اخبار المغرب

السياسة الخارجية للملك محمد الخامس: ديناميكيَّة تحررية في ظل سياسة عدم التبعية وعدم الانحياز أو الانحياز الايجابي

يقف المغاربة في العاشر من رمضان أمام ذكرى وفاة مبدع الاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس و هي مناسبة يستحضر فيها المغاربة جوانب من تضحياته من أجل الرقي بحياة افراد شعبه و نيل استقلال المملكة و العمل على ازدهارها و تطورها في جميع الميادين و المجالات سواء كانت اجتماعية اقتصادية , و رسم الخطوط العريضة لسياسة الدولة الداخليا و كذلك وضع عناوين لسياسة خارجية واضحة و شفافة و دبلوماسية رائدة منطلقة من الحمولة التاريخية للملكة التي تمتد لقرون .

بهذه العبارة اننا الآن رجعنا من الجهاد الأصغر لنخوض الجهاد الأكبر مقتديا بنهج جده النبي محمد صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة كانت العبارة بمثابة اشارة لسطوع مرحلة جديدة في تاريخ المغرب عنوانها الاستقلال و الرقي و الازدهار و وضع حد لمعانات المغاربة مع المستعمر و على أن المغرب مقبل بعزيمة قوية على بناء مستقبله و تحديد أركان دولته و سياساته الداخلية و الخارجية .

فمنذ توليه العرش حرص المغفور له محمد الخامس على رسم معالم واضحة فيما يخص السياسة الخارجية و الدبلوماسية المغربية بما يناسب العمق التاريخي و الثقل الحضاري العظيم للبلد و كذلك بما يوافق تطلعات و طموحات ما بعد الاستقلال , سياسة خارجية موسومة بعدم التبعية و الانحياز و بالندية في التعامل مع الدول .

أمن المغرب في حينه و بقوة بمبادئ العامة لحركة عدم الانحياز التي تأسست فى بلجراد فى سنة 1961 و انخرط مبدئيا في هاته الحركة بمسؤولية نظرا لحساسية الوضع الدولي آنذاك و اشتداد القطبية خاصة و أن هاته الحركة جاءت في ظل الحرب الباردة و قامت فكرتها على عدم الانحياز لأي من المعسكرين الغربي اللبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية و المعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفيتي.

كما ان النواة الأولى لحركة عدم الانحياز كانت قبل 6 سنوات من ذلك و بالضبط بمؤتمر باندونغ أو المؤتمر الأفرو أسيوي المنعقد في الفترة 18 الى 29 أبريل سنة 1955 بأندونسيا . و لعل المغرب الحديث العهد بالاستقلال وجد غايته في مخرجات هذا المؤتمر التي كانت عبارة عن عشرة مبادئ حيث أن من ابرز مضامينها احترام حقوق الانسان و مبادئ ميثاق الامم المتحدة و سيادة جميع الدول و سلامة أراضيها و العدالة و الالتزامات الدولية و الامتناع عن التدخل في شؤون الدول الداخلية لبد أخر و دعم استقلال الشعوب .

غير أن المغرب كان دائما يؤكد أن عدم انحيازه هو في جوهره انحياز ايجابي كما انه لا يعني الانعزال و عدم ارتباطه و كفاحه من أجل القضايا العادلة و هذا ما صرح به المغفور له الحسن التاني في بلغراد 6 سبتمبر 1961 الذي جاء فيه :” إن حيادنا لا يعني الانعزال أو اللا مبالاة بالنسبة لجزء من البشرية ، بل هو على العكس من ذلك يعني قبول كل ما هو عادل ، وحق في نطاق الفكر البشري ، وأنه حياد نشيط وحي ، ولا يستهدف سوى إنقاذ القيم الإنسانية ، وإقرار السلام والتقدير بين الجنس البشري”

و في اطار تعزيز مبدأ عدم التبعية و تعزيز السيادة الوطنية شهدت الفترة الأخيرة من الخمسينات تقارب و تطور ايجابي في العلاقات بين المغرب و الولايات المتحدة الأمريكية كان من بين أهم المؤشرات على هذا التقارب هو توقيع الاتفاقية المغربية الأمريكية بتاريخ 22 ديسمبر 1959 حول اجلاء القوات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية من الأراضي المغربية حيث كانت أهم أهداف هاته الخطوة حماية مصالح المغرب و ضمان سيادته الوطنية و تعزيز موقع المغرب على الساحة الدولية و فك الارتباط الخارجي .عرف هذا الاتفاق الحضور الرسمي لرئيس داويت ايزنهاور . هذه الزيارة و هذا الاتفاق يعطي الانطباع حول النهج الدبلوماسي الجديد في ظل حكم المغفور له محمد الخامس و الذي اساسه الاستقلالية التامة و الندية في التعامل .

هذا التقارب كان في ظل تأزم الأوضاع بين المغرب و فرنسا الذي بدأت علاماته تظهر واضحة مباشرة بعد الاستقلال و التي كان من اسبابها التوجه الدولي الجديد في السياسة الخارجية للمغرب و خلق شركات جديدة بين دول عظمى و نامية الأمر الذي اعتبرته فرنسا على أن هذا التطور و التقدم الدبلوماسي المغربي سيتم على حسابها و تقليص لدورها و مصالحها على الساحة المغربية .الى ان قامت فرنسا بتفجيرات رقان و بشار والمناطق المجاورة ابتداء من 31 مارس 1960, و هي مناطق بالصحراء الشرقية كانت تعتبر أراضي تابعة لسيادة المغربية آنذاك , الحدث الذي أزم الوضع أكثر بين البلدين و في اطار ممارسة المغرب لكافة صلاحياته معربا عن استقلاله تام , تعاملت المملكة بحنكة دبلوماسية وفق الاعراف المعمول بها في هذا الصدد و هي التنديد بالخرق السافر من قبل فرنسا للمعاهدات الدبلوماسية بين البلدين . وفي 14 غشت 1959 قررت المملكة عرض القضية على الأمم المتحدة بل و استدعاء السفير المغربي في باريس في ممارسة مثالية لصلاحيتها السيادية و الدبلوماسية . و هنا نلمس مدى الصرامة المعتمدة من طرف الراحل محمد الخامس في تنزيل البرنامج الدبلوماسي المغربي رغم ان شارل دغول وجه خطابه المكتوب الذي كان موضوعه اشعار المملكة بهذه التجارب النووية جاء في اطار من الود و الصداقة .

هنا يتأكد أن الاستقلال التام و عدم التبعية في ظل سياسة عدم الانحياز كانت قاعدة ذهبية تؤطر علاقات المغرب مع دول العالم حيث صرح محمد الخامس “أن مبدأ عدم التبعية و عدم الانحياز هو أكثر من مبدا ,انه برنامج “. كما أن التأكيد على هذا التوجه جاء دائما في خطاباته و تصريحاته من بينها الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تشكيل الحكومة التي ترأسها بنفسه بتاريخ 23 يناير 1960 حيث قال :”ستظل سياستنا الخارجية قائمة على عدم التبعية , بعيدة عن نزاعات الكتل , ساعية للتعاون مع جميع الأمم على أساس احترام السيادة و المساواة ” .

كذلك بتاريخ 21 سبتمبر 1960 خلال اجتماعه بالدبلوماسيين العرب بسويسرا و الذي عقد في فيرسوا أكد على أن المغرب حريص على اقامة علاقات شراكة و تعاون مع جميع الدول على اساس التكافؤ و المساواة الكاملة .

ليعود مرة أخرى بتصريح بتاريخ 21 ديسمبر 1960 امام وفد من ممثلي الكونغرس الأمريكي بالرباط مفاده : ” لقد تبنى المغرب منذ الاستقلال سياسة عدم التبعية لكنها ليست سياسة انعزالية مؤكدا أن أمريكا من واجبها مساعدة الدول ذات الاستقلال الحديث دون ان يرتبط هذا الدعم بشرط أو مقابل ”
كما ان النفس التحرري و الريادي كان بارزا في السياسة الخارجية لأب الامة المغفور له محمد الخامس حيث تجلى هذا النفس بوضوح في دعم الحركات التحررية الإفريقية , فمنذ الاستقلال كان المغرب بمثابة مهد لهاته الحركات و ذلك بتسخير العتاد و الموارد المالية و لوجيستية بل و خصصت أحياء بكاملها لاحتضان قادة حركات التحرر و الاستقلال في افريقيا مثل نيلسون مانديلا وسامورا ماشيل وأغوستينيو نيتو وأميلكار كابرال حيث كانت لهم أحياء بمدينة بركان من اجل الاحتضان و التدريب .و الجدير بالذكر ان المغرب انذاك كان من اكبر داعمي حركة التحرر بالجزائر غير ان المقام لا يتسع لسرد تفاصيل هذا الدعم الذي يمكن الرجوع اليه في مقلات أخرى مستقبلا .

و في سياق تعزيز مبدأ عدم الانحياز و الانحياز الايجابي و ترسيخ مفهوم عدم التبعية و دعم الشعوب الافريقية خاصة من أجل استقلالها و اختيار مصيرها كان لمحمد الخامس دور طلائعي و رائد في هذا الاتجاه حيث تعتبر منظمة الوحدة الإفريقية ، التي تأسست بأديس أبابا إثيوبيا في مايو سنة 1963، وكان المغرب أحد الدول المؤسسة لها ، أن أشغال مؤتمر التاريخي بالدار البيضاء التي كانت تحت رعاية جلالته و بدعوة منه المنطلق الأساسي لإنشائها و النواة لميثاقها.

ختاما يمكن القول أن محمد الخامس طيب الله ثراه حافظ على التقاليد و الأعراف السياسة الخارجية الأصيلة للمملكة و التي لها امتداد تاريخي عميق كما عمل على تطوير هذا الحقل بما يناسب السياق الدولي آنذاك من أجل تحقيق الأهداف الدبلوماسية بالآليات و الامكانات المتاحة في ظل التحديات ذلك العصر المطبوع بعدم الاستقرار دولي و تزايد الأطماع الخارجية حيث خرج بالمغرب الى بر الأمان .

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *