اخبار المغرب

القانون بين المشروعية الدستورية والعدالة الاجتماعية: نحو مقاربة نقدية متوازنة

يشكل القانون أداة محورية لتنظيم العلاقات الاجتماعية وضمان الاستقرار داخل المجتمعات. غير أن مشروعية القانون لا تُقاس فقط بمدى مطابقته للنصوص الدستورية، بل تُختبر أيضًا بقدرته على تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان توازن المصالح بين مختلف الفئات. إن المطابقة الشكلية للدستور تمنح القانون شرعية قانونية، لكنها لا تعني بالضرورة أنه عادل أو منصف في مضمونه. لذلك، تبرز الحاجة إلى تبني مقاربة نقدية تربط بين احترام الإطار الدستوري وتحقيق العدالة الاجتماعية، باعتبار أن الديمقراطية لا تكتمل فقط باحترام الشكل، بل تقتضي أيضًا تحقيق مضمون عادل يراعي مختلف التوازنات الاجتماعية.

أولًا: القانون كنتاج لموازين القوى والسياقات السياسية.

القانون، في جوهره، ليس تعبيرًا محايدًا عن إرادة المجتمع، بل هو انعكاس لموازين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في لحظة معينة. عملية التشريع تخضع عادة لتأثير القوى المهيمنة في المجتمع، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية، مما يجعل القانون في كثير من الأحيان نتاجًا لتوافقات أو صراعات بين هذه الفاعلين.
من منظور فلسفة القانون، يُنظر إلى التشريع كعملية ديناميكية تُحددها المصالح المتعارضة في المجتمع. فحين تُصاغ القوانين، غالبًا ما تُعبّر عن إرادة القوى الأكثر نفوذًا، مما قد يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الحقوق والواجبات. في هذا السياق، يصبح القانون أداة لحماية مصالح معينة على حساب أخرى، حتى لو بدا في مظهره مطابقًا للمبادئ الدستورية.
على سبيل المثال، قانون الإضراب في السياق المغربي قد يكون من الناحية الشكلية ديمقراطيًا، إذا تمت صياغته وفقًا للإجراءات الدستورية، لكنه قد يُقيد في مضمونه حق الإضراب عبر فرض شروط معقدة أو إجراءات إدارية مرهقة. في هذه الحالة، يكتسب القانون شرعية قانونية لكنه يُفقد في الوقت ذاته شرعيته الاجتماعية بسبب تأثيره السلبي على حقوق فئات معينة، خاصة الفئات العمالية.

ثانيًا: الشرعية القانونية في مقابل الشرعية الاجتماعية.

القانون يكتسب شرعيته القانونية عندما يحترم القواعد والإجراءات الدستورية، لكن هذه الشرعية تبقى ناقصة إذا لم تُقترن بشرعية اجتماعية. الشرعية الاجتماعية تُستمد من قدرة القانون على تحقيق العدالة والتوازن في توزيع الحقوق والواجبات بين مختلف الفئات.
إذا كان القانون يحترم الدستور لكنه يُكرّس اختلالات في التوزيع الاجتماعي للحقوق، فإنه يصبح قانونًا شرعيًا من الناحية الشكلية، لكنه يفتقر إلى الشرعية الأخلاقية والاجتماعية. وهذا ما يجعل العدالة الاجتماعية عنصرًا تكميليًا لمشروعية القانون. فالعدالة في مضمونها العميق لا تعني فقط احترام القواعد القانونية، بل تعني أيضًا قدرة القانون على تحقيق المساواة، الإنصاف، وحماية الفئات الأكثر هشاشة.
القانون العادل هو الذي يُحقق توازنًا بين مختلف المصالح المجتمعية، بحيث لا يُكرّس امتيازات لفئة على حساب أخرى. في هذا السياق، يتجاوز تحقيق العدالة الاجتماعية مجرد تطبيق النصوص القانونية إلى التفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي، والقدرة على التكيف مع المتغيرات المجتمعية.

ثالثًا: الديمقراطية بين الشكل والمضمون.

من منظور فلسفة القانون، الديمقراطية لا تعني فقط الامتثال للإجراءات الدستورية، بل تشمل أيضًا مضمون القانون ومدى استجابته للمصالح الجماعية. الديمقراطية الشكلية تتحقق عندما تُحترم آليات التشريع والضوابط الدستورية، لكن الديمقراطية الجوهرية تتطلب أن يُراعي القانون مبدأ التوازن الاجتماعي، ويضمن حق المشاركة والتمثيل لجميع الفئات، خاصة الفئات المهمشة.
في حالة قانون الإضراب، على سبيل المثال، إذا كان القانون يُحدد إطارًا قانونيًا لممارسة الإضراب لكنه يُفرغ الحق من مضمونه بفرض قيود مشددة على توقيته أو أساليبه، فإنه يكون ديمقراطيًا من الناحية الشكلية لكنه غير ديمقراطي من حيث المضمون. الديمقراطية الحقيقية تقتضي أن يُصاغ القانون بطريقة تضمن ممارسة الحق في الإضراب بشكل فعّال، مع حماية المصلحة العامة دون المساس بالحقوق الأساسية.
التحدي في هذه الحالة هو تحقيق التوازن بين حق الدولة في تنظيم العمل وضمان استمرارية المرافق العامة، وحق العمال في الدفاع عن مصالحهم عبر ممارسة الإضراب. إذا اختل هذا التوازن لصالح إحدى الفئات، فإن الديمقراطية الشكلية تُصبح فارغة من مضمونها.

رابعًا: الحاجة إلى مقاربة نقدية وتفاعلية.

تحقيق العدالة في القانون لا يتحقق عبر النصوص الجامدة، بل من خلال مقاربة تفاعلية تأخذ في الاعتبار طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية. القانون العادل هو الذي يخضع لمراجعة مستمرة استجابة للواقع المتغير، بحيث يتم تصحيح الاختلالات وتكييف النصوص القانونية مع المستجدات الاجتماعية.
المقاربة النقدية تتطلب وعيًا بأن القانون ليس محايدًا، وأنه في كثير من الأحيان يُكرّس موازين القوى القائمة. لذلك، فإن تطوير القوانين يجب أن يتم من خلال حوار اجتماعي مفتوح يشارك فيه جميع الفاعلين (الحكومة، النقابات، المجتمع المدني) لضمان أن القانون يُمثل مصالح المجتمع بمختلف مكوناته.
القانون العادل ليس فقط هو الذي يحترم الدستور، بل هو الذي يُحقق العدالة الاجتماعية عبر حماية الحقوق الأساسية، وضمان تكافؤ الفرص، ومنع تهميش أي فئة.

ختاما، بين المشروعية الدستورية والعدالة الاجتماعية، يقف القانون عند مفترق طرق. إن احترام الإطار الدستوري يمنح القانون شرعية قانونية، لكنه لا يضمن تحقيق العدالة في مضمونها الحقيقي. لذلك، فإن تحقيق ديمقراطية حقيقية يقتضي التوفيق بين المشروعية القانونية والمشروعية الاجتماعية، عبر مراجعة مستمرة للقوانين وتكييفها مع حاجات المجتمع المتغيرة.
المقاربة النقدية تستدعي وعيًا بأن القانون هو انعكاس لموازين القوى السياسية والاجتماعية، وأن تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب إصلاحًا مستمرًا للنصوص القانونية لضمان تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد والمصلحة العامة. عندها فقط، يمكن القول إن القانون يُحقق الديمقراطية في شكلها ومضمونها، ويُكرّس عدالة اجتماعية حقيقية

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *