القضية الفلسطينية بين غصن ياسر عرفات وعصا يحيى السنوار
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، عاش الشعب الفلسطيني مراحل متباينة من تجليات المقاومة الجمعية، بين محاولات للتفاوض السياسي من أجل السلام وأخرى للمطالبة بالحقوق عبر العمل المسلح. في هذا السياق، شهدت القضية الفلسطينية توجّهين كبيرين: الأول تمثل في المسار السلمي الذي اتبعه ياسر عرفات ومن خلاله كافة القوى الحية التي تدافع عن التفاوض عبر مسار دبلوماسي سلمي، والثاني في المسار المقاوم الذي انتهجته المقاومة، ونمثّل له في هذا المقال برئيس حركة حماس الراحل يحيى السنوار، ورغم اختلاف النهجين، فإن تجارب القائدين في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وما آل إليه في المسارين معاً، تُظهر أن السلام، كما تروج له إسرائيل ومعها الآجندات الغربية، ليس هدفاً حقيقياً لها، بل وسيلة لكسب الوقت وإضعاف الشعب الفلسطيني في أفق تحقيق الحلم الإسرائيلي في شرق أوسط خاضع لها، وفي توسع يأتي على سيادة الدول وإرادات الشعوب.
كان ياسر عرفات، منذ منتصف السبعينات، صاحب رؤية سياسية تقوم على فكرة “السلام مقابل الأرض”، وقد تبلورت هذه الفكرة كاختيار اقتنعت به منظمة التحرير الفلسطينية وقتها في إطار مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة. بعد توقيع اتفاق أوسلو في 1993، أصبح عرفات رمزاً للسلام في نظر المجتمع الدولي، وتسلّم جائزة نوبل للسلام كاعتراف بمحاولاته لتحقيق الاستقرار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ورغم ذلك، فإن مسار السلام الذي تبناه عرفات لم يحقق شيئاً ملموساً على الأرض، بل على العكس، انتهى بفشل ذريع.
فبعد سنوات من المفاوضات، كانت النتيجة النهائية هي تراجع إسرائيل عن تعهداتها في أوسلو، وفرض المزيد من الاستيطان وتهويد القدس، وتوسيع الحواجز العسكرية والفصل العنصري. بما أدى إلى تدهور خطير للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في التواجد في أرضه وإقامة دولته وتقرير مصيره، ليتحول الأمل في إقامة دولة فلسطينية إلى سلسلة من الخيبات السياسية التي انتهت بوفاة القائد ياسر عرفات في ظروف غامضة عام 2004، وسط حديث عن دور إسرائيلي في اغتياله. ليشكل هذا الحدث نهاية لحلم السلام الذي كان ينتظره الفلسطينيون.
وقد كان إضعاف المقاومة أحد النتائج المترتبة على هذا المسار السلمي، إذ ظلت السلطة الفلسطينية ضعيفة وخائرة أمام الاحتلال الذي لم يلتزم بأي من بنود الاتفاقات، لتعود فكرة المقاومة من جديد لتطرح نفسها بديلاً لسنوات من الحلم بسلام مزعوم مع دولة لم تبحث يوما عن سلام.
وعلى عكس ياسر عرفات، الذي كان يسعى لإيجاد حل سلمي مع الاحتلال الإسرائيلي، كان بروز يحيى السنوار في واجهة القضية نتيجة لتطورات عديدة في الساحة الفلسطينية في فترة حساسة ومفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية. فبعد سنوات طويلة من الضغط على قطاع غزة، وحصار خانق من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وحروب متتالية أدت إلى تدمير البنية التحتية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. بالإضافة إلى ما شهدته الساحة الفلسطينية من انقسام داخلي، وتوزع للسلطة بين حركتي فتح وحماس، ما ألقى بظلاله على جهود تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.
ومع تصاعد الأزمات الإنسانية في قطاع غزة والتحديات التي واجهتها حماس بعد انسحاب الاحتلال من غزة عام 2005، دخلت الحركة في مواجهة مباشرة مع تحديات سياسية وعسكرية انتهت بعملية السابع من أكتوبر، ليبرز في المشهد يحيى السنوار كقائد ميداني اختار المقاومة سبيلا لمواجهة إسرائيل، رافضاً أي تسوية مع الاحتلال يمكن أن تمس حقوق الشعب الفلسطيني، ليكون بذلك جزءاً من الجيل الجديد من القادة الفلسطينيين الذين نضجوا في بيئة مليئة بالتجارب الصعبة من مخيمات وقمع وتشريد وتهجير وحصار وعدوان واغتيال.
وفي فترة قيادته للأجنحة المسلحة لحركة حماس، تمكّن السنوار من إعادة تعريف مفهوم المقاومة في قطاع غزة، وتطوير أساليب جديدة للمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد أن أصبح يعاني من نقص مستويات الدعم الدولي والعربي بعد انهيار مسار أوسلو وتدهور العلاقات مع السلطة الفلسطينية.
كان الموقف الثابت السنوار منذ توليه المسؤوليات الداخلية بحركة حماس واضحاً: المقاومة هي الخيار الاستراتيجي، بل وأكد مراراً أن كل محاولة للتفاوض مع إسرائيل لا قيمة لها ما دام الاحتلال موجوداً. وعليه، لم تكن حماس في عهده مجرد حركة مقاوِمة، بل أصبحت حجرة عثرة أمام ما ألفته إسرائيل من مجاراة لرغابتها من طرف السلطة الفلسطينية. وبرغم الضغوط الدولية، تمكن السنوار من الحفاظ على زخم المقاومة في غزة، بل وتوسيع دائرة العمليات العسكرية التي كانت تؤرق الاحتلال الإسرائيلي، سواء عبر الأنفاق أو الصواريخ أو العمليات العسكرية الأخرى التي تحمل رسالة واحدة مفادها أنه لن يختار أبداً مسار السلام مع إسرائيل إلا بشروط لا تقبل الإتيان على حقوق الشعب الفلسطيني أو تقويضها.
وبالرغم من الضغوط الدولية الشديدة على حركة حماس، ومحاولات إسرائيل الجادة في تسويق حركة حماس كحركة إرهابية وقادتها كمجرمين، خاصة بعد السابع من أكتوبر إلا أن النهاية التي انتهى بها يحيى السنوار مقاوماً مقاتلاً في أرض المعركة، مدافعاً عن شعبه ومبادئه التي تبناها طول حياته بلا مساومة ولا تنازل، هدمت كل المساعي الإسرائيلية في شيطنة المقاومة الفلسطينية خاصة لدى الشارع الغربي الذي شكل مشهد وفاة السنوار صدمة له وتكذيبا لرواية إسرائيل في أن السنوار كان فارّا في الأنفاق.
إن مقارنة مساري الرجلين، يظهر بوضوح أن إسرائيل لم تكن يوماً جادة في تحقيق السلام، سواء مددت لها يدك أم لم تفعل، فقد أثبتت التجربة الفلسطينية في مسار ياسر عرفات أن المفاوضات مع إسرائيل لا تؤدي إلى أي مكاسب حتى وإن رفعت في وجهها غصن زيتون، بل على العكس، فإن إسرائيل استخدمت اتفاقيات السلام لتكريس احتلالها وتوسيع مستوطناتها مفضلة سياسة المماطلة والهروب من أي التزام حقيقي نحو حل عادل للقضية الفلسطينية.
في المقابل اختار السنوار أن يواجه إسرائيل بعصاه التي قذف بها المسيّرة حتى آخر لحظة من عمره، تاركاً وراءه مقاومة ميدانية، لا زالت تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني بوسائلها البسيطة المتاحة، وكاشفاً زيف الرواية الإسرائيلية وكذبها بخصوص السلام الذي ترغب به، وهو ما أصبح الشارع العالمي اليوم مقتنعاً به، بفضل خيار المقاومة، وعصا السنوار.
لم ترغب إسرائيل في سلام حقيقي مع الفلسطينيين ولا مع أي دولة من دول الجوار، بل سعت وتسعى فقط إلى ضمان أمنها من خلال إبقاء الفلسطينيين في وضعية الضعف والتفرقة. وقد أثبتت التجارب أن الحلول السلمية التي يتم الترويج لها دولياً هي مجرد أدوات لتأبيد الاحتلال، ولا تمثل أي رغبة حقيقية في بناء مستقبل عادل للمنطقة، بل وإنها تشجع إسرائيل على تبني رؤى متطرفة توسعية واستعمارية كتلك التي يتبناها الجيش الإسرائيلي من خلال الخريطة التي يضعها في بدلات جنوده والتي تظهر أطرافا واسعا من دول عربية “حليفة” لإسرائيل تابعةً لتراب إسرائيل المزعوم.
إن الخيار الوحيد الذي يضمن للشعب الفلسطيني استعادة حقوقه هو المقاومة المستمرة، ولكن ليس بمعزل عن استراتيجية دبلوماسية مدعومة من قاعدة شعبية واسعة تمتد في العالم العربي أجمع بل في العالم كله. لأن مقاومة الاحتلال هي العنصر الأساسي الذي يمكن أن يؤثر في تغيير الواقع الحالي، ويجبر إسرائيل على الانخراط في مفاوضات حقيقية تستند إلى فرض حقائق جديدة على الأرض.
بل وإن الجدوى الحقيقية لأي سلوك تفاوضي لا تأتي من المفاوضات المنفردة التي يقودها أفراد أو أطراف معزولة، بل من المفاوضات المستندة إلى المقاومة، حيث تكون القوة العسكرية والسياسية مدعومة بحراك شعبي سلمي عالمي يسنِد التحركات الدبلوماسية التي لا ينبغي الاستغناء عنها بكل تأكيد، إلا أنها لا تكون ذات معنى في غياب خطوط مقاومة تُظهر للعالم جدية الفلسطينيين في التمسك بحقوقهم.
إن التمّسك بالمقاطعة الاقتصادية والثقافية لكافة أشكال التواجد الإسرائيلي، بالإضافة للأشكال السلمية للاحتجاج هو فعل مقاوم لا يقل أهمية عن المقاومة هناك، لأنه سنَد دولي يقدَّم للفلسطينيين خدمة لموقفهم، كما يعبّر عن الالتزام الشعبي الحقيقي بخطر الحرب القائمة في قطاع غزة، على الإنسان والمستقبل والسلام العالمي الذي تهدده إسرائيل ومخططاتها الأحادية التي لا تهتم أبدا بأي يد ممدودة للتفاوض والسلام، وعليه فإننا اليوم مسؤولون أمام ما يقع أفراداً وجماعات ومؤسسات، مسؤولية إنسانية تقوم على دعم الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، دفاع المقاوم لا دفاع المستسلم، وهو ما لا يمكن أن يتأتى بالمفاوضات السلمية التي لا تستند لمقاومة ميدانية، لأن إسرائيل مع كامل الأسف لا تفهم لغة السلام.
* صحافية وكاتبة مغربية
المصدر: العمق المغربي