في الخامس من نونبر من عام 1975، ومن مدينة أكادير، خاطب الملك الراحل الحسن الثاني الشعب المغربي قائلاً: “شعبي العزيز، لقد عزمنا، وعزمنا جميعاً، ككل مرة في التاريخ، قررنا أن نعزم عزمنا، وقررنا أن نسير بمسيرة سلمية خضراء، مدعَّمين بحقوقنا، محاطين بأشقائنا ورفاقنا، معتمدين قبل كل شيء على إرادتنا وإيماننا”، مضيفاً: “غداً إن شاء الله ستخترقون الحدود، غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غداً إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم، وستلمسون رملاً من رمالكم، وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز”.

بهذه الكلمات أعطى الملك الراحل رسميا انطلاقة واحدة من أعظم الملاحم السلمية والأحداث التي شهدها المغرب بعد الاستقلال؛ إنها المسيرة الخضراء، التي جمعت أكثر من 350 ألف مغربي ومغربية من مختلف جهات وأقاليم المملكة، من أجل استرجاع أقاليمهم الجنوبية واستكمال وحدتهم الترابية. وكان هذا الحدث ترجمة حيّة للإيمان الجماعي للمغاربة بأن الأرض قد لا تُستعاد بالحروب، ولكن يمكن أن تُسترجع بالوحدة والإيمان المشترك بعدالة القضية.

لم تكن المسيرة الخضراء، التي يُحتفل بذكراها الخمسين، مجرد خطوة تحريرية فحسب، بل كانت تأسيساً لوعي جديد بأدوار الدولة والمواطن؛ فقد أدرك المغاربة، كما قال الملك محمد السادس في خطابه السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لهذا الحدث، أن “المسيرة الخضراء ليست مجرد حدث وطني بارز في مسار استكمال الوحدة الترابية، بل مسيرة متجددة ومتواصلة، بالعمل على ترسيخ مغربية الصحراء على الصعيد الدولي، وجعلها قاطرة للتنمية على المستوى الإقليمي والقاري”.

ونجحت المسيرة في طرد الاحتلال من الصحراء، لكنها لم تتوقف عند رمالها فقط، بل تحولت إلى فلسفة لتنميتها في إطار المغرب الحر الموحد، بحيث حولت المملكة المغربية مفهوم “المسيرة” إلى سياسة دولة؛ ففي إحدى خطاباته قال الملك محمد السادس: “إن المغرب المتشبث بوجوده على أرضه، الواثق من سيادته عليها، سيواصل مسيرة التنمية الشاملة للأقاليم الصحراوية، معتمداً في ذلك أوسع معاني وممارسات الديمقراطية، وأعلى درجات الجهوية واللامركزية وعدم التمركز، وأوثق روابط الوحدة ومقومات السيادة الوطنية”.

هكذا إذن تحولت “المسيرة” من استرجاع الأرض إلى بناء الإنسان والمجتمع والعمران في الأقاليم الجنوبية للمغرب، في إطار مشروع وطني جامع، مؤسِّسة لمسار تنموي ودبلوماسي متواصل يقوده عاهل البلاد في هذه الأقاليم.

وقد حوَّل ذلك الصحراء من منطقة نزاع محتمل إلى ركيزة أساسية للاستقرار والتنمية في منطقة شمال إفريقيا وإفريقيا ككل، وهو ما أعاد تشكيل النظرة الدولية إلى المملكة وصحرائها، وأثمر قرارات دولية تاريخية انتصرت للغة الإنجاز المغربي، آخرها قرار مجلس الأمن الأخير الذي كرَّس انتصار المسار المتدرج الذي انتهجته الرباط، من الفعل التحرري إلى الإنجاز التنموي، ومن البناء الداخلي إلى الاعتراف الدولي.

واليوم يحتفل المغاربة بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، مؤكدين أن جوهرها لم يكن يوماً في عبور الرمال، بل في عبور التحديات، وأن قوة وتاريخية هذا الحدث ليست فقط في الاعتزاز بالماضي والاعتراف بالتضحيات، وإنما أيضاً في الدروس الإستراتيجية التي أرستها، إذ أظهرت كيف يمكن لعمل وطني صادق واحد أن يتحول إلى نهج متكامل في السياسة والتنمية والدبلوماسية، مرسِّخاً معنى جديداً لقوة المغرب الذي أكد للعالم أن اجتماع إرادة شعب وحكمة ملك قادران على صناعة التاريخ.

وهكذا أيضا تحوّلت المسيرة الخضراء من نداءٍ ميداني إلى منظومة قيم تحكم علاقة المغاربة بمستقبلهم، تتجدد اليوم في صورة مسيرات أخرى نحو العدالة الاجتماعية ومواصلة مسار التنمية على جميع الأصعدة، إذ قال الملك في خطابه بمناسبة الذكرى الـ49 لهذه الملحمة الوطنية: “إن التضحيات التي قدمها جيل المسيرة تحفزنا على المزيد من التعبئة واليقظة، قصد تعزيز المكاسب التي حققناها في ترسيخ مغربية الصحراء، ومواصلة النهضة التنموية التي تعرفها أقاليمنا الجنوبية. وبالروح نفسها يجب العمل على أن تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين في جميع الجهات، من الريف إلى الصحراء، ومن الشرق إلى المحيط، مروراً بمناطق الجبال والسهول والواحات”.

المصدر: هسبريس

شاركها.