في تشريح دقيق وجريء لواقع المنظومة التربوية بالمغرب، قدم الأستاذ محمد الخمسي، الأكاديمي البارز بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس والمتخصص في الرياضيات التطبيقية، مرافعة نقدية لاذعة للسياسات العمومية المعتمدة في قطاع التعليم، معتبرا أن الوزارة الوصية تخلط بين “الاستراتيجية” و”التقنيات”، وتسوق حلولا ترقيعية لمشاكل بنيوية عميقة.
وخلال استضافته في برنامج “جسور” على قناة “العمق”، فكك الخمسي الخطاب الرسمي حول “الجودة” و”مدرسة الريادة”، واصفا إياه بالمنفصل عن الواقع.
وأكد الأكاديمي أن الحديث عن الجودة في ظل غياب الشروط الدنيا للكرامة الإنسانية للتلميذ هو نوع من “العبث”، متسائلا باستنكار: “كيف يمكننا الحديث عن الجودة في مؤسسات تعليمية بالعالم القروي تغيب فيها المطاعم المدرسية؟ كيف نطلب الجودة من تلميذ يعاني الجوع والبرد ولا نعرف حتى درجة حرارة جسمه؟”.
وأشار الخمسي إلى أن العالم القروي تعرض لمظلمة تاريخية، مستحضرا زيارات ميدانية لمؤسسات تعليمية بضواحي مراكش ومناطق نائية، حيث الأقسام مكتظة بأكثر من 60 تلميذا، وتغيب المرافق الصحية والكهرباء والإنترنت.
وشدد على أن “الجودة” مصطلح تقني له شروط ومقاييس عالمية، وإسقاطه على واقع هش يعد “شعبوية”، مؤكدا أن الجودة الحقيقية في المرحلة الراهنة يجب أن تختزل في تمكين التلميذ من القراءة والكتابة والحساب، وليس الشعارات البراقة التي لا أثر لها على الأرض.
التعاقد زرع القلق في نفس المدرس
في سياق متصل، انتقد الخمسي بشدة نظام “التعاقد” في التوظيف، معتبرا إياه أحد الأسباب الرئيسية لتراجع مردودية المدرسة العمومية، موضحا أن “المدرس الذي لا يشعر بالأمان الوظيفي والاستقرار النفسي لا يمكنه أن يبدع أو يعطي”.
ولفت المتحدث إلى أن مصطلح “التعاقد” بحد ذاته خلق “لبسا وتشويشا” وأسس لعلاقة قلق دائم بين الإدارة والأستاذ، مقارنا بين وضع رجل التعليم في العقود السابقة، حيث كان يتمتع بمكانة اعتبارية واستقرار مادي واجتماعي، وبين وضعه الحالي الذي يتسم بالهشاشة ومحدودية الآفاق، مشيرا إلى أن الدول المتقدمة أو حتى دول الضفة الشمالية للمتوسط تحرص على أن يكون رجل التعليم في أعلى السلم الاجتماعي لضمان جودة المخرجات.
وعلى المستوى البيداغوجي، كشف أستاذ الرياضيات عن خلل خطير في المناهج التعليمية المغربية، يتمثل في حذف مادة “المنطق” (La Logique) التي كانت تدرس بشكل مستقل، وحذف تدريس “البنيات الرياضية”، معتبرا أن هذا التغيير أدى إلى تخريج أجيال من التلاميذ والطلبة يقومون بعمليات حسابية ميكانيكية دون فهم العمق المنطقي أو امتلاك أدوات التفكير النقدي.
وأضاف الخمسي أن المدرسة المغربية اليوم، وبسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، قد تقتل النوابغ بدلا من اكتشافهم، مقدما في هذا الصدد قصصا إنسانية مؤثرة من واقع مدرجات الجامعة، منها قصة طالب كان يأتي متأخرا وتفوح منه رائحة النعناع، ليكتشف الأستاذ لاحقا أنه يستيقظ فجرا لبيع النعناع لتوفير قوت يومه قبل المجيء للدراسة. وقصة طالب آخر كاد أن يُظلم بسبب رداءة خطه، ليكتشف الخمسي بعد الصبر على ورقة امتحانه أنه “عبقري” حل معضلة رياضية استعصت على الكثيرين.
واعتبر أن هذه النماذج تؤكد حاجة المنظومة إلى “أنسنة” العلاقات وتقليص المسافة النفسية بين الأستاذ والطالب، وهو ما تفتقده المقاربات التقنية الجافة الحالية.
مدرسة الريادة.. حل تقني لأزمة استراتيجية
وعن مشروع “مدرسة الريادة” الذي تروج له الدولة حاليا، اعتبره الخمسي “تجربة تقنية” مستوردة (تم تجريبها في الهند) تهدف إلى جعل التلاميذ في مستوى متوسط موحد، محذرا من أن هذا التنميط قد يقضي على النوابغ والكفاءات العالية التي تحتاجها البلاد في سباق المعرفة العالمي.
واعتبر الخمسي أن الوزير الحالي، ورغم نواياه الحسنة المحتملة، يبدو “غير عارف بتفاصيل المدرسة المغربية الحقيقية”، وأن الاعتماد على الحلول المستوردة واللغة الخشبية لن يحل أزمة التعليم ما لم تتوفر إرادة سياسية ورؤية استراتيجية تجعل من التعليم أولوية وطنية حقيقية، كما فعلت الصين والهند اللتان خرجتا من التخلف عبر بوابة المدرسة.
المصدر: العمق المغربي
