تأويلات على ضوء علم الاجتماع
“الجمهور يشبه كائنًا نائمًا يستيقظ فجأة، لكنه يتحرك دون وعي”
هكذا يصف غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير السلوك الجمعي حين يخرج عن وعيه الفردي ليتماهى في حالة جماعية تفتقر إلى التمييز والتحليل. لكن، هل يجوز لنا أن نُسقط هذا الوصف بشكل مباشر على الجماهير الرياضية الغاضبة؟ وهل يصح اختزال سلوكهم في انعدام الوعي فحسب؟
إن التسرّع في إصدار الأحكام القيمية (les jugements de valeur) يوقعنا في فخ التبسيط المخل، ويُغفل الأسباب البنيوية التي تشكل هذا الواقع. ومن هنا، تبرز أهمية استخدام المشرحة السوسيولوجية في قراءة الظاهرة، من أجل بناء فهم أكثر عمقًا وتعقيدًا.
أولًا: المقاربة الأمنية بدلًا من المقاربة الاجتماعية
من المسلّم به أن تغليب المقاربة الأمنية في التعاطي مع أحداث العنف الرياضي، بدلًا من المعالجة الاجتماعية والتربوية، يُسهم بشكل كبير في تأجيج سلوك بعض الجماهير.
فالمدارس، عوض أن تقوم بدورها في التنشئة الاجتماعية عبر ترسيخ قيم الروح الرياضية، وتوجيه الطاقات الشبابية نحو التفريغ الإيجابي من خلال الرياضة، نجدها محكومة بمقررات جوفاء، تفتقر إلى أي مضمون قيمي أو تربوي حقيقي.
إن غياب الوسائط الاجتماعية الفاعلة، وضعف الوازع الأخلاقي، وانعدام فضاءات التعبير والمشاركة، كلها عوامل تدفع بالشباب نحو المدرجات، بحثًا عن هوية، وعن جماعة ينتمون إليها، وعن صوت مفقود في فضاء اجتماعي يشعرهم بالإقصاء.
ويؤكد الباحث باتريك مينون في كتابه “عنف الملاعب La Violence des stades” هذا المعنى بقوله: “كرة القدم، مثل غيرها من الرياضات، تُجسِّد توترات اجتماعية وهوياتية. وعنف المدرجات ليس مجرّد فوضى عابرة، بل هو غالبًا تعبير عن اضطراب أعمق، يرتبط بالشباب، والتهميش، والمطالبة بالانتماء.”
إن هذه المقاربة تُظهر أن العنف ليس وليد الانحراف، بقدر ما هو نتيجة تفاعلية لظروف اجتماعية خانقة، وفقدانٍ لدور المؤسسات الوسيطة كالعائلة، والمدرسة، ودور الشباب، والمجتمع المدني.
ثانيًا: من الهامش إلى الشغب.. حين تفقد المؤسسات دورها
حين تتخلى المؤسسات الاجتماعية عن أدوارها، يدخل الفرد في حالة من الانفصال عن المجتمع . وتبدأ رحلته في البحث عن بدائل تملأ فراغه الوجودي، وعن أشكال من الرفض والتمرد تُعيد له شيئًا من القيمة والاعتراف.
وفي هذا السياق، نجد صدىً قويًا لما قاله مصطفى حجازي في سيكولوجية الإنسان المهدور:
“يُهدر الإنسان حين يُجرد من حقه في أن يكون، في أن يُسمع صوته، في أن يُقرر مصيره.”
الهدر النفسي والاجتماعي لا يولّد فقط الانسحاب، بل قد يتحوّل إلى عدوانية كامنة، وانفجارات عنيفة في مناسبات جماهيرية تُشعره بأنه موجود، ومسموع، ولو من خلال الفوضى.
ثالثًا: النوادي و”التمييز الطبقي”
رغم أن الرياضة تُعتبر حقًا للجميع، إلا أن الواقع يكشف عن إقصاء ممنهج لشرائح واسعة من الشباب. فالأندية الرياضية غالبًا ما تبقى حكرًا على أبناء الطبقات الميسورة، فيما تُغلق الأبواب أمام المواهب التي تنبت في الهامش، وفي الأحياء الشعبية، حيث تغيب البنيات التحتية، وتنعدم فضاءات الممارسة والتأطير.
الرياضة المدرسية… حين لا تُخرّج أبطالًا
لم تُنجِب جامايكا أبطالها العالميين صدفة، بل من خلال مدارسها التي آمنت بالرياضة حقًا تربويًا واستثمارًا إنسانيًا. أما مدارسنا، فبدل أن تصنع الأبطال، تحوّلت إلى فضاءات تُنتج جماهير غاضبة، تبحث في المدرجات عما فاتها داخل القسم.
ففي غياب البنية التحتية، وقلّة التكوين، وندرة الفضاءات المؤهلة، أصبحت المدرسة مقبرة للمواهب، لا حاضنة لها.
إنّ الطفل المحروم من التعبير الرياضي، يُشبه مثل ذلك الإنسان الذي وصفه مصطفى حجازي في سيكولوجية الإنسان المقهور حين قال:
“إنه إنسان محبط، يشعر بأن وجوده غير ذي جدوى، تتراكم في داخله القهرات ليبحث لها عن متنفس.”
هذا المتنفس قد يكون العنف في الملاعب، أو الانسحاب من الحياة المدرسية برمّتها.
ويضيف حجازي: “حين تغيب المؤسسات القادرة على استيعاب طاقة الإنسان، تتحول هذه الطاقة إلى نقمة موجهة ضد الذات والمجتمع.”
هكذا، تغيب الرياضة عن المدرسة، فيغيب الأبطال، ويحضر الغضب بدل المجد.
المصدر: العمق المغربي