رغم أن الشعبوية السياسية تُطرح اليوم كظاهرة معاصرة مرافقة للتحولات السياسية والاجتماعية الراهنة، إلا أن جذورها تمتد عميقًا في التاريخ الحديث. فقد بدأت في القرن التاسع عشر كحركات احتجاجية ضد النخب الاقتصادية والطبقات السياسية، لا سيما بين المزارعين في الولايات المتحدة وروسيا، حيث رفعت شعار “استعادة السلطة إلى الشعب”. ثم تحولت تدريجيًا إلى تيارات سياسية تدّعي تمثيل “الشعب الحقيقي” في مواجهة من يُنظر إليهم كممثلين للمصالح النخبوية أو المؤسسات المنفصلة عن الواقع الشعبي.
وفي القرن العشرين، برزت قيادات شعبوية في عدة دول، مزجت بين الخطاب الوطني والسياسات الاجتماعية، مع اعتماد كبير على الكاريزما والزعامة الفردية. وبعد تراجع نسبي عقب الحرب العالمية الثانية، عادت الشعبوية بقوة في الثمانينيات، مدفوعةً بتداعيات العولمة، وأزمات التقشف، وتآكل الطبقة الوسطى، واستفحال اللامساواة.
في السياق العربي، وخاصة في المغرب، شهدت الشعبوية خلال السنوات الأخيرة تصاعدًا لافتًا، جعلها إحدى السمات البارزة في المشهد السياسي والإعلامي. فقد أصبح هذا النمط من الخطاب حاضرًا في الحملات الانتخابية، ومتداولًا على نطاق واسع في الإعلام التقليدي والرقمي، ويحظى بتأييد شريحة من المواطنين المنهكين بفعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والباحثين عن بدائل سياسية ولو من خارج منطق المؤسسات.
غير أن الخطاب الشعبوي، رغم اقترابه الظاهري من نبض الشارع، ينطوي على نزوع خطير نحو التبسيط المخل، والتهريج الممنهج، وتبخيس المؤسسات، مما يُربك مسارات الإصلاح الديمقراطي، ويفرغ الممارسة السياسية من مضمونها المؤسساتي والفكري، ويحول النقاش العمومي إلى ساحة للصراخ بدل الحوار، وللتعبئة العاطفية بدل العقلانية.
من هنا، تطرح هذه الورقة الإشكالية المركزية التالية:
كيف يمكن مواجهة خطابات الشعبوية السياسية التي أسهمت في تدهور الذوق العام، وأفرغت السياسة من مضامينها الفكرية والمؤسساتية؟
وما هي الآليات الممكنة لبناء خطاب عقلاني متوازن يُعيد الاعتبار للنقاش العمومي، ويُعزز ثقة المواطنين في الفعل السياسي؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية، نقترح تناول الموضوع عبر المحاور التالية:
المحور الأول: تفكيك الخطاب الشعبوي .. السمات والمخاطر
يمتاز الخطاب الشعبوي عن غيره من الخطابات السياسية العقلانية بكونه لا يُبنى على رؤية معرفية متماسكة أو برامج مجتمعية قابلة للتحقيق، بل يستند إلى منطق الاستقطاب الثنائي الحاد، والاستثارة العاطفية المباشرة، وشيطنة الخصوم والمؤسسات القائمة. يقوم هذا الخطاب على اختزال الواقع المعقد إلى ثنائيات مبسطة، من قبيل: “الشعب النقي” في مقابل “النخبة الفاسدة”، أو “الأصالة” مقابل “العمالة/الفساد”، ما يخلق بيئة رمادية تفتقر إلى التدرّج السياسي والدقة التمييزية في الطرح “nuance”، ويعوق إمكانيات الحوار والتفاوض.
تتجلى السمات الشعبوية كذلك في تقديم “الزعيم” باعتباره المخلّص الذي يحتكر الحديث باسم الشعب، ويُنظر إليه بوصفه صوت الجماهير الصامتة أو المهمشة، مما يقوض فكرة التمثيل الديمقراطي وشرعية المؤسسات الوسيطة (أحزاب، برلمان، نقابات…). ومن هنا، يمكن لقائد حزب سياسي أن يتخذ خطابًا شعبويًا، فيؤطر حزبه حول مزايدات عاطفية، ويستثمر الاستقطاب السياسي كأداة لتحقيق مكاسب انتخابية سريعة، دون تقديم برامج أو حلول واقعية.
في المشهد المغربي، مثلاً، شهدنا في مناسبات عدة تصاعد خطاب بعض القادة السياسيين الذين لجؤوا إلى توظيف الشعبوية من خلال مهاجمة المؤسسات ونخبة الحكم بشكل مبالغ فيه بل حتى مهاجمة من يخالفونهم الرأي، مستهدفين بذلك تأييد قواعد شعبية تبحث عن التغيير، لكنهم في المقابل يضعفون مناعتها الديمقراطية ويُفرغون العملية السياسية من مضامينها المؤسساتية.
ولا تقف خطورة الخطاب الشعبوي عند حدود زعزعة الاستقرار السياسي أو التشويش على الإصلاحات البنيوية، بل تمتد إلى تفكيك العقد الاجتماعي ذاته، من خلال تكريس مناخ من العدمية والشك، وتهميش الكفاءات والخبرات لصالح وجوه تعتمد التهريج والتبسيط والتسويق الشعبوي. وهكذا، يتحول الفاعل السياسي من مُقترح ومؤطر إلى “مؤثر” يروّج الوهم أكثر من تقديم البديل، ما يؤدي إلى تسطيح الوعي الجماعي، وإضعاف مناعة المجتمع الديمقراطية، ويُمهّد، في المدى المتوسط، لعودة أنماط سلطوية تُغلف نفسها بالشعبية أو تحكم باسمها.
المحور الثاني: الأسباب البنيوية لصعود الخطاب الشعبوي
لا ينشأ الخطاب الشعبوي في فراغ، بل هو نتاج بيئات سياسية واجتماعية تتميز بهشاشة مؤسساتية وانعدام الثقة بين المواطن والدولة. ترتبط جذور صعود الشعبوية بعدة عوامل بنيوية، أبرزها:
أولًا، غياب النخب السياسية المسؤولة والقادرة على تقديم مشاريع إصلاحية شاملة ومتوازنة يُشعر الجمهور بالعجز السياسي، ويترك فراغًا تستغله الشعبوية عبر خطاب مبسط يعِد بالحلول السحرية دون جهد أو تعقيد. ويُلاحظ هذا الضعف في المغرب من خلال فشل بعض الأحزاب في تقديم برامج واقعية تلبي تطلعات المواطن، ما فتح الباب أمام خطاب شعبوي يسعى لاستقطاب قواعد واسعة عبر مزايدات سياسية وشعارات سهلة الاستهلاك.
ثانيًا، ضعف الإعلام المهني والتخصصي، إذ غالبًا ما يتحول الإعلام إلى ساحة لصراعات الإثارة والبحث عن المشاهدات السريعة، بدل أن يكون مؤطّرًا يُسهم في بناء وعي نقدي عبر تقارير استقصائية وتحليلات معمقة تعزز القدرة على التمييز بين الشعارات والأفكار. في المغرب، شهدنا في مناسبات عدة تحوّل بعض وسائل الإعلام إلى فضاءات للخطابات الانفعالية، مما ساهم في تعزيز الخطاب الشعبوي على حساب النقاش العقلاني.
ثالثًا، محدودية الثقافة السياسية لدى شرائح واسعة من المواطنين، ما يجعلهم عرضة للتأثير العاطفي ولخطابات تبسيط الواقع، بدل امتلاك أدوات نقدية وتحليلية لفهم البرامج والسياسات، وهذا مرتبط بمستوى التعليم والتربية السياسية التي لا تحظى بالأولوية في المنظومة التعليمية.
رابعًا، ضعف قنوات التواصل الرسمي بين الدولة والمجتمع المدني، حيث تغيب الشفافية في اتخاذ القرار، ويُفتقد الحوار المستمر مع المجتمع، ما يفتح الباب أمام خطابات بديلة تُروّج الشك والريبة تجاه المؤسسات.
أخيرًا، تأتي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، مثل ارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الخدمات العامة، وتزايد الفوارق الاجتماعية، لتشكل بيئة خصبة للخطاب الشعبوي الذي يلتقط الغضب الشعبي ويستخدمه كوقود للتحشيد والتعبئة. وقد برز هذا بوضوح خلال احتجاجات حركة 20 فبراير 2011 التي جسدت غضبًا شعبيًا ضد الفساد وتردي الأوضاع المعيشية، واستُغل جزء من هذا الغضب في إطلاق خطاب شعبوي يُبسط الأزمة ويقدم حلولًا سريعة دون بنية إصلاحية واضحة.
في المجمل، إن غياب هذه المقومات البنيوية والتشريعية والتنظيمية يجعل الساحة السياسية عرضة لاستفزازات الشعبوية، التي تستغل المشاعر المتأججة وتُضعف روح الديمقراطية والتعددية، محولة السياسة من ممارسة عقلانية إلى خطاب عاطفي يستثمر الانفعالات أكثر من الحلول.
المحور الثالث: نحو تجاوز مأزق الخطاب الشعبوي .. بدائل عقلانية لتأهيل المجال العمومي
لمواجهة تمدد الخطاب الشعبوي وتأثيراته السلبية على الدينامية السياسية، تتطلب العملية الإصلاحية تبني مجموعة من المداخل المتكاملة التي تسعى إلى تأهيل المجال العمومي وإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، ومن أبرزها:
أولًا، إرساء ثقافة سياسية مدنية شاملة عبر تحديث المناهج التعليمية لتُدمج التربية على التفكير النقدي، وقيم الحوار العقلاني، واحترام الاختلاف، مما يعزز قدرة الناشئة على التمييز بين الخطاب الشعبوي المبسط والخطاب السياسي المسؤول.
ثانيًا، تجديد النخب السياسية عبر تطوير آليات ديمقراطية داخل الأحزاب والمؤسسات تتيح صعود الكفاءات الحقيقية والفاعلة، بدلًا من التبعية أو الزعامات الموروثة، مع التركيز على تأهيل هذه النخب لتقديم برامج سياسية قائمة على واقع موضوعي وتحليل معمق.
ثالثًا، تعزيز الأدوار التأطيرية للإعلام، عبر دعم الصحافة الجادة والاستقصائية، وتشجيع إنتاج محتوى إعلامي يحترم معايير المهنية والموضوعية، ويقلص من فرص بروز خطاب الإثارة والتهريج الذي يفتح المجال أمام الشعبوية.
رابعًا، سنّ إطار قانوني متكامل ينظم الخطاب السياسي، يجرّم التحريض على الكراهية، وترويج الأخبار الزائفة، والتشهير، مع ضمان احترام حرية التعبير، بما يوازن بين حماية المجتمع من خطاب الكراهية وضمان بيئة سياسية صحية.
خامسًا، إعادة الاعتبار للمؤسسات التمثيلية وتعزيز مصداقيتها عبر إصلاحات وظيفية عميقة تهدف إلى تحسين شفافية عملها، وتقوية آليات المحاسبة، وتشجيع المشاركة الحقيقية للمواطنين في صنع القرار.
أخيرًا، بناء خطاب سياسي بديل يتميز بالتوازن والموضوعية، يزاوج بين العمق الفكري والبساطة التعبيرية، وينطلق من قراءة دقيقة للواقع الوطني، بحيث يقدم حلولًا عملية وواقعية تلبي تطلعات المواطنين، وتعزز من مناخ الثقة والتفاعل الإيجابي.
في الختام، لا يمكن تحقيق تجاوز فعّال لمأزق الخطاب الشعبوي دون إرساء ركائز متينة تمكّن من بناء خطاب عام متوازن وعقلاني. فالبدائل التي تم تناولها من تعزيز التربية السياسية، وتجديد النخب، ودعم إعلام مهني مسؤول، إلى سنّ أُطُر قانونية صارمة وإصلاح المؤسسات التمثيلية تشكل معًا عناصر حاسمة في تأهيل المجال العمومي وتعزيز ثقة المواطن في السياسة.
إن الخطاب الشعبوي، الذي غالبًا ما يلجأ إلى التبسيط المخل والتهريج السياسي، لا يضر فقط بالممارسة الديمقراطية، بل يهدد جوهرها بإضعاف مؤسساتها ومفاهيمها. لذلك، يتطلب الأمر بناء ديمقراطية رصينة ترتكز على نخب سياسية راشدة، ومواطنين ناقدين، وإعلام يحترم المهنية والموضوعية، ليكون بمقدورها تحويل السياسة من ساحة للضجيج إلى ورشة فكرية وجماعية لصنع الممكن.
كما أن نجاح هذه الرؤية يتوقف على قدرة المجتمع ككل على استيعاب أهمية التوازن بين حرية التعبير ومسؤولية الخطاب، ورفض التهويل والمغالاة، والتمسك بقيم الحوار والنقد البناء، مما يضمن بقاء الديمقراطية كفضاء مفتوح للتنوع والاختلاف ضمن إطار احترام القانون والمؤسسات.
قائمة المراجع
- Mudde, C. (2017). Populism: A Very Short Introduction. Oxford University Press.
- Laclau, E., & Mouffe, C. (1985). Hegemony and Socialist Strategy: Towards a Radical Democratic Politics.
- Cotis, J.P. (19892005). Articles //Le Monde Diplomatique et Revue Politique et Parlementaire (on populism in modern democracies).
- Habermas, J. (1989). The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society (T. Burger, Trans.). MIT Press. (Original work published 1962) .
- Fraser, N. (1990). Rethinking the public sphere: A contribution to the critique of actually existing democracy. Social Text, (25/26), 5680.
6 عبد الله ساعف، (2003). السياسة في المغرب: الدولة، الأحزاب، والمجتمع المدني. منشورات إفريقيا الشرق.
7 مهدي المنجرة،. (2004). الإهانة في عهد الميغا إمبريالية. المركز الثقافي العربي.
8 عبد الإله بلقزيز،. (20012015). مقالات في مجلة المستقبل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية).
9 UNESCO. (2013). Media and Information Literacy: Policy and Strategy Guidelines. United Nations
المصدر: العمق المغربي