في خطاب سياسي مهم أمام البرلمان المغربي يوم الإثنين 7 يوليو 2025، تناول رئيس الحكومة السيد عزيز أخنوش ملف المنظومة الصحية الوطنية، معتبرًا إياه أحد أعمدة البرنامج الحكومي في المرحلة الراهنة. وقد جاء الخطاب محمّلاً بنبرة تفاؤل واضحة، مع استعراض أرقام طموحة ومشاريع هيكلية كبرى، عكست ما اعتُبر إرادة سياسية لتجاوز واقع صحي متأزم، والسير نحو تحقيق ما وصفه الخطاب بـ”السيادة الصحية” للمملكة المغربية.

لكن هذا الخطاب، الذي يُحسب له وضع الملف الصحي ضمن الأولويات، يطرح في العمق تساؤلات جوهرية تتعلق بقدرة الدولة على تفعيل ما تم الإعلان عنه، خاصة حين ننظر إلى طبيعة الأعطاب البنيوية التي ما تزال تشوب المنظومة الصحية المغربية، وإلى التحديات المرتبطة بالتمويل، والحكامة، والموارد البشرية، والعدالة المجالية.

أولى الإشارات التي توقف عندها الخطاب تتعلق بالرفع الكبير في ميزانية قطاع الصحة، حيث ارتفعت من حوالي 1.9 مليار دولار أمريكي في 2021 إلى نحو 3.3 مليار دولار في 2025، أي بزيادة تزيد عن 65% خلال أربع سنوات. هذه الزيادة المالية الهامة رافقتها حزمة من القوانين، من أبرزها القانون الإطار رقم 2206، الذي يؤسس لإصلاح شامل في هيكلة النظام الصحي، إضافة إلى إحداث مؤسسات جديدة مثل “الهيئة العليا للصحة” و”وكالة الأدوية والمنتجات الصحية”، وتنزيل إصلاحات تهم الموارد البشرية عبر إقرار وظيفة صحية خاصة.

غير أن الرهان لا يكمن فقط في ضخ الأموال أو سن القوانين، بل في ضمان النجاعة، والحرص على أن لا تتحول هذه الإصلاحات إلى مجرد وثائق أو واجهات مؤسساتية لا أثر لها في الميدان. ويُجمع خبراء الصحة والاقتصاد في المغرب على أن إشكالية الحكامة تبقى أحد أعقد الإشكالات، بالنظر إلى تداخل الاختصاصات، وضعف التنسيق بين المستويات المركزية والجهوية، وتعقيد المساطر الإدارية، وهو ما يهدد بعرقلة أي إصلاح مهما كانت جدّيته.

الحكومة المغربية أعلنت في هذا السياق نيتها تأهيل أكثر من 1400 مركز صحي من “الجيل الجديد”، وتوسيع شبكة المستشفيات الجامعية. وهذه خطوة مهمة لتقليص الفوارق الصحية بين الجهات. غير أن العديد من المناطق الداخلية والقروية لا تزال تعاني من “الفراغ الطبي”، حيث تفتقر للحد الأدنى من التجهيزات أو الموارد البشرية، ما يجعل الاستثمار في البنية دون توفير الكفاءات الطبية أشبه ببناء جسور في الهواء.
وفي سياق الموارد البشرية، تعهدت الحكومة بالرفع من عدد مهنيي الصحة إلى 90 ألف إطار بحلول 2026، والوصول إلى معدل 45 مهنيًا لكل 10 آلاف نسمة بحلول عام 2030. لكن هذه الأهداف تصطدم بواقع صعب، يتمثل في استمرار هجرة الأطباء والممرضين المغاربة إلى الخارج، خصوصًا نحو أوروبا والخليج، رغم محاولات تحسين الرواتب وتحفيز العمل في المناطق النائية. وهنا، تبدو الحاجة ماسّة إلى مقاربة أعمق تتجاوز الجوانب المادية، وتراهن على تحسين ظروف العمل، وتقدير الكفاءات، وضمان التكوين المستمر.

من جانب آخر، تراهن الحكومة على إرساء نظام حكامة ترابية جديد من خلال “المجموعات الصحية الترابية”، التي بدأ تفعيلها في إحدى الجهات كنموذج تجريبي. والهدف هو تمكين الجهات من تدبير عرضها الصحي وفق خصوصياتها، بعيدًا عن التمركز المفرط في العاصمة. غير أن التجربة لا تزال في بداياتها، ويُخشى أن تتحول إلى مجرد هيئات صورية إذا لم تُمنح صلاحيات فعلية وميزانيات مستقلة.

أما في ما يتعلق برقمنة القطاع الصحي، فقد تم إطلاق نظام معلوماتي وطني يربط بين مختلف المؤسسات الصحية، ويهدف إلى تبسيط الولوج إلى العلاج ومتابعة الملفات الصحية. إلا أن تحديات الرقمنة في المغرب شبيهة بتلك التي تواجهها دول نامية أخرى، وتتمثل في ضعف البنية التحتية، ونقص تكوين الأطر، والمقاومة الثقافية داخل الإدارة. وبالتالي، فإن تسريع التحول الرقمي في القطاع يتطلب استثمارًا كبيرًا في التكنولوجيا كما في العنصر البشري.

وفي سياق السيادة الصحية والدوائية، عبّر رئيس الحكومة عن التزام المغرب بتعزيز صناعته الدوائية الوطنية، بما في ذلك تصنيع اللقاحات، وتخفيض أسعار الأدوية. ورغم أن هذه الخطوات تسير في الاتجاه الصحيح، فإن التحديات المرتبطة بتقلبات السوق العالمية، وصعوبات سلاسل الإمداد، ومحدودية البحث العلمي الطبي في المغرب، تبقى حاسمة في مدى قدرة البلاد على تحقيق اكتفاء ذاتي واستدامة في هذا المجال الحيوي.
في ختام خطابه، ربط رئيس الحكومة مشروع إصلاح المنظومة الصحية برؤية ملكية شاملة تروم إرساء دولة اجتماعية متماسكة، تضع الكرامة الصحية للمواطن في صلب أولوياتها. وهي رؤية تستحق التنويه، لكن تنفيذها يتطلب من الحكومة أكثر من مجرد تشريعات وخطط، بل يفرض عليها الخروج من منطق إدارة الأزمات إلى منطق بناء السياسات العمومية التشاركية، وإشراك العاملين في القطاع، وربط المسؤولية بالمحاسبة، في كل مراحل الإصلاح.

لقد قطع المغرب بالفعل أشواطًا مهمة في الاعتراف بمركزية الصحة كعنصر من عناصر الأمن القومي، لكن ترجمة هذا الوعي إلى تحول فعلي لن تتم إلا عبر سياسة عمومية ذكية، طويلة النفس، مرنة في التنفيذ، وقادرة على التفاعل مع التحولات الاقتصادية والديمغرافية والاجتماعية في البلاد.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.