في زمنٍ تتسارع فيه التحولات التقنية، وتُهيمن أدوات الذكاء الاصطناعي على مجالات متعددة من الحياة، لم يعد الفقه الإسلامي بمنأى عن هذه الموجة المعرفية. بل أصبح مطالبًا بإعادة النظر في أدواته ومناهجه، لا من باب الانبهار بالتقنية، ولا من باب الدفاع عن التراث، بل من أجل بناء منظومة معرفية متكاملة، تجمع بين رسوخ العلوم الشرعية، وفهم البيئة الرقمية، والوعي الأخلاقي، والاستشراف العقلاني المقيد بالأصول.

أولًا: جدلية الإنسان والآلة في مجال الفتوى

الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته التحليلية، لا يملك ملكة فقهية، ولا يستطيع أن يُصدر فتوى شرعية. هو أداة تُعيد تركيب الموجود، وتُنتج بناءً على الأنماط الإحصائية، لا على الفهم المقاصدي أو الاجتهاد الشرعي. ومع ذلك، يُقدَّم أحيانًا وكأنه مفتي رقمي، قادر على الإجابة عن كل شيء، دون رقابة أو تقنين.

وهنا تنشأ علاقة جدلية بين الإنسان والآلة:

• الإنسان يسأل، والآلة تُجيب، لكن الإجابة تفتقر إلى السياق والمذهب.
• الفقيه يُراجع، فيُدرك أن الذكاء الاصطناعي يُعيد إنتاج ما قيل، لا ما ينبغي أن يُقال.
• الآلة تُصحّح بناءً على التغذية الراجعة، لكن دون إدراك للمقاصد أو المآلات.
• وهكذا، لا يكون الذكاء الاصطناعي خصمًا للفقه، بل مرآة تُظهر حدود الفهم، وتُحفّز على تعميق التكوين.

هذا التفاعل يُبرز الخلل في التعامل مع الذكاء الاصطناعي:

• منحه صلاحيات لا يملكها، كالإفتاء أو الترجيح.
• غياب الإشراف العلمي على المحتوى الذي يُنتجه.
• تغييب الفقيه الحقيقي، واستبداله بمن يُجيد العرض دون عمق علمي.

ثانيًا: هندسة العقل الفقهي… بين المفهوم والتفعيل

لقد أصبح من الشائع في بعض المقالات والندوات تداول مفاهيم مثل “هندسة العقل الفقهي”، و”الوعي الرقمي”، و”الاستشراف العقلاني”، بوصفها مفاتيح للتجديد الفقهي في العصر الرقمي. غير أن هذا التداول، رغم جاذبيته اللغوية، غالبًا ما يبقى في حدود التنظير المجرد، دون تحديد دقيق لهذه المفاهيم أو تقديم نماذج تطبيقية تُظهر كيف تُفعّل فعليًا في الواقع الفقهي.

إن هندسة العقل الفقهي لا تعني القطيعة مع التراث، ولا الانبهار الأعمى بالتقنية، بل تعني بناء عقل مركّب، قادر على الربط بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر. وهذا العقل لا يُبنى إلا على أربعة محاور أساسية:

• التأصيل الشرعي العميق: الإحاطة بأصول الاستنباط ومقاصد الشريعة، مع القدرة على تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة.
• الوعي الرقمي: فهم التكنولوجيا التي تصوغ حياة الناس، من العقود الذكية إلى الخوارزميات، لا مجرد الإشارة إليها.
• النزاهة الأخلاقية: مقاومة الضغوط الرقمية، والحفاظ على استقلالية الفتوى ونقائها.
• الاستشراف العقلاني المقيد بالأصول: إدراك المآلات وتقدير أثر الحكم قبل صدوره، من خلال أدوات التحليل والتنبؤ، بشرط أن يكون ذلك منضبطًا بأصول الفقه ومقاصد الشريعة، لا مجرد توقعات تقنية أو استباقات غير مؤصلة.

ثالثًا: أزمة التكوين بين الفقه والتقنية

التكوين الفقهي في هذا السياق لا يمكن أن يقتصر على حفظ النصوص أو معرفة تقنية سطحية. بل هو بناء متكامل يجمع بين:

• الملكة الفقهية: قدرة عقلية وروحية على فهم النصوص ومراعاة الواقع.
• الوعي التقني: فهم بنية الذكاء الاصطناعي، وآلياته، وحدوده، وأخلاقياته.
• القدرة على الحوار بين المجالين: ما يمكن تسميته بـ le vaetvient بين الفقه والتقنية، حيث لا يكون الفقيه متلقيًا سلبيًا، بل ناقدًا وموجّهًا.

لكن الواقع يكشف عن نقص كبير في هذا التكوين:

• العلماء الشرعيون غالبًا ما يفتقرون إلى التكوين الرقمي.
• المختصون في التقنية لا يملكون أدوات الفهم الشرعي.
• والمؤتمرات لا تُقدّم مادة علمية حقيقية، بل تكتفي بالعرض النظري دون بناء المحتوى أو الاستراتيجية.

رابعًا: نحو ولادة مؤسسية جديدة

الحل لا يكمن في رفض الذكاء الاصطناعي، ولا في الانبهار به، بل في إعادة تصميم العلاقة بينه وبين الفقه، من خلال ولادة جديدة تُشرف عليها المؤسسة الدينية، وتُشرك أهل الاختصاص في الذكاء الاصطناعي، وتُنتج محتوى وتكوينًا واستراتيجية.

هذه الولادة الجديدة يجب أن:

• تكون تحت سلطة المؤسسة الدينية لضمان الشرعية.
• تُبنى على شراكة حقيقية مع التقنيين والمبرمجين.
• تُنتج مادة علمية وتكوينية تُعيد الاعتبار للفقه، وتُوظّف التقنية بوعي.

خامسًا: فرق عمل ومؤسسات متخصصة

الانتقال من الاستهلاك إلى البناء، ومن الانبهار إلى التمكين، يتطلب إنشاء فرق عمل ومؤسسات تُعنى بثلاث مهام أساسية:

1. صناعة ذكاء اصطناعي فقهي

• تصميم أدوات تُراعي الأصول الشرعية.
• برمجة وفقًا للمقاصد، لا فقط للأنماط.
• إدماج النصوص الفقهية بطريقة تحفظ السياق والمذهب.

2. وضع ضوابط التعامل مع ما صُنع

• تحديد حدود الاستخدام.
• مراقبة المحتوى المنتج.
• التمييز بين المعلومة والفتوى، بين المساعدة والاجتهاد.

3. تكوين المختصين في التعامل معها

• تكوين جيل من العلماء الرقميين.
• إعداد مناهج تعليمية جديدة.
• تنظيم دورات تكوينية مشتركة تحت إشراف علمي وتقني.

خاتمة

الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الفقه، ولا يُغني عنه، بل يمكن أن يكون أداة قوية إذا استُخدم ضمن إطار شرعي علمي. لكن ذلك يتطلب عقلًا فقهيًا مهندسًا، ومؤسسات واعية، وتكوينًا متكاملًا، لا الاكتفاء بالخطاب الاستعراضي. إنها دعوة إلى ولادة جديدة، تُعيد للفقه مكانته، وتُوظّف التقنية بوعي، وتُنتج نموذجًا إسلاميًا رصينًا في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، حيث لا يكون الفقيه مجرد متفرج، بل طرفًا فاعلًا في علاقة جدلية تُعيد تعريف الفتوى في العصر الرقمي، وتُحوّل المفاهيم من شعارات إلى أدوات فعالة في البناء والإصلاح، ضمن رؤية استشرافية عقلانية منضبطة بالأصول، تُوازن بين فقه الواقع وفقه المآل، وتُجنّب الفتوى الانزلاق نحو التسرّع أو التهوين.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.