعية، تعيد فتح هذا الملف المؤلم وتضعه في صلب النقاش الوطني.

صورة أرشيفية التقطت من طرف البحرية العسكرية الإيطالية تظهر غرب قارب كان يقل حوالي 460 مهاجرا سنة 2016، العشرات منهم ينحدرون من إقليم بني ملال ولا يزال مصيرهم مجهولا.

صوت من الهامش: حين يتكلم الصمت

لم تكن مداخلة الطالب الصحفي مجرّد ملاحظة عابرة، بل كانت صرخة مكتومة باسم أسر تنتظر على أعتاب الغياب، تقاوم النسيان وتتشبث ببصيص أمل. في مجتمعات الهامش، حيث تغيب العدالة المجالية ويصعب ولوج التعليم الجيد، والتشغيل اللائق، والرعاية الصحية الكافية، تصبح الهجرة خيارًا وجوديًا لا مجرد رغبة عابرة. خيار غالبًا ما يُدفع إليه الشباب مدفوعين بالحاجة أكثر من الطموح، باليأس أكثر من الأمل.

وحين تنقطع أخبار الشاب بعد مغادرته البلاد، تتحول الأسرة إلى ضحية مزدوجة: حرمان عاطفي لا يندمل، وغموض قانوني يثقل كاهلها بالانتظار. الملف، رغم خطورته، يفتقر حتى اليوم إلى معالجات إعلامية معمقة، وإلى تأطير قانوني واضح يضمن الحق في الحقيقة والعدالة، في ظل غياب تنسيق فعّال بين القطاعات المعنية.

وللمفارقة المؤلمة، فإن الكلية ذاتها التي احتضنت هذا النقاش الأكاديمي حول الصحافة والقانون، خَبِرت بعضًا من هذه القصص. فقد شهدت في صفوف طلبتها من سلك طريق الهجرة، من استطاع أن يحقق حلمه في الاندماج ببلد أوروبي، ومن اختفى في عتمة الغياب، لا يُعرف له مصير. هكذا تصبح المأساة جزءًا من النسيج الحيّ للمؤسسة، لا مجرد موضوع نظري للنقاش.

الإعلام كقوة ضغط: الغائب الأكبر؟

رغم التقدم الذي شهدته الصحافة المغربية على مستوى التنوع والانتشار، فإنها لم تنجح بعد في جعل قضية المفقودين، ولا دوافع الهجرة القسرية، ضمن أولوياتها التحريرية. غالبًا ما تكون التغطيات موسمية، مرتبطة بمآسي الغرق أو موجات النزوح، وتفتقر إلى التحقيقات المعمقة التي تتعقب جذور الظاهرة ومساراتها الخفية. يُلاحظ حضور باهت للمعالجة المتأنية، وغياب شبه تام لمرافقة إعلامية مستمرة لأسر المفقودين، أو حتى لمبادرات المجتمع المدني في هذا المجال.

في المقابل، يظل الإعلام الأجنبي هو من يسلّط الضوء على “مآسي الهجرة” من خلال صور الغرقى في المتوسط، أو شهادات الناجين، أو تقارير المنظمات الدولية. بينما الإعلام المحلي لم يبلور بعد خطابًا ناقدًا يعري مكامن الخلل، ويطالب بسياسات عمومية بديلة تراعي البعد الإنساني والحقوقي.

هذا الضعف في الأداء المهني دفع بعض الأصوات داخل الندوة إلى المطالبة بإطار جديد للممارسة الإعلامية، ميثاق تحريري ينحاز لقضايا الناس، لا لاهتمامات النخبة، ويضع الصحفي في قلب المعركة المجتمعية لا على هامشها.

ولعل تشجيع الصحافة الجهوية المتخصصة في قضايا الهجرة والمفقودين، كإحداث جوائز جهوية للصحافة التحقيقية وغيرها، خاصة في جهة بني ملال التي تعاني أكثر من غيرها من تبعات هذه الظاهرة. مثل هذه الجوائز، لو تم تفعيلها بشراكة بين مؤسسات جامعية، ومجالس محلية، وهيئات حقوقية، قد تخلق حوافز جديدة للصحافيين الشباب، وتُسهم في ولادة جيل مهني يحمل قضايا الهامش إلى واجهة النقاش العمومي.

صورة أرشيفية من وقفة لعائلات مفقودين في الهجرة السرية تطالب بكشف المصير

من يُحدّد المصير؟… مسؤوليات موزعة وأدوار ممكنة

في متاهة الأسى التي تخلفها حالات الاختفاء، يطفو سؤال محوري: من يتحمّل مسؤولية البحث عن المفقودين وتحديد مصيرهم؟ الجواب لا يمكن أن يقتصر على جهة واحدة، بل هو ملف يتطلب تضافر جهود مؤسساتية ومجتمعية، كل من موقعه واختصاصه.

الدولة، عبر وزاراتها المختلفة، مطالبة بتفعيل مسارات التنسيق والبحث. وزارة الداخلية تمسك بخيوط المعطيات الحدودية، في حين تضطلع وزارة الشؤون الخارجية بدور محوري عبر القنصليات لتقصي أخبار المختفين. وزارة العدل بدورها مدعوة لتسريع مساطر التقاضي، بينما يقع على عاتق وزارة التضامن مسؤولية مواكبة الأسر نفسيًا واجتماعيًا.

القضاء، ممثلًا في النيابة العامة، يمكنه فتح مساطر تحقيق جدية، وإصدار مذكرات بحث وطنية ودولية، وإتاحة الإمكانيات القانونية أمام العائلات المنكوبة. أما البرلمان، فهو مطالب بإدراج هذا الملف ضمن نقاشاته، سواء عبر لجانه الدائمة أو من خلال أسئلة النواب، بالإضافة إلى بلورة إطار قانوني يعترف بحق الأسر في معرفة الحقيقة.

الإعلام، رغم محدودية تغطيته الحالية، يظل أداة قوية لإعادة الاعتبار لهؤلاء الغائبين، من خلال تحقيقات معمقة، وربورتاجات إنسانية تلامس جذور الظاهرة وتدفع نحو مساءلة المؤسسات.

ولا يمكن إغفال دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، التي بوسعها الترافع، وتقديم الدعم القانوني والنفسي، وجمع المعطيات، بل وربط الاتصال مع منظمات دولية، مثل الصليب الأحمر والمنظمة الدولية للهجرة، التي تتوفر على آليات بحث عابرة للحدود.

وأخيرًا، تأتي الأسر في قلب المعادلة: بالإبلاغ، والمقاومة، والتكتل في تنسيقيات أو جمعيات تضاعف من صوتهم وتمنحهم قوة تفاوضية في مواجهة النسيان.

نحو صحافة إنسانية

ما أثاره طالب الصحافة في ندوة علمية أمام شخصيات وازنة، لم يكن سوى بداية لمسار طويل من الأسئلة الحرجة التي ظلّت لسنوات حبيسة الصمت أو التجاهل. حين يرفع شابٌ صوته وسط حضور يمثل نخبة القرار السياسي والقانوني والإعلامي، فهو لا يطالب فقط بالإنصات، بل بإعادة ترتيب الأولويات: أن تُدرج كرامة الإنسان في صلب الممارسة الصحفية، وأن تتحول الصحافة من ناقل للأحداث إلى فاعل حقيقي في صياغة الوعي المجتمعي.

في بلد يعيش شبابه مفارقة مؤلمة بين طموحات كبرى وواقع مُحبط، يصبح تسليط الضوء على قضايا مثل المفقودين والهجرة القسرية واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، لا ترفًا صحفيًا ولا مادة موسمية. إنها قضايا تمسّ جوهر العقد الاجتماعي، وتتطلب مقاربات صحفية تتجاوز المعلومة العاجلة نحو العمق والتحليل والمتابعة.

بناء صحافة إنسانية لا يعني التخلّي عن المهنية أو الحياد، بل الانحياز الواعي لآلام الناس، والإيمان بأن لكل فرد حكاية تستحق أن تُروى، وأن الصحافة الحقيقية تبدأ حين تصغي للذين لا صوت لهم. هذا يقتضي إعادة النظر في أجندة التحرير، وتخصيص موارد للصحافة الميدانية، وتكوين الصحافيين على تقنيات التوثيق والتحقيق في قضايا حقوق الإنسان والهجرة والمجتمع.

كما يتطلب الأمر شراكة بين الصحافة والمجتمع المدني والباحثين، لتوثيق الحالات المنسية، وبناء قواعد بيانات مفتوحة، والعمل على إنتاج محتوى يعكس التعقيد الإنساني والاجتماعي للظواهر، بعيدًا عن التبسيط أو الإثارة.

الصحافة، إن أرادت أن تستعيد ثقة الناس، فعليها أن تنزل إلى الميدان، أن تحكي عن تلك الأم التي تنتظر خبر ابنها منذ سنوات، عن الأب الذي يخرج كل يوم إلى محطة الحافلات بحثًا عن أمل، عن الجدة التي لم تعد تفرّق بين الحلم والذاكرة. هؤلاء ليسوا “حالات”، بل وجوهٌ وأسماء، ووحدها الصحافة الإنسانية قادرة على منحهم المعنى.

 

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *