اخبار المغرب

الذكاء الصناعي يفقدنا مركزيتنا الفكرية فهل الروحانية هي من ستنقذ ماء الوجه؟

 

إذا كانت الحداثة قد قامت على الاحتفاء بالإنسان كونه المفكر الوحيد في الأرض بدون منازع، كتعويض له عن هشاشته أمام الطبيعة، وعن ضياع مركزيته المكانية القديمة( الأرض مجرد حصاة صغيرة في عالم لا نهائي)، وعن عدم كفاية الحواس الخامة في أن تضمن له معرفة موثوقة، فإن عصرنا الرقمي الذي نغرق فيه بدأ يهدد مركزيتنا الفكرية ذاتها، بعبارة أخرى، فالثورة الرقمية (تكنولوجيا النانو، إنترنت الأشياء، الويب، الحوسبة السحابية، تطبيقات الهواتف الذكية، الشاشات التي تعمل باللمس، نظام تحديد المواقع، الطائرة من دون طيار، السيارة من دون سائق، معدات الحوسبة القابلة للارتداء، وسائط التواصل الاجتماعي، الحرب السبيرانية، الشات جي بي تي…) هي الآن تقوم بخلعنا من مكانتنا المتميزة والفريدة في مملكة التفكير المنطقي ومعالجة المعلومات والسلوك الذكي. لقد كانت كلمة “حاسب” خاصية للإنسان وحده، فهو المؤهل الوحيد للقيام بالعمليات الحسابية، لكنها الآن تفقد مع الوقت دلالاتها الأنثروبولوجية لتصبح خاصية للآلة والتقنية الرقمية التي أضحت تسحب من البشر البساط يوماً بعد يوم. لقد خلقنا لأنفسنا منافساً كبيراً في عالم التفكير نفسه، بل يفوقنا ذكاء، ويسير نحو الاستقلال والهيمنة والسيطرة. بكلمة واحدة نحن أصبحنا وجراء هذه الثورة الرقمية نفهم أنفسنا على أننا كائنات حية معلوماتية، لقد انتقلنا بحق من العالم المادي النيوتوني إلى العالم المعلوماتي.

إذا كنا قد فقدنا مركزيتنا المكانية في مستهل الحداثة، واتجهنا نحو المركزية الفكرية، لإنقاذ ماء الوجه واسترجاع “الكرامة”، فها نحن نفقد من جديد طوق نجاتنا الذي ارتكزنا إليه طوال الزمن الحديث جراء ما صنعته أيدينا من رقميات تفكر أحسن منا، فمن المنقذ الآن إذن؟ وهل من مركزية جديدة غير التفكير نعرف بها أنفسنا؟ فعلى ماذا يجب أن نتكئ هذه المرة لتعويض خسارتنا للفكر؟ فهل نعود للعالم باعتباره موضوعا خارجيا بالرغم من أنه قد خذلنا في السابق؟ أم أن الخلاص لا يزال حداثياً وذلك بالبحث في الذات مرة أخرى عن أرض أكثر صلابة غير التفكير؟

إننا مطالبون إذن بنحت كوجيطو جديد، قد يؤدي ليس إلى نسف الحداثة بل لربما إلى تعميقها بإبراز كوامن أكثر أصالة عند الإنسان، وهو ما أصبحنا نجده يبرز في العقود الاخيرة والمتمثل في “الروح” التي لطالما أبعدتها الحداثة وحشرتها في زاوية الخصوصية نظرا لعدم انضباطها للتكميم. لكن الدواعي الآن، لاسترجاع هذه الروح تفرض وجودها من جديد بمبرر ابستمولوجي واضح وهو أننا نفقد من جديد مركزيتنا وهذه المرة الفكرية منها وليست المكانية فقط، كما كان في مستهل الحداثة، هذا الفكر الذي كان هو الدعامة لعزتنا والركيزة التي تعلي من شأننا (لنتذكر هنا ديكارت وإعلانه “أنا أفكر أنا موجود”).

ولعل من العوامل التي أصبحت تلح على الإنسان الذهاب نحو كوجيتو جديد يقوم على الروح لا الفكر فقط هو سيل المآزق التي ورطنا فيها هذا الفكر حيث جعل الإنسان متبجحا بهذه الخصيصة ومستغلاً لها لسحق كل ما يضعه تحت يديه كموضوع، الأمر الذي أدخلنا في هدر كبير للطبيعة، وقد بلغ الإحساس بالصلف والغرور، حد سحق الإنسان لأخيه الإنسان دون رحمة وبقسوة تمليها فرضية الذات الفاعلة القوية المستعبدة لما دونها.

فإذا جمعنا كل المآزق التي وضعتنا فيها الحداثة بمركزيتها الفكرية باعتبار هذه المآزق مكذبات نظرية محرجة للنسق الحداثي، وأضفنا لها ظهور مسوغ قوي متمثل في بزوغ بدايات ضياع هذه المركزية وفقدانها لصالح التقنية الرقمية المتفوقة على صانعها نفسه. فإننا نؤكد أننا سائرون لا محالة نحو كوجيتو جديد نرجع به عزتنا التي نفقدها يوماً بعد يوم، وقد نضع لهذا الكوجيتو صياغة كالآتي: “أنا لدي روح، إذاً أنا موجود”.

إن المنظومة الحداثية بمركزيتها الفكرية، ولكي تحل العديد من المعضلات، ضحت باليقين، أي بالأمان، وكبتته عميقاً، وقبلت بالقلق و”غياب المعنى”، من أجل المردودية والنجاعة والتحكم والسيطرة. أو لنقل بتعبير طه عبد الرحمن، قامت الحداثة بالتركيز على عالم الإسراء (العالم المرئي، الأفقي) مهملة المعراج (العالم الغيبي، العمودي). وهو ما لم يتحمله الإنسان فبدأ عصر عودة المكبوت الروحاني وبقوة. وبأشكال متنوعة (دموية، استهلاكية، صوفية، بل حتى روحانية لائكية). إذ إنه يكفي الاطلاع على المنشورات الجديدة المتخصصة بالشؤون الدينية خلال العقدين المنصرمين ليتبين لنا أن الباحثين والفلاسفة يلحون على ضرورة الروحانية في عالمنا المعاصر وهنا نشير على سبيل التمثيل بمجلة عريقة عمرها سبعة عقود، والتي عرفت تحولات عديدة في خط تحريرها، إنها: “مجلة عالم الأديان”، Le monde des religions ، صاحبة الشعار الشهير: “معرفة الأديان سبيل لفهم العالم” فهي احتفلت قبل أربع سنوات بصدور عددها المائة،  بتجميع أهم الحوارات التي أجرتها مع كبار المفكرين (28 مفكراً) خلال العقدين المنصرمين، والتي نلمس في معظمها تلك الحاجة إلى عودة الروحاني من أجل مستقبل أكثر هدوءً للبشرية.

ففي افتتاحية المجلة تطرقت دي فيرجيني لاروس إلى حدث طريف يظهر من وجهة نظرها تحولا في تمثل الحياة عند الغرب وهو أنه في ثورة 1968م الفرنسية، كتب أحدهم على الحائط العبارة التالية: “مات الإله” توقيع نيتشه. ليعود أحدهم بعد سنوات ليكتب تصحيحاً وهو: “نيتشه مات” توقيع الإله. لتقول معلقة: “لا أعرف حقاً هل أن الله قد تم إحياؤه؟، ولكن من الواضح أن الفعل الديني يمثل أحد الرهانات الكبرى في القرن الواحد والعشرين”. لتضيف بأنه “إذا كنا نريد التخلص من كل مظاهر العنف الذي يخرب العالم وجب المرور عبر تأمل جديد لوضعية المعتقدات”.

أما عن الأديب كريستيان بوبان، فقد حاورته المجلة من قبل، وهو من الشخصيات المعروفة باختفائها عن الإعلام، إذ يدعو في الحوار إلى ضرورة أن نعيش كالأطفال لنحافظ على شغفنا واهتمامنا بما لم يعد يهتم به الكبار، كما يشير قائلاً إن “الخير هو الأمر الذي يثيرني في هذه الحياة فهو متميز جداً عكس الشر” فهي دعوة إلى أن البشرية مطالبة بمجهود أكبر من أجل تحقيق هذا الشيء المتميز المسمى خيراً، ناهيك على أنه ينبه إلى قضية هامة قائلاً: “ولدت في عالم لم يعد يريد الحديث عن الموت ولا عن النعمة”، ونحن نعلم حقا بأن الزمن الحديث لم يعد يكترث سوى للبقاء مع تغييب متعمد لسؤال الموت والهرب منه، على الرغم من أهمية استحضار الموت في فهم الحياة باعتبارها نعمة، بل هي التجربة الوحيدة التي تقود الفكر إلى أقصاه.

أما الحوار مع الأنثروبولوجي الشهير صاحب كتاب “العنف والمقدس” والباحث الخبير في مسألة “القربان” روني جيراير في العدد نفسه، فقد أعلن أن الناس تستمتع حقاً ولكنها قلقة جداً، فهي تحتاج إلى المعنى لهذا القلق، كما أضاف في سؤال عن أمله فيما بعد الموت قائلاً: “أن نمر من هذه الحياة وكأن شيئاً لم يكن يبدو لي أمراً بغيضاً”.

وبالحديث عن موقف الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل، والذي يدعو بدوره إلى الروحانية لكن دون إله، فهو يرى أنه حتى للملاحدة روحانيتهم، باعتبار الروحانية هي كل تعلق باللانهاية وكل ارتباط بالأزل والمطلق، على أساس أن المطلق “ليس هو نهاية الطريق، بل هو الطريق نفسه، فسبونفيل يرى أن “كل دين روحاني، لكن ليس كل روحانية دينية”، بل حتى الإيديولوجيات الحداثية هي روحانيات لائكية وهنا يستشهد بالماركسية التي كانت ديانتها هي التاريخ وجنتها هي بلوغ الشيوعية. ومسيحها هو البروليتاريا، إضافة إلى أنه يشير إلى أن عظمة الديانات التوحيدية تكمن في أنها ابتكرت التعالي الذي أصبح محايثة في الزمن الحديث أو بتعبيره فهو قد تحول التعالي إلى “روحانية لائكية”.

فكأن سبونفيل يريد أن يعمم الروحانية على الكل فلا أحد يتملص منها سواء باسم التعالي أو باسم المحايثة، ليبقى الخطر الوحيد عنده يكمن فقط في التعصب والتطرف في الإيمان.

وبالنسبة لعضو الأكاديمية الفرنسية الأديب والمفكر اللبناني أمين معلوف فقد سألته سؤالاً واضحاً وهو: ما الذي يميز عصرنا؟ ليجيب بسرعة: الارتباك والتيهان والحيرة، فعالمنا قد أصبح دون إحداثيات أو معالم مرشدة إذ يقول: ” نعيش عصراً ذهبياً علمياً وتقنياً، لكن نظهر عجزاً في مواجهات تحديات كبرى من قبيل الاضطراب البيئي، الهجرة المتدفقة، سباق التسلح”، ليعلن أننا “نحتاج بوصلة سياسية وأخلاقية” ولابد من الإشارة أن أمين معلوف قد ألف كتاب عام 2019م، بعنوان: “غرق الحضارات”.

ونختم هذه العينة من المفكرين بشيء من التفصيل بحوار أجرته المجلة مع الباحثة ليلى أنفار، بعنوان: “الروحاني هو مستقبلنا” والتي ترى فيه أنها غير متأكدة بأن المستقبل سيكون للأديان باعتبارها طقوساً وعادات ومذاهب، وحتى إن تواجدت فهي ستكون فاقدة لإشعاعها ومملة ومفرغة من كل معنى، فالمستقبل عندها سيكون بالدرجة الأولى للروحاني. والذي لن يتحقق إلا إذا تم قلب صفحة المذهبية سواء في بعدها الديني أو الإلحادي. وفي استدعائها لمقولة نيتشه المشهورة “مات الإله”، فهي تؤكد على أن الإله باعتباره الحي، الأزلي، اللانهائي واهب الحياة، لم يمت. في مقابل “الإله الذي يرقد في الكنيسة (المسيحية) والكنيس (اليهودي) والمسجد (الإسلامي) والمعابد الأخرى، فهو تمثل بشري للإله، وهو محكوم عليه بالموت”. مشيرة إلى أن كل محاولة لإنعاش إله المعابد بالعنف لن تنفع في شيء، مضيفة إلى أن كل ما تتطلبه البشرية لكي تهدأ وتعود لسكينتها هو الحداد على هذا الإله المخترع.

تلح أنفار على أن انبثاق الروحاني لن يكون إلا بموت الأديان البشرية والعقائد المتصلبة بكل مؤسساتها، فهي تريد أن تبين أن هناك دين واحد جامع، أما الأديان فهي عبارة فقط عن أوجه تاريخية له. فالروحاني هو جوهر كل الأديان وجانبها الملهم. وستعرفه كالآتي: “هو الشق الإلهي في الإنسان والمتطلع إلى الجمال والعدالة”. كما ترى أن الروحانية هي تلك الملكة الإنسانية للجواب عن الأسئلة الكبرى من قبيل: “من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟، وماذا عليّ أن أفعل في الوقت القصير الممنوح لي في هذه الحياة؟”. والجواب عندها لن يكون إلا بالإيمان، وذلك بالعودة إلى الذات نفسها، مما يسمح برؤية أبعاد متعالية تتجاوزنا وتحتوينا وتكون كإشعاع للمحايثة.

نستنتج من هذه المقتطفات، التي أخذناها من عند عينة من المفكرين المعاصرين، أن الروحانية المنشودة عندهم ينبغي أن تكون دون تمذهب أو قيود طقوسية، فهي روحانية نابعة من عمق الذات وقادرة على الاتصال بالمطلق باعتبار المطلق طريق لا نهاية له، فعلى ما يبدو أن التفكيك الذي طال مفهوم الدين ومفهوم الله خلال الأزمنة الحديثة جعل العودة للروحانيات يأخذ بدوره طابعاً لائكياً أو لنقل ببساطة إنها روحانية دون نص مقدس.

في ظل هذه الموجة الهائلة لعودة الروحاني يجد مشروع طه عبد الرحمن موقعه عبر البوابة الصوفية، فهو أيضاً من دعاة عودة الروحانية لكن بشروط مختلفة، فهو وإن ربطها بالتأييد الإلهي،إلا أنه يستلهمها من الأصول الإسلامية الصريحة، إذ لا يغيب عنده النص أبدا لأنه بالنسبة إليه مسدد، بل هو ميثاق الإنزال الذي يذكر بعالم الروح، لكن الأهم عندنا هو أنه استطاع أن يعزل منهجيا عالم الروح أو عالم الملكوت ليجعله واضحاً وهو ما يجعل أطروحته بحق فريدة من نوعها ومتميزة عن كل دعوات عودة الروح الأخرى.

 

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *