الذين يستهدفون الأسرة ليسوا حداثيين ولا يساريين!
الحداثة وعي جديد، به استطاع الإنسان الأوروبي والغربي، وبعده الإنسان في كل “العالم المتمدن المعمور”، أن يكتشف عوالم جديدة في: المعرفة (العلم الدقيق والتجريبي ثم التكنولوجيات) والسياسة (الديمقراطية والإدارة الحديثة) والاقتصاد (الصناعة والنظام الاجتماعي الرأسمالي). هذه هي الحداثة، أو مضمونها الأولي (راجع “الحداثة ومثقفو التبعية العربية الجديدة”، لمصطفى فضل النقيب)؛ فتطورت عبر الزمن لتنتج نقيضا لها في تلك العوالم. في المعرفة: ما وراء العلم الدقيق، في السياسة: الفاشية، في الاقتصاد: النقد الاجتماعي (راجع “عوائق التحديث” لعبد الله العروي). واستمرت عملية الإنتاج ال”ما بعد حداثي” لتخرج من رحمها حداثات متأخرة تفكك كافة البنى، من الدولة والمجتمع إلى نفس الفرد ومعتقداته وإيديولوجياته. تفكيك الأسرة واستهدافها ليس من الحداثة الأولى في شيء، بل هو تجلّ ما بعد حداثي يعبر عن تعفّن اجتماعي واقتصادي في النظام العالمي.
إشكالية اليسار واضحة منذ أن اتخذ اليسار لنفسه تفكيرا علميا؛ تتمحور هذه الإشكالية كما عبر عنها إسحاق دويتشر في “الإنسان الإشتراكي” حول تقليص الهوة بين تقدم التقنيات وتفاقم الخامات من جهة، وشقاء الإنسان من جهة ثانية. إشكالية اليسار تحرير الإنسان ككل من الاستغلال الرأسمالي، وليس تحرير المرأة من نظام الدين وقواعد حفظ الأسرة. انطلاقا من هذه الإشكالية يحرص اليسار على تقديم مذكرات لأصحاب شركات التصبير والكابلاج، ومالكي الفنادق ومعامل النسيج؛ لهؤلاء يجب أن يقدم اليسار المذكرات قبل أي شيء آخر. لا يعني هذا منعه من الخوض في قانون الأسرة، غير أن القانون في “الإشتراكية العلمية” (مرجعية اليسار) ما هو إلا انعكاس لقواعد خاصة وعامة في الاقتصاد والاجتماع. السؤال المطروح على “اليسار” اليوم: لماذا هذا التركيز على حق المرأة في الأسرة على حساب حقها في العمل؟!
لقد فقد أغلب “اليسار” أداته المنهجية، فانشغل بالحريات الفردية عن الحريات الاجتماعية، وبحقوق الإنسان عن حقوق الأوطان، وبحق المرأة عن حق الطبقات الدنيا بنسائها ورجالها وأطفالها وشيوخها، وبحق الفرد في الملكية عن حق الدولة في تنظيمها، وبحق الرأي الفردي عن حق الوحدة المذهبية والإيديولوجية لمصلحة الجميع؛ إلى غير ذلك من الحقوق التي ينصب عليها تركيز فئات واسعة من “اليسار”. وبهذا تُرجع هذه الفئات الحق إلى مرجعيته المثالية لا إلى مرجعيته التاريخية، أي أنها تؤطر مطالب الفرد بحقوقه المحضة، لا بالمتاح منها في التاريخ ووفق شروط خاصة. تنشغل بالفرد، وتنسى مجالات انتمائه الاجتماعية، من أسرة وقبيلة وطبقة ودولة وأمة… الخ.
الذين يستهدفون الأسرة ليسوا حداثيين، لأن الأسرة أول محضن للتنشئة السياسية، ومورد بشري لبنية الإنتاج، وإطار اجتماعي للعملية التعلمية. تفكيكها ضد الحداثة إذن، لأنه ينسف أسسها السياسية والاقتصادية والعلمية. بهذا المعنى تنفصل الحداثة عمّا ألصِق بها من تصورات الانحلال ومعاداة الدين، ويتحول الإسلام إلى فعل حداثي يطوّر الإنسان دون يخاصمه مع حقيقته ودون أن يُفقده قدرته على التقدم في الزمن.
مستهدفو الأسرة ليسوا يساريين أيضا، لأن اليسار يحمي الأسرة كبنية إنتاجية مناضلة، يراهن على وحدتها وانخراطها في مشروع سياسي واجتماعي كبير وبغايات نبيلة. يسعى اليسار إلى استثمار الصمود الأسري، يخاطب الأسرة ككيان واحد دون تمييز بين أطرافها (الزوج، الزوجة، الأبناء)، يؤمن بالتقسيم الجنساني للعمل على النقيض من المساواة المطلقة (هذا التقسيم هو أول تقسيم حسب ما ذكره ياسين بوعلي في “ينابيع الثقافة”). اليسار الحقيقي يحفظ الأسرة كعنصر مقاومة وممانعة ضد تعفن النظام الاجتماعي العالمي، ويصون بها ذاكرة الإنسان ودينه وفطرته وجوهره حتى لا يحوله الرأسمال إلى “تروس آلة وكرات بلياردو” بتعبير مصطفى محمود.
في قضايا من هذا القبيل، حيث تكون الأسرة مستهدفة، تصبح الأصوليات خطابات تقدمية، ويصبح الاحتماء بالقديم حفاظا على حداثة الإنسان. يغيب هذا الجدل عن “الحداثويبن ومدعي اليسار”، فيقولون في اليسار بمسائل ليست من إشكالياته، ويقحمون في الحداثة ما يؤخر البشرية ويعزف على أوتار حيوانيتها وتوحشها وغابويتها. الذين يدافعون عن الأسرة اليوم، يحب أن يعلموا أن تفكيك الأسرة واستهدافها ليس مشروعا “للحداثة واليسار”.
المصدر: العمق المغربي