العفو الملكي عن صحفيين ونشطاء يرسخ قيمة حضارية وروحية
قال الدكتور عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، إن العفو الملكي عن صحافيين ونشطاء بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش أصاب في مقتل وكلاء الأجندات الخارجية الذين روّجوا أن هذا العفو جاء تحت ضغط دولي، مضيفا أن مؤسسة العفو متجذرة ومتجددة في أعراف السلاطين والملوك المغاربة.
وذكر بوصوف، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”العفو الملكي ترسيخ لقيمة حضارية وروحية ولتراكم تاريخي”، من وصفهم بـ”أصحاب الذاكرة الضعيفة” ببرنامج “مصالحة” الخاص بالمدانين في الأحداث الإرهابية، مؤكدا أن المغرب يتمتع بتراكم تاريخي كبير في مجال العفو على اعتبار أنه أول بلد في شمال إفريقيا أطلق مسلسل “العدالة الانتقالية” لطي صفحة الانتهاكات.
وهذا نص المقال:
أصابت الهدية / العفو الملكي، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين على تربع جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، العديد من وكلاء الأجندات الخارجية وغير الوطنية بهيستريا قوية وبإسهال حاد، خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي؛ فحاولوا التسويق لهذا العفو الملكي وكأنه جاء تحت “ضغط دولي”، أو أن المغرب وقّع قرار العفو صاغرا.
نحن نعرف أن تلك الأقلام المأجورة والأصوات القبيحة تعرف بدورها أن كل خرجاتها غير حقيقية وغير موضوعية؛ لكنها تركع لسادتها ولأولياء نعمتها الفائحة برائحة غاز “سونطراك”..
لكن لا بأس من تذكير أصحاب “ذاكرة السمك” بأن المغرب اختار طواعية طريق الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، كما اختار طريق مأسسة حقوق الإنسان (وزارة حقوق الإنسان / المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان / المجلس الوطني لحقوق الإنسان/ والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان…).
والبداية كانت مع المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه بقول بليغ وعميق من أعلى منبر البرلمان في آخر افتتاح له للدورة النيابية في أكتوبر 1998 من أجل الطي النهائي لكل الملفات العالقة و… “حتى لا يبقى المغرب جارا من ورائه سمعة ليست هي الحقيقة وليست مطابقة لواقعه ولا تفيده في مستقبله”..
كما قاد الحكيم الحسن الثاني رحمه الله مسلسل الانفراج السياسي والحقوقي؛ وهي “أمانة عظمى” صانها الملك محمد السادس في إطار التغيير داخل الاستمرارية، حيث أطلق مسلسل الحقيقة والإنصاف والمصالحة في يناير 2004 كأول بلد عربي وبشمال إفريقيا أو ما يُعرف بـ”العدالة الانتقالية”… من أجل طي صفحة الانتهاكات وتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وحفظ الذاكرة وجبر الضرر وعدم تكرار الانتهاكات..
عبقرية وبصيرة ملكِ برزت في ملف طي صفحة “رمادية ” بتبنى مقاربة شمولية وجريئة ومتبصرة تعتمد الإنصاف ورد الاعتبار لمصالحة المغاربة مع ذاتهم وتاريخهم وتحرير طاقاتهم للإسهام في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي..
سيذكر التاريخ أن ملك المغرب محمدا السادس كان أكثر جرأة من المؤرخين أنفسهم ورفع عنهم الحرج في سبيل قول الحقيقة ولو مُرة… وقال بنسبية بلوغ الحقيقة الكاملة التي لا يعلمها إلا الله.
وسيذكر التاريخ أن العاهل المغربي سعى الى مصالحة صادقة وكاظمة للغيظ للتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية من أجل تعبيد طريق المستقبل…
أعتقد أن هذا الحدث الحقوقي والإنساني المهم يتطلب منا المزيد من المتابعة والمزيد من القراءات الأكاديمية والإعلامية والحقوقية، وأن نُبدع في تقديمه في “سرد” يرقى إلى قيمة تراكمه الإنساني ولقوته القانونية والحقوقية.
ولعل ذاكرة الحاقدين تحتاج إلى التذكير أيضا ببرنامج “مصالحة” الخاص بالمدانين في الأحداث الإرهابية، إذ رغم كل الألم والفجيعة والضحايا فإن الأمل في إعادة إصلاح وإدماج السجناء المدانين بقضايا الإرهاب بقي قائما… وهكذا شملت العديد منهم قرارات العفو الملكي، خلال مناسبات وطنية ودينية…
وهنا، أيضا، لم يكن المغرب تحت “ضغط دولي”؛ لأن المغرب يتمتع بتراكم تاريخي كبير في مجال العفو… هذا بعيدا عن الدخول في سجالات قانونية تتعلق بـ”مؤسسة العفو” كمؤسسة دستورية وقانونية، وتوزيعه بين العفو الخاص والعفو العام، واعتباره آلية عالمية / كونية نصت عليها العديد من الأنظمة العالمية وخصتها حصريا لرئيس الدولة؛ كالعفو الرئاسي في الأنظمة الرئاسية… وبعيدا أيضا عن تفاصيل مساحات السياسة الجنائية والسياسية العقابية.
وبما أن المناسبة شرط، فلابد من التذكير بالحقيقة المزعجة لبعض هواة السباحة في المياه الآسنة برائحة غاز “سونطراك”؛ ذلك أن الجالس على عرش المغرب هو أيضا “أمير المؤمنين”.. وتبعا لذلك، فهو رئيس المجلس العلمي الأعلى الذي يتوفر على حصرية إصدار الفتوى، ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وأن الأحكام القضائية تصدر باسم جلالة الملك… لذلك، فتوقيعه لقرارات العفو، سواء عن سجناء الحق العام أو الخاص، هو قرار سيادي / شرعي ولا علاقة لأية جهة خارجة أو أيّ ضغط خارجي بتوقيت توقيعه.
لكنها أجندة رئيس الدولة المغربية وإرادة أمير المؤمنين يستلهم جذورها من جده الرسول الكريم يوم خاطب قريش: “اذهبوا فأنتم الطلقاء…”، يوم فتح مكة.. وأيضا من ملوك وسلاطين الدولة المغربية؛ فها هو السلطان محمد بن عبد الله يفاوض الفرنسيين من أجل إطلاق الأسرى المسلمين حتى ولو كانوا غير مغاربة… أضف إطلاق المنصور الموحدي لأكثر من عشرين ألف قشتالي بعد هزيمتهم في معركة الأرك… وعفو جده السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه على الباشا الكلاوي… ثم قولة والده المرحوم الحسن الثاني: “إن الوطن غفور رحيم “….
بعد كل هذا التراكم التاريخي والشرعي، سيوضح الملك محمد السادس عمق فلسفته في مجال العفو والمصالحة بقوله في يناير 2006: “… بمثابة استجابة لقوله تعالى: “فاصفح الصفح الجميل”. وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي. إصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية. وبذلكم نعبد الطريق المستقبلي”.
تاريخ طويل ولائحة أطول تؤرخ لمؤسسة العفو كقيمة إنسانية روحية وأخلاقية متجذرة ومتجددة في أعراف السلاطين والملوك المغاربة… لذلك، فلا غرابة أن يتمتع صحافيون ومدونون ومدانون في قضايا الإرهاب بعفو ملكي يوم احتفال المغاربة بربع قرن على جلوس الملك محمد السادس على عرش أسلافه المنعمين.
لكن المضحك في الأمر هو أنه في الوقت الذي كان أفراد الشعب المغربي، سواء بالداخل أو من مغاربة العالم، يعبرون عن فرحتهم بمناسبة العفو الملكي الأخير فإنهم كانوا يدركون حجم الكارثة التي حلت على قبيلة الخونة بالخارج والمسترزقين والمبتزين، إذ إن قرار العفو سيقطع عليهم نعمة أوليائهم؛ لكننا لن نلتفت إلى تلك الشرذمة الفاقدة للحس الوطني والأخلاقي لضربها في مؤسسات سيادية وفي رجالات أوفياء للملك وللوطن..
وبقي أن نذكرهم، أخيرا، بأن قرارات العفو هي مسألة سيادية وأمانة عظمى يحملها العاهل المغربي عن أسلافه وترسيخ لتقاليد ملكية عريقة، إذ قال “كبير العائلة” في سنوات عهده الأولى موجها البوصلة نحو المستقبل: “كفى من الأنانية والانطواء على ذواتنا وهدر الفرص الثمينة واستنزاف الطاقات في معارك وهمية.. وقد آن الأوان لتدبر حاضر أبنائنا ومستقبلهم. فشبابنا لن يتفهموا عدم تحقيق تطلعاتهم المشروعة للعيش الحر الكريم”.
فبين يناير 2004 وصيف سنة 2024، عشرون سنة من العمل الجاد في مجالات التسوية والإنصاف والمصالحة والعدالة الانتقالية ودسترة حقوق الإنسان وترسيخ ممارستها والعديد من قرارات العفو الملكي.. ولا عزاء للحاقدين.
المصدر: هسبريس