خمسون سنة من اندلاع النزاع بين المغرب وجبهة البوليساريو حول السيادة على الأقاليم الجنوبية، وفي المدة الفاصلة بين حدث المسيرة الخضراء سنة 1975 وحدث الاحتفال بالذكرى الخمسين لاسترجاع المغرب لأراضيه من إسبانيا، استطاع المغرب أن يخرج منتصرا في أهم المنعرجات التي عرفتها القضية الوطنية، معتمدا في ذلك على حقائق الجغرافية السياسية والتحولات الجيوسياسية والعقلانية السياسية والدبلوماسية الهادئة بأهداف استراتيجية.
طول هذه المرحلة التي تناهز نصف قرن، صدر ما يقارب 40 قرار، وتناوب على مهمة المبعوث الشخصي للأمين العام لأمم المتحدة ستة مبعوثين، وعايشه ستة أمناء عامين للأمم المتحدة من النمساوي كورت فالدهيم إلى البرتغالي غوتيريس.
وعرفت ولاية الأمين العام للأمم المتحدة الكوري الجنوبي بان كيمون توترا دبلوماسيا عاليا مع المغرب بسب خروجه عن حياده، عندما وصف أثناء زيارته لمخيمات المحتجزين بتندوف الصحراء بالمحتلة، حيث تصدى المغرب بحزم وصرامة رسمية وشعبية لمحاولة بان كيمون استعمال مصطلحات تناقض بشدة القاموس التي دأبت الأمم المتحدة على استخدامه فيما يتعلق بالصحراء المغربية، حيث قام المغرب بتقليص عدد موظفي بعثة الأمم المتحدة في الصحراء المغربية وسحب مساهمتها المالية الطوعية للبعثة.
وطوال هذه الفترة الممتدة في الزمان والمكان، استطاع المغرب أن يتكيف ويواجه مختلف التحديات والصعوبات، بالوسائل الدبلوماسية التي تمكنه من تعزيز سيادته على أقاليمه الجنوبية، والوسائل العسكرية التي تمكنه من الدفاع عن حدوده وسيادة أراضيه الصحراوية.
انتصارات عسكرية وتحصين الأقاليم من هجمات البوليساريو
عرفت المرحلة الممتدة بين سنة 1975و قرار وقف إطلاق النار سنة 1991، اشتباكات عسكرية قوية ومناوشات مستمرة تجاوزت أكثر من 50 مواجهة عسكرية، استطاع المغرب من خلالها تحقيق انتصارات ميدانية كمعركة أمغالا الأولى ومعركة السمارة، وأن يمتص الخسائر التي مني بها في معركة كلتة زمور ومعركة بئر أنزران، فضلا عن الهجمات التي كان يقوم بها البوليساريو مدعوما من طرف الجزائر كالهجوم على السمارة وحامية المحبس والهجوم على محاميد الغزلان وغيرها من الهجمات التي استعملت فيها أنواع مختلفة من الأسلحة والعتاد العسكري، والتي صدها المغرب من خلال التفوق الجوي الذي يتمتع به من طائرات مختلفة ومروحيات عسكرية.
وشكل بناء الجدار الرملي تفوقا عسكريا استراتيجيا ضد جبهة البوليساريو، والذي تم بناؤه على مراحل امتدت منذ سنة 1980 إلى سنة 1987.
وكان تحرير معبر الكركرات آخر مسمار دق في الأوراق العسكرية لجبهة البوليساريو التي كانت تستغل هذا المعبر للترويج على أنه تمتلك السيطرة على الحدود المغربية الموريتانية، حيث استطاع المغرب بعمليات عسكرية نوعية ودقيقة في تحييد المليشيات العسكرية لجبهة البوليساريو وإبعادهم من المعبر، ومباشرة فرقة الهندسة العسكرية في بناء جدار عسكري عازل ساهم في توفير الأمن والحد من التهديدات الأمنية التي تشكلها العصابات التي تنشط في تهريب المخدرات والمجموعات المسلحة التي تنشط في شمال مالي.
وحتى بعد مرحلة وقف إطلاق النار سنة1991، فإن المغرب اختار دائما نهج الصبر الاستراتيجي والتكتيكي في نفس الوقت، حيث وازن بين عدم الانجرار إلى رد الفعل والسقوط في فخ العودة إلى حالة الحرب وعودة الملف إلى نقطة البداية، والاحتفاظ لنفسه لمواجهة هذه الاستفزازات العسكرية التي تهدد أمنه القومي بشكل مباشر وواضح من خلال الردع باستعمال الطائرات المسيرة.
قرار الانسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية والعودة إلى الاتحاد الإفريقي
في إطار الدينامية التي تعرفها الدبلوماسية المغربية للبحث عن حل سلمي لهذا النزاع، قرر الملك الراحل الحسن الثاني من نيروبي قبول إجراء الاستفتاء في الأقاليم الجنوبية في ظرف ثلاث أو أربعة أشهر، ولكن خصوم الوحدة الوطنية ازداد طموحهم السياسي في تنفيذ خططهم التي تستبق تنظيم الاستفتاء، بقبول ما يسمى الجمهورية الصحراوية في منظمة الوحدة الإفريقية، وما كان على المغرب إلا قرر الانسحاب من هذه المنظمة سنة1984، بخطاب ألقاه مستشار جلالة الملك السيد رضا كديرة حيث اعتبر الملك الحسن الثاني ” ها قد حانت ساعة الفراق، ووجد المغرب نفسه مضطرا ألا يكون شريكا في قرارات لا تعدو أن تكون حلقة في مسلسل لا رجعة فيه لتقويض أركان المشروعية، العنصر الحيوي لكل منظمة دولية تحترم نفسها”.
سنة 2017 سوف يعود المغرب إلى كنف الاتحاد الإفريقي، تتويجا للقاعدة الدبلوماسية الصلبة التي بناها المغرب في علاقته مع دول القارة الإفريقية من خلال الزيارات الملكية لعدد من البلدان التي أثمرت عددا من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي، وسحب عدد من الدول اعترافها بما يسمى الجمهورية الصحراوية ودعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب إلى الأمم المتحدة سنة 2007. حيث أصبح مناسبا لاستعادة موقع المغرب في الفضاء المؤسساتي لمنظمة الاتحاد الإفريقي.
حيث وجه الملك محمد السادس إلى القمة السابعة والعشرين للاتحاد الإفريقي التي انعقدت في العاصمة الرواندية ومما جاء فيها:” هل سيظل الاتحاد الإفريقي مصرا على مخالفة المواقف الوطنية للدول الأعضاء، حيث لا تعترف 34 دولة على الأقل، أو لم تعد تعترف بهذا الكيان، وحتى ضمن 26 بلدا الذين انحازوا لجانب الانفصال سنة 1984 لم يعد سوى قلة قليلة لا يتعدى عددها 10 دول” وإن المغرب يتجه اليوم بكل عزم ووضوح، نحو العودة إلى كنف عائلته المؤسسية، ومواصلة تحمل مسؤولياته بحماس أكبر وبكل اقتناع.
دبلوماسية الظل
اختار المغرب أسلوب دبلوماسية الظل والابتعاد عن الأضواء مع أصدقائه وحلفائه، وأن تيسير اللقاءات الدبلوماسية والحوار السياسي المستمر والدائم معهم بعيدا عن القنوات التقليدية والعامة، هو أكثر فعالية من اللقاءات والزيارات التي يغلب عليه الطابع البروتوكولي والرسمي، وأن هذه الأخيرة تكون تتويجا لنتائج هذه الحوارات.
وقد شكل اعتراف الولايات المتحد الأمريكية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية سنة 2020، تحولا مهما ومفاجئا لأصدقائه قبل خصومه وأعدائه، حيث شكل هذا الاعتراف تحولا جوهريا في مسار مواقف الدول من قضية الصحراء المغربية، حيث تحولت المواقف الرافضة لهذا الاعتراف من طرفا اسبانيا وألمانيا إلى دعم لمبادرة الحكم الذاتي كخيار واقعي وجدي لحل هذا النزاع المفتعل.
وعمل المغرب على إعادة ترتيب علاقاته مع كل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا بعد مرحلة الأزمات والتوترات، باعتماد ديبلوماسية الظل، بحيث استطاعت هذه الدبلوماسية أن تثمر مواقف جذرية لهذه الدول إزاء قضية الصحراء المغربية، حيث اعترفت هذه الدول بالحكم الذاتي كاختيار وحيد لحل هذا النزاع. وتحول التوتر مع هذه الدول إلى غنيمة دبلوماسية تاريخية، وانتقل هذا المكسب السياسي للمغرب إلى أزمة عند الجزائر وجبهة البوليساريو اللتان لم تستوعبا ما حدث.
ثبات الموقف إزاء محاولات طرح التقسيم
كانت استراتيجية المغرب منذ المسيرة الخضراء واضحة، هي استرجاع الأقاليم الجنوبية وبسط سيادته على صحرائه، بحيث جميع المحاولات والمناورات الدبلوماسية التي قامت بها الجزائر وجس نبظ المغرب في قبول اقتراحات تخرج عن هذا الهدف، كان يعتبرها المغرب أنها غير قابلة للمناقشة حاضرا ومستقبلا ابتداء وانتهاء.
فالمغرب تصدى بكل حزم لاقتراحات جيمس بيكر بتقسيم الصحراء المغربية سنة 2002، وهو الاقتراح الذي كان بإيعاز من الجزائر وفق ما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2002، أن بيكر خلال لقائه مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في نونبر 2001 في هيوستن، عبرت كل من الجزائر ولبوليساريو عن استعدادها لمناقشة أو التفاوض حول تقسيم الصحراء الغربية كحل سياسي للنزاع القائم. وهو نفس الاقتراح كان كذلك من طرف الجزائر حسب تعبير ديمي ستورا الذي أكد أن بعض الدول أعربت عن بعض الاهتمام بالموضوع.
مواجهة سياسة الاعترافات القضائية
أمام الحصار الدبلوماسي التي أصبحت تعرفه ما يسمى بالجمهورية الصحراوية، بسبب سحب عدد من الدول في امريكا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا وأسيا الاعتراف بها مقابل تزايد عدد الدول التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي، استعملت الجبهة معركة الاعترافات القضائية أمام محاكم الاتحاد الأوروبي بعدم مشروعية اتفاقيات الفلاحة والصيد البحري، لمحاولة العودة إلى واجهة الأحداث الدولية.
ورغم إلغاء مكمة العدل الأوروبية لهذه الاتفاقيات فإن المغرب استطاع أن ينتزع من الاتحاد الأوروبي تصريحات تؤكد على العلاقات الاستراتيجية التي تربطه بالمغرب، وإعادة صياغة الاتفاقيات التي تربطه بالاتحاد الأوروبي بما يكرس سيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية.
دبلوماسية يقظة في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن
معارك داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة خاصة في اللجنة الرابعة، حيث توسعت دائرة الدول التي تدعم سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية من بلدان الخليج العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، والولايات المتحدة ألأمريكية وفرنسا، والدول التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي، وتراجع الدول التي تدعم طرح تصفية الاستعمار وانحصارها في عدد محدود من الدول وفي مقدمتها الجزائر وجنوب إفريقيا وناميبيا وكوبا وفينزويلا ونيكارغوا.
ونفس اليقظة الدبلوماسية والسياسية يقوم بها المبعوث الدائم للمغرب في الأمم المتحدة خاصة في السنوات الأخيرة السيد عمر هلال، سواء من خلال ردوده على التدخلات المضللة لممثل الجزائر، أو من خلال الرسائل التي توجه إلى رئيس وأعضاء مجلس الأمن، كما هو الشأن بالرسالة التي وضح فيها أن التقرير الإخباري الذي وجه رئيس مجلس الأمن الدولي للجمعية العامة يتضمن تعابير لا تنسجم مع قرارات مجلس الأمن التي تؤكد على الأطراف بذل الطرفين التي جاءت في التقرير.
واثناء صياغة مشاريع القرارات المتعلقة بالصحراء المغربية من الجانب المتعلق بعدم توسيع صلاحيات بعثة المينورسو ليراقب حقوق الإنسان كما حصل سنتي 2006 و2013، وغيرها من المواقف.
ويبقى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797، قرار مفصليا وتاريخيا في هذه المحطات والصيرورة التاريخية التي خاض فيها المغرب معارك في مختلف الاتجاهات وعلى مختلف الواجهات، انتهت بالاعتراف بمبادرة الحكم الذاتي كإطار وحيد للمفاوضات بين الأطراف الأربعة المغرب والجزائر وموريتانيا وجبهة البوليساريو، لتبدأ معركة جديدة هي معركة المفاوضات لتنزيل الحكم الذاتي وإغلاق هذا الملف الذي أرخى بضلاله على مستقبل منطقة شمال وغرب إفريقيا.
المصدر: العمق المغربي
