الصمت الوجه الآخر للتطبيع

لقد فتح عبور السابع من أكتوبر 2023 إلى عسقلان أرض الرباط، صفحة جديدة في التاريخ، مازالت تكتب بدم مقاومي غزة، وشهدائها الأبرار وجرحاها الأطهار، الذين استرخصوا كل شيء في سبيل الله، ثم في سبيل تحرير وطنهم وأرضهم، والدفاع عن قدسهم روح روحهم. إن قادة المقاومة لما اختاروا الهجوم الذي أفقد العدو أي إمكانية للتعافي بعده مهما حاول، يدركون أن هذا هو الاختيار الوحيد أمامهم لفضح المؤامرة الكبرى التي تحاك من ورائهم، من قبل الحلف الأمريكي والكيان الصهيوني وأدواتهما الوظيفية، ومن يهرول للتطبيع معه من الأنظمة في المنطقة، والذين كانوا يعملون على قدم وساق لتسويغ تطبيعهم، حتى أضحى السرطان الصهيوني يتمدد في الكثير من المجتمعات في المنطقة، ويحاول الحكام المستبدين الاحتماء بالكيان اللقيط من شعوبهم للأسف.
ولذلك فالمطبعون والصهاينة الوظيفيون في المنطقة، لم يصمتوا بل دخلوا في عملية إعلامية واسعة لتحميل المقاومة تداعيات الحرب، مدعين أن طوفان الأقصى أعطى مبررا للكيان الغاصب لشن حرب إبادة ضد غزة واستمرار الانتهاكات في الضفة والقدس وأراضي 48، وقد خرج هؤلاء من جحورهم لدس سمومهم، تارة بتحميل المسؤولية للمقاومة، وتارة بالتشكيك في عقائد المقاومين وتدينهم وكلنا نتذكر هرطقة يا أبا عبيدة جاهد بالسنن، وتارة بتصوير المقاومة بأنها يد لإيران الفارسية المجوسية بزعمهم، وتارة بالقول بعدم جدوى المظاهرات والمسيرات التضامنية واعتبارها من البدع، وآخرون يصنفون القضية ضمن القضايا العربية، وبالتالي لا صلة لها بشعوب غير عربية، وتارة بمحاولة استغلال مواقف خاطئة أو مهادنة أو متواطئة لتيار من التيارات الفلسطينية. فالحجج كثيرة للتملص والسحرة الذين يبررون التخاذل والتآمر كثيرون، تجدهم في اليسار واليمن ويتكلمون لغات مختلفة، ويعبرون بوسائل مختلفة.
إن الشعب الفلسطيني خاصة في غزة يدرك صعوبة ودقة المرحلة، ويحس بقلة النصير وبغثائية الأمة ووهنها في هذه اللحظة التاريخية، لكنهم بالمقابل مؤمنون برسوخ يقين المقاومين والمجاهدين، وبأن الثمن الذين يدفعونه في سبيل دينهم ووطنهم غال، لكن طوفان الأقصى قرب ما كان بعيدا، وأذل الله به جيش الصهاينة المعتدين، وسقط في أيدي حكومات الحلف الصهيوني الأمريكي، خاصة بعد الحرب الهمجية والوحشية التي فاقت النازية، والتي لا يزال يشنها الاحتلال الصهيوني، والتي تمارس ضد شعب أعزل من وراء جدور الطائرات والدبابات، لكن عندما يكونون أمام المجاهدين يصبحون كالجرذان.
لقد كان خطاب قادة أركان المقاومة في بداية الطوفان متفائلا بالأمة وناشدوا فلسطيني الضفة بإشعال انتفاضة، وناشدوا الأمة بالمساندة، لكن التفاؤل لم يكن في محله، والقومة المطلوبة قومة الرجل الواحد لم تتحقق كما ينبغي، وكأن مشيئة الله أن يكون النصر المنتظر بإذن الله خالصا لغزة، حتى تكشف عورة هذا الكيان الصهيوني الغاصب، وحتى توضع الأمة بل وإنسان هذا العصر أمام سؤال يكوي وجدانه كلما تذكر خذلانه لغزة، وكيف فرط في معنى إنسانيته لما تغاضى عن حرب الإبادة الصهيونية؟ وكيف خذل الشعب المجاهد في لحظة تاريخية فاصلة؟ وكيف عجز مليار ونصف من المسلمين وبقية العالمعن إدخال المساعدات للشعب الذي يتعرض ليل نهار للقتل والتجويع والتشريد؟ إن ما سبق ذكره يضع مجتمعاتنا شعوبا وحكومات أمام سؤال جوهري، ماذا يريد منا شعب فلسطين وفي القلب منه غزة في هذه اللحظة الفارقة؟ إن الشعب الفلسطيني لا يريد منا حزنا وشفقة، بل يريد منا أعمالا تسند جهاده ومقاومته الباسلة التي كشفت عن جدارتها وقوتها وبأسها في قهر الصهاينة المحتلين، ولذلك فواجب الوقت قبل أن يقول القدر كلمته في القوم المتخاذلين.
1 على الحكام أن يدركوا أنهم في هوة سحيقة، ولن يخرجوا منها إلا بتغيير جذري لمواقفهم تجاه قضايا أمتهم، وعلى رأسها قضية فلسطين، لاسيما بعدما تبين لهم الحق، وظهر لهم بقوة الحجة الواقعية أن الكيان الذي كانوا ينتظرون منه أن يحمي كراسيهم، عاجز عن حماية نفسه، رغم الدعم الغربي المنقطع النظير على كل المستويات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية، إلا أنه وإلى حدود الساعة غارق في وحل غزة فلا هو حقق نصرا مطلقا كما يمني نفسه، ولا هو قضى على المقاومة، ولا هو حرر أسراه، وهو محاصر من قبل المقاومة اليمنية التي تعرقل سير سفنه وتقطع عنه الإمداد، وإذا كان الغرب يتبجح بحق الصهاينة في الدفاع عن أنفسهم، ويتباهى بتقديم أنواع الدعم، فلا أقل من أن يعترف حكامنا للمقاومة بأنها حركة تحرر وطني، وأن يدعموها بالسلاح سرا إن لم يستطيعوا المجاهرة و بالموقف السياسي وبكل مقومات الصمود، ومن العار أن تستمر العلاقات من قبل بعض البلدان المطبعة مع الكيان إلى حدود الساعة. وسيظل إغلاق معبر رفح وصمة عار على الشعب المصري والنظام المصري.
2 على الشعوب أن تعي أن الحكومات إما أن تكون رجع صدى لشعوبها، وتعبيرا حقيقيا عن إرادتها أو لا تكون، وقد جاءنا البرهان من الشعوب الغربية التي تتغير سياسات حكوماتها نسبيا بتغير مزاج الشارع، فرغم محدودية الحركة الاحتجاجية المتضامنة غربيا بحكم التعتيم الإعلامي والقمع والوصم بمعاداة السامية، إلا أن هذه الحركة غيرت الكثير من المفاهيم وحققت نتائج سيكون لها ما بعدها آنيا ومستقبلا، خاصة ما رأيناه سابقا من الطلاب الذين هم مستقبل الغرب. وللأسف فإن انخراط شعوب أمتنا لم يصل للحد الأدنى المطلوب، وإلا فإن جريمة الإبادة التي ترتكب في غزة كفيلة بتحريك الشعوب الإسلامية وممارستها ضغطا كبيرا على حكوماتها، وعلى ما يسمى بالمنتظم الدولي لإيقاف الحرب الهمجية ضد غزة، ولذلك فمسؤولية شعوبنا مسؤولية تاريخية، ولا مبرر للصمت ولنسيان أو تناسي مأساة غزة. إن انتماءنا للإسلام وللإنسانية قبل ذلك يفرض على الشعوب واجبات تجاه هذه القضية العادلة جماعات وأفرادا:
أن تدرك الموقف الشرعي في هذه القضية، وتدرك واجب النصرة وحقيقة هذا الواجب، وكيف يكون بالمال والنفس إن اقتضى الحال؟ ونحن نرى كيف أن الصهاينة من جنسيات مختلفة يقاتلون بجانب الجيش العدو، ويدعمون بكل أشكال الدعم المادي والإعلامي والسياسي.
ألا نصمت عما يجري وأن تستمر المظاهرات والمسيرات التضامنية، وكل أشكال الاحتجاج، وتجمع الجهود ويحفز غير على المشاركين، وتبذل كل الجهود لتتعاظم المشاركة الشعبية في أشكال الدعم والتضامن الشعبي.
أن تهتدي الأمة والإنسانية لطرق جمع الدعم المادي لمساندة المقاومة بالمال والسلاح، فهذه حركة تحرر وطني من الاحتلال، وكل الشرائع الدينية والقانونية تعترف لها بهذا الحق، ولا يمكن أن تخذل المقاومة في هذا الجانب، وإنه لعار أن ترسل دول أكفان للفلسطينين وتمنع عنهم السلاح والدواء والغذاء. في الوقت الذي تمد فيه أمريكا وألمانيا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا حليفتهم بكل سبل الدعم بما فيها أطنان من الأسلحة.
إن الصراع صراع عقول وإن المقاومة محتاجة لدعم تصاعد صناعتها العسكرية وجيشها السيبراني، وإيجاد البدائل التي تفقد العدو نقطة تفوقه المتمثلة في السلاح الجوي الذي يقصف به المدنيين العزل، فما تفعله الآلة العسكرية الجوية الصهيونية مدعومة بالذكاء الاصطناعي وبقواعد بيانات المؤسسات التكنولوجية العالمية، جيل جديد من الحروب القذرة التي لا تفرق بين الأطفال والنساء والمدنيين العزل.
إن عدالة قضية فلسطين وجهاد ومقاومة الأرض المباركة، يحتم على الأمة أن تشرك الجيل الناشيء، وترسخ في ذهنه أن الاستعمار داء وأن المقاومة دواء، وأن الصهاينة محتلون وقتلة ومجرمون، والتخلص من احتلالهم واجب على كل الأمة، وبالمقابل تقف ضد كل أشكال التسلل الصهيوني تحت مسميات التطبيع والتسامح، والتاريخ المشترك، وغيرها من الشعارات الكاذبة.
إن الانخراط في المقاطعة الاقتصادية للمنتج الصهيوني والأمريكي هو واجب الوقت، ومن العار أن يستمر استهلاك منتجات ذات صلة بالكيان، وكما هو معلوم فالشركات التي تدعو حركة المقاطعة لمقاطعتها، تدعم الكيان بملايير الدولارات، وإن المقاطعة هي ممارسة للاختيار الحر والواعي والداعم للقضية الانسانية، وكذلك تقليم لأظافر الجهات الداعمة للصهيونية، وفيها تشجيع للمنتج المحلي، وتقوية تنافسيته.
إن حرب الإبادة الصهيونية في غزة تضع ضمير الإنسانية في مأزق كبير، وإن فكيف يتفرج العالم في حرب إبادة على الهواء مباشرة، ويشاهد وحشية الصهاينة، وما تفعله آلتهم الحربية في أجساد النساء والأطفال والعزل، ومن لم يمت بالقصف يموت بالجوع والحصار، ومنع الدواء والعلاج، إن الصمت هو الوجه الآخر للتطبيع، بل لا قدر الله هو الوجه الآخر للمشاركة في الإبادة الوحشية للشعب الفلسطيني. لاسيما عند من له إمكانية الفعل والدعم ولم يفعل.
المصدر: العمق المغربي