نستقبل اليوم باعتزاز كبير إدراج القفطان المغربي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى اليونسكو، وهو اعتراف عالمي يعكس مكانة هذا الفن المتجذر في الوجدان المغربي، ويُعيد تسليط الضوء على الدور الريادي للمرأة المغربية في صونه وتوريثه عبر الأجيال.
وقد بذل المغرب جهودًا كبيرة عبر مؤسساته الثقافية والمعاهد المتخصصة وفعالياته الدولية لتعزيز مكانة القفطان عالميًا، من مهرجانات دولية و عروض محلية، ودعم الحرفيين، إلى إعداد ملف متكامل لليونسكو، توّج اليوم باعتراف دولي مستحق.
هذا الإنجاز يعكس التزام بلادنا بالحفاظ على تراثها وتعزيز مكانته على الصعيد العالمي، ويؤكد أن هذه الإضافة إلى التراث الإنساني لم تأتِ صدفة، بل نتيجة عمل مستمر وممنهج.
ويؤكد إدراج القفطان في لائحة التراث الإنساني المكانة الثقافية للمغرب عالميًا، ويبرز قدرة تقاليدنا على التطور دون أن تفقد روحها. ويؤدي اليوم المصممون والمصممات الشباب دورًا مهمًا في تحديث القفطان وإضفاء روح معاصرة عليه، من خلال الجمع بين الجذور المغربية والأناقة العالمية، وإعادة تقديمه في عروض الأزياء المحلية والدولية، مما يضمن استمرار هذا التراث وانتشاره بين أجيال جديدة ويعزز قيمته الثقافية والاقتصادية. هذا الجمع بين الأصالة والحداثة يجعل التراث أكثر حياة وانتشارًا، وشهادة على أن تراثنا ليس ماضيًا نحتفظ به فقط، بل مستقبلا نبنيه بالإبداع.
ان القفطان المغربي لم يكن يومًا مجرد زي تقليدي، بل ذاكرة حية تنسجها الأمهات والجدّات، وتتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل. من الدكاكين و البيوت في أحياء المدن العتيقة إلى منصات الأزياء العالمية، ظل القفطان رمزًا للأناقة المغربية ومرآة لذوق رفيع يعكس الأصالة والانتماء، ليصبح اليوم معلمة ثقافية للمغرب وجسراً بين الماضي والحاضر.
لقد تأثر القفطان المغربي عبر العصور بعدة حضارات وثقافات، مكونًا هوية بصرية غنية ومتنوعة. فقد حمل بصمات الأندلسيين في الطرز والنسيج، واستوعب تأثيرات الحضارة العثمانية في تفاصيله، واستفاد من الإبداع الأمازيغي في الزخارف والرموز. كما ساهم المغاربة اليهود، عبر النساء الحرفيات، في تطوير فنون التطريز وصياغة “السفيفة” وزخارف دقيقة أصبحت جزءًا من الهوية البصرية للقفطان.
كما ساهمت التأثيرات الإفريقية في إثراء القفطان المغربي، خصوصًا في المناطق الصحراوية والأمازيغية الجنوبية، من خلال أنماط زخرفية هندسية وألوان مستوحاة من الطبيعة الصحراوية، والرموز التقليدية ذات المعاني الاجتماعية والروحية. هذه المؤثرات انعكست أيضًا في فلسفة التصميم وأدوار اللباس في الاحتفالات والمناسبات، مما جعل القفطان المغربي نتاج تلاقٍح حضاري يجمع بين الأصالة المحلية والبعد الإفريقي العميق.
ان القفطان المغربي لا يُعدّ زيًا موحدًا، بل تراث حي يعكس التنوع الجهوي والثقافي للمغرب. فقد تطورت أنماطه بحسب المدن والمناطق، كلٌ منها يحمل خصائصه المميزة في القص والزخرفة واختيار الألوان والخامات، ما يمنحه بصمة محلية فريدة. ومن أبرز هذه الأنماط: القفطان الفاسي و اليهودي المعروف بغزارة تطريزه ودقة نقوشه، والقفطان الرباطي بتوازنه الجمالي وألوانه الهادئة، والقفطان المراكشي بألوانه الزاهية وأحزمتِه العريضة، والقفطان التطواني المتأثر بالمحيط المتوسطي، وصولًا إلى الوجدي والمناطق الصحراوية بأقمشتها الخفيفة وألوانها الدافئة، وكل نمط يحمل تاريخ المنطقة وموروثها الثقافي. هذا التنوع يجعل القفطان رمزًا حيًا للهوية والجمال المحلي، وحافظًا لذاكرة الأجيال الثقافية.
وهكذا تبلورت مغربيّته الفريدة عبر تمازج حضاري إسلامي وأمازيغي وأندلسي ويهودي وأفريقي، منحه روحًا عالمية وعمقًا متنوعًا.
وتتجسد براعة القفطان في الحرف المتعددة التي تتكامل في صناعته: من الطرّاز والصانع التقليدي والمعلم في الخياطة، مرورًا بفنون السفيفة والعقاد والرندة، وصولاً إلى المصممين والمصممات الذين يعيدون صياغة التراث بروح معاصرة. هذه الحرف تتطلب صبرًا ودقة ومهارة عالية، وتُجسّد عبقرية اليد المغربية وقدرتها على تحويل القماش إلى قطعة فنية نابضة بالحياة.
وقد ظلّت المرأة المغربية عبر العصور الحاملة الأولى لسرّ القفطان. فهي التي تختار الخيط، تتقن الغرزة، تبدع في التطرّز، وتورث هذا الفن لابنتها مع قيم الانتماء والاعتزاز بالهوية. الحرفيات “المعلمات” مثال حي للقدرة النسائية على الجمع بين الصبر والدقة والإبداع، مما يجعل المرأة مركز هذا الفن وحارسته الأولى.
إن تسجيل القفطان المغربي ضمن التراث الثقافي غير المادي للإنسانية ليس مجرد حدث ثقافي، بل هو انتصار رمزي لبلادنا ورسالة تقدير لكل امرأة ساهمت في صون هوية المغرب، ويُمثل دافعًا لمزيد من العمل من أجل صيانة تراثنا الغني، وترسيخ مكانة المرأة المغربية كصانعة للجمال وحاملة للهوية، وجسر بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ويتطلب منا هذا الاعتراف تعزيز جهودنا لدعم الحرفيات والمعلمات، والحفاظ على المهن التراثية ونقلها للأجيال الجديدة، وتشجيع ريادة الأعمال النسائية في مجالات الموضة والصناعات الإبداعية، وبناء مسارات تكوين للمرأة المغربية في الحرف التقليدية. فالقفطان المغربي نموذج حي لما يمكن للمرأة أن تحققه حين تُمنح لها الفرصة والتقدير.
إن القفطان المغربي اليوم هو تتويج لتلاقي حضارات وثقافات متعددة عبر التاريخ، من التأثيرات الأندلسية والعربية إلى الروابط الأمازيغية والصحراوية، مرورًا بالغنى الرمزي والإبداعي للقارة الإفريقية. إنه نتاج عبقرية مغربية أصيلة، وجسور فنية من الإبداع اليدوي والحرفي، ومزيج متقن بين الخيال الجمالي والتقنيات التقليدية المتوارثة عبر الأجيال. وقد استطاع هذا التلاقي الثقافي والتميز الحرفي أن يحول القفطان إلى رمز للهوية المغربية وجسر بين الماضي والحاضر، بين المحلي والعالمي، ليصبح اليوم جزءًا من التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، شهادة على قدرة المغرب على صون تراثه، وتثمين تنوعه، وإبراز إبداع المرأة والحرفيين الذين حافظوا على هذا الفن عبر القرون.
المصدر: العمق المغربي
