كشف الفاعل الأكاديمي ورئيس المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين، محمد الدرويش، أن موجة الإقالات الأخيرة التي مست رئيسي جامعتي ابن طفيل بالقنيطرة ومولاي إسماعيل بمكناس، لا ترتبط بالأسباب التي وصفها بـ”السطحية” والتي جرى تداولها إعلاميا بخصوص الأولى، ولم تكن شاملة بخصوص الثانية، بل تعود إلى إشكالات تدبيرية عميقة تخص جوانب متعددة في تسيير شؤون الجامعة حسب مقتضيات القانون رقم 01.00، وترتبط كذلك بمنهجية عمل وزارة التعليم العالي في عهد الوزير عز الدين الميداوي التي ابتعدت عن التدخل المباشر في التدبير والتسيير، واتخذت مسافة بينها وبين رئاسات الجامعات ومجالسها، والأمر نفسه يصدق على مؤسسات التعليم العالي.

وأوضح الدرويش في تصريح لجريدة “العمق” أن قرار إقالة رئيس جامعة ابن طفيل لا يجوز عقلا ومنطقا أن يكون بسبب تنظيم حفل فني شعبي أشرف على تنظيمه طلاب المدرسة الوطنية للتجارة والتدبير، ودبروه ماليا ولوجستيا، وهذا أمر معمول به في كل جامعات العالم، وعليه، لا يمكن أن تكون الإقالة قد حصلت بسبب ذلك، كما أنه لا يجوز منطقيا أن يتسبب نشاط حفل نهاية السنة في إعفاء مسؤول بهذا الحجم، مذكرا بأن قرار الإقالة مؤرخ بتاريخ 29 يوليو 2025، ومعلوم أن مسطرة الإقالة تخضع لمسارات مسطرة التعيين نفسها، كما هو منصوص على ذلك في دستور المملكة، خصوصا المادتين 49 و92 منه، وكما هي مبينة في مرسوم التعيين في المناصب العليا. ومعلوم كذلك أن مسطرة التعيين ومسطرة الإقالة أو الإعفاء تستلزم وقتا، فقد يتطلب الأمر شهرا أو أكثر، فكيف تمت إقالة رئيس جامعة ابن طفيل في حين لم تتجاوز المدة بين الحفل والإقالة أياما معدودات؟!.

وأضاف المتحدث: “أمر لا يستقيم طبعا، لذلك وجب على الجهات المعنية الكشف عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك. ومن موقعي المدني المتخصص في متابعة الشأن التربوي والتكويني في كل المستويات، واستنادا إلى ما يصلنا في المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين من معطيات، يمكن القول إن بعض الأسباب الحقيقية تكمن في تراكم شكاوى عدد من العمداء والمسؤولين بالجامعة، ومجموعة من الأساتذة الباحثين بها، وكذا طلاب بعض المؤسسات ومجموعة من الموظفين، حول ما اعتبروه “انفرادا بالقرار” و”غياب الديمقراطية في التسيير” والمحسوبية والزبونية. كما همت الشكاوى بعض ملفات التدبير المالي والتجهيزات وغير ذلك من مظاهر الانفراد بالقرار والمشاورات الشكلية من قبل الرئيس المقال، وهي الشكاوى التي وصلت إلى الوزارة الوصية قبل أن تصل إلى الرأي العام”.

وأشار الدرويش إلى أن هذه الإقالات ليست سابقة في تاريخ الجامعة المغربية، مستحضرا ما حدث في عهد الوزير الأسبق لحسن الداودي سنة 2013 حين جرى إعفاء رئيس جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وإجبار رئيس جامعة ابن طفيل آنذاك على تقديم استقالته. كما أن الوزير عبد اللطيف الميراوي أصدر قرارا بإعفاء خديجة الصافي، رئيسة جامعة الحسن الأول بسطات، وأقال أو أجبر على الإقالة مجموعة من المسؤولين المركزيين، نذكر منهم مديرة الموارد البشرية، ومدير الشؤون المالية، ومدير الأعمال الاجتماعية للطلاب، ومدير التعاون. وقد راسل في سنته الأولى رئيس الحكومة من أجل إقالة الكاتب العام للوزارة، الأمر الذي لم يتسرع رئيس الحكومة في تنفيذه، بل قابله بالرفض.

وقال إن وزير التعليم العالي عبد اللطيف الميراوي لم يكن يؤمن بالهياكل ولا بالمقتضيات القانونية، فقد كان يقرر دون الرجوع إلى الهياكل الجامعية في نقل هذا الأستاذ أو تلك الأستاذة، وغيرها من مظاهر التدخل المباشر في شؤون الجامعات ومؤسساتها، في ضربٍ سافرٍ لمقتضيات الاستقلالية المنصوص عليها في القانون المنظم.

وتابع: “أما اليوم، فأعتقد أننا أمام وزير ينهج أسلوبا مختلفا يرتكز على المتابعة المباشرة عبر المساطر المتاحة قانونا لما يروج في التعليم العالي، بإيمان عميق باستقلالية الجامعات والمؤسسات، وبمحورية الأستاذ الباحث في كل عملية تدبيرية، وحين يجمع المعطيات والأدلة يتدخل لتصحيح ما يراه اختلالات، وهو ما يفسر القرارات الأخيرة”.

وفيما يخص جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، أبرز الخبير ذاته أن قرار الإقالة سببه عدة اختلالات في التدبير والتسيير واتخاذ القرار، ولا بد من استحضار بلاغات النقابة الوطنية للتعليم العالي جهويا، وبعض القرارات التي اتخذها أحد مستشاريه في ضربٍ صارخٍ للقوانين. ولا بد من استحضار “قصة” المدرسة الوطنية للتجارة والتدبير التي لم يُعرف مصيرها معه، لا بالحاجب ولا بمكناس، حيث تسلم طلبتها شهادات مختومة باسم “الحاجب” بينما كانوا يتابعون دراستهم في مكناس. وحين انتبهوا لذلك، أصبحت المدرسة “بلا عنوان”، الأمر الذي أقلق مسؤولين بالجهة، ودفع ب عامل إقليم الحاجب إلى مراسلة الوزارة والرئاسة للاستفسار عن مصير المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بمدينة الحاجب. كما عرف مشروع إنجاز كلية الطب بالرشيدية تأخرا في الانطلاقة، مما يعكس وجود تعثر في إنجاز هذه المشاريع الحيوية.

وفي سياق متصل، انتقد محمد الدرويش الوضع الحالي لقطاع التعليم العالي في المغرب، مشيرا إلى حالة من عدم الاستقرار الإداري والسياسي. وأكد الدرويش أن القطاع شهد تعاقب 13 وزيرا ووزيرا منتدبا وكاتب دولة خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهو ما اعتبره مؤشرا على “وضعية غير صحية”.
وأبرز الدرويش أن حالة عدم الاستقرار هذه يكون لها انعكاسات مباشرة على الجامعات ومؤسساتها، وعلى الإدارة المركزية للوزارة، مذكرا بأنه خلال 23 عاما فقط، جرى تعيين ما يقارب 70 رئيس جامعة وأكثر من 1000 عميد ومدير مؤسسة للتعليم العالي. وأضاف أن هذه الأرقام تعكس غياب الاستقرار وتؤثر سلبا على استقلالية الجامعة التي يكفلها القانون 01.00.

وجدد الدرويش ضمن حديثه للعمق التأكيد على أن التعليم العالي يجب أن يكون حقيقة وفعلا قاطرة للتنمية ببلادنا، ولكي يكون كذلك، لا بد من تبسيط مساطر التدبير المالي. وتساءل: “كيف نفسر أن أقل من نصف ميزانيات التسيير والتجهيز قد صُرفت، بتفاوت طبعا، في الجامعات المغربية؟ كيف نقبل أن تقترض الدولة من المؤسسات المالية، ونجد مديرا أو عميدا أو رئيسا يتصرف وكأنه آمر بالصرف في منزله؟! فتضيع الميزانيات، ويضيع معها المرفق العمومي، وتضيع مع كل ذلك مشاريع البحث والتكوين!”.

وأشار إلى أن ريادة الجامعات لقاطرات التنمية لن تتحقق في ظل الشروط الحالية ماليا وتدبيرا وحكامة وهياكل ورسالة وأدوارا. وأضاف: “لكل ذلك، نحن نترقب ما ستسفر عنه النقاشات والمداولات حول مشروع قانون التعليم العالي في مجلس الحكومة والبرلمان بغرفتيه، ونقاشات أساتذة التعليم العالي، من أجل التنفيذ الفعلي للجهوية المتقدمة واللاتمركز واللامركزية. كما نترقب فتح نقاش عميق ومسؤول حول أدوار التعليم العالي. وهل يجب أن نلصق به تهمة تفريخ العاطلين والبطالة؟! وهل يجوز أن نقبل بأن يكون التعليم العالي مجرد مؤسسات للتكوين المهني؟! أليست للأسر وقطاع التربية الوطنية، من التعليم الأولي إلى البكالوريا، والإعلام والمجتمع بكل مكوناته، مسؤوليات في ترسيخ فكرة أن الوظيفة في الإدارات العمومية هي الهدف والمبتغى لدى الأطفال والتلاميذ، وأن التكوين المهني غير ذي قيمة في المجتمع؟”.

واستشهد الجامعي ذاته بمعطيات من امتحانات البكالوريا لهذه السنة، التي قال إنها تعكس عمق الأزمة وتضع اليد على موضع الداء، وتسائل الجميع، بل وتناقض الاختيارات والتوجهات في كل دول العالم المتقدم، مشيرا إلى أنه من أصل 495 ألف مترشح، اختار 65 % منهم مسالك العلوم والتقنيات، و 34″ % اختاروا مسالك العلوم الإنسانية والآداب الأصيلة، بينما اختار 1% فقط مسالك التكوين المهني.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.