على مدى عقود ظلت قضية الصحراء محاطة بكمّ هائل من الخطابات المتضاربة والتوصيفات المتشنّجة التي تحوّلت في كثير من الأحيان إلى أدوات صراع أكثر منها وسائل لفهم الواقع. فمصطلحات من قبيل المرتزقة والخونة والانفصاليين وأعداء الوحدة الترابية والمحتجزين وعملاء الجزائر رسّخت انقساماً لغوياً يعكس تعبئة مشحونة، لا تخدم مشروع التسوية بقدر ما تعمّق الشرخ الاجتماعي. ورغم أن بعض هذه التوصيفات نشأ داخل سياقات خاصة، إلا أنّ استمرار استعمالها اليوم أصبح من أبرز العوائق أمام بناء حكم ذاتي فعلي يحتاج إلى أرضية اجتماعية موحّدة تتجاوز لغة الصراع نحو لغة المصالحة داخل الوطن الواحد.
وقد حرص ملك البلاد، ولا يزال، على تصحيح هذا المنزلق من خلال خطابات سامية وكلمات جامعة يصف فيها الصحراويين في المخيمات بـ أهلنا وإخواننا، مؤسساً لرؤية تقوم على حلول “لا غالب فيها ولا مغلوب”، وعلى حكم ذاتي يحفظ ماء وجه الجميع، ويؤكد المساواة بين العائدين والسكان المحليين دون تمييز.
في هذا السياق، يأتي القرار الأممي 2797 ليؤكد أهمية المفاوضات كمسار أساسي لبلوغ حل واقعي ودائم ومتوافق عليه. غير أن أي تقدم دبلوماسي يظل هشّاً إذا لم يرافقه جهد داخلي لإعادة ترتيب العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع الصحراوي باعتباره جزءاً عضوياً من النسيج المغربي المتعدد. فالمجتمع الصحراوي ليس كتلة واحدة، بل فسيفساء واسعة تضم الأغلبية الموالية للدولة، والعائدين من مخيمات تندوف الباحثين عن موقع داخل بنية اجتماعية وسياسية ترسخت لعقود، وسكان مخيمات الوحدة الذين تحوّل وضعهم من ورقة للاستفتاء سنة 1991 إلى ورقة انتخابية تُستغل بشكل دوري طيلة 34 سنة، إضافة إلى أهالي واد نون الذين يشكّلون عنصراً حاسماً في معادلات الجنوب برمّته. وهذا التنوع الاجتماعي بكل تعقيداته شرط أساسي لنجاح أي نموذج للحكم الذاتي.
التحركات التي تشهدها المنطقة اليوم تشبه “تسخينات” سياسية تمهّد لموعد مفصلي ستتحدد فيه ملامح المرحلة المقبلة. وفي هذا الإطار تبرز أسماء صحراوية ذات وزن اجتماعي وقبلي، مثل خليهن ولد الرشيد وعمر العظمي وعبد الرحمن اللبيك، إلى جانب شخصيات أخرى تحظى بإجماع قبلي يتجاوز حضورها الحزبي. فهؤلاء يشكّلون أوراقاً مهمة في يد الدولة، كما يدركون حجم التحولات التي تعرفها المنطقة ودقة المرحلة.
وتأتي المبادرات السياسية الأخيرة التي أطلقها فاعلون مثل كجمولة والبشير والسالك وغيرهم لتعبّر عن وعي جديد بالتحولات العميقة التي طرأت على الملف. فلو ظهرت هذه الأصوات قبل عقدين، لربما جُنّبت المنطقة مأساة المخيمات التي تحوّلت مع الوقت إلى ورقة سياسية معقدة تتقاذفها أطراف داخلية وإقليمية ودولية، بينما يبقى الآلاف من الصحراويين داخل تندوف رهائن وضع إنساني مؤلم يخضع لحسابات تتجاوز إرادتهم. وهنا ينبغي عدم إغفال مبادرة أخرى “بين المنزلتين”، وهي مبادرة مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، الذي يمثّل نموذجاً حياً لمئات من ساكنة مخيمات تندوف.
أمام ذلك كلّه، تبدو المصالحة الداخلية ضرورة عاجلة وليست ترفاً سياسياً. فالحكم الذاتي مشروع دولة، لكنه في جوهره مشروع مجتمع، ولن ينجح ما لم تُفتح صفحة جديدة قوامها الاعتراف بكل المكوّنات بلا إقصاء أو تهميش، وتجاوز لغة الماضي المليء بالجراح، مع بناء آليات مشتركة فعالة تقود إلى المصالحة، وإشراك العائدين وسكان المخيمات والقبائل في هندسة مستقبل مشترك. إنّ الصحراء اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الاصطفافات، بل إلى إعادة بناء الثقة وتوحيد البيت من الداخل، حتى ينطلق مشروع الحكم الذاتي على أرضية اجتماعية صلبة قادرة على احتضان الجميع دون استثناء في مملكة الجميع.
المصدر: العمق المغربي
