أكد محمد الخمسي الخبير التربوي والأستاذ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن إصلاح المنظومة التعليمية في المغرب لن يتحقق بالاعتماد على “خطابات تقنية”أو “حلول ظرفية”، بل يتطلب رؤية استراتيجية واضحة تُحدد موقع المدرسة المغربية ودورها المستقبلي في بناء الإنسان والمجتمع.
وقال الخمسي، خلال استضافته في برنامج جسور على قناة “”، إن مساره الأكاديمي في مجال الرياضيات التطبيقية تَشكل منذ سنوات الدراسة الأولى بالمدرسة العمومية، موضحا أن شغفه بالرياضيات لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج تأثير أساتذة متميزين ساعدوه على اكتشاف ميوله العلمية منذ الإعدادي والثانوي، قبل أن يتدرج في مسار جامعي قاده إلى فرنسا حيث تلقى تكوينا عاليا على يد أسماء بارزة في هذا التخصص.
وأشار الخمسي إلى أن مساره العلمي توازى مع انفتاحه على عالم الإنسانيات والفلسفة، مؤكدا أن هذا التنوع المعرفي منحه قدرة أكبر على التحليل والتواصل. وأبرز أن الجامعة المغربية بدأت بدورها، خلال السنوات الأخيرة، في التخلص تدريجيا من الفصل التقليدي بين التخصصات، غير أن هذا التحول ما يزال “غير كاف”بسبب محدودية الإمكانات والبرامج، على حد تعبيره.
وانتقد الخمسي التغييرات التي طالت مناهج الرياضيات، مؤكدا أن حذف مواد محورية مثل المنطق والبنيات في التعليم الثانوي أدى إلى “إضعاف الأدوات الذهنية التي تُمكن التلميذ من فهم عمق الرياضيات”. وسجل أن بناء عقل رياضي سليم يحتاج مسارا يبدأ من الجدع المشترك، وليس من السنوات النهائية.
وكشف الخمسي أن تجربته الجامعية أظهرت أن كثيرا من الطلبة يضيعون بسبب غياب الإنصات إلى ظروفهم الاجتماعية والنفسية، موضحا أن تفوق العديد منهم لا يظهر إلا في بيئة قائمة على الصبر والتحفيز. وسجل أن الجامعات المغربية أصبحت تستقبل أجيالا تعاني ضعف التركيز بسبب الضغط الرقمي ووفرة المعلومات مقابل تراجع الإرادة.
وأوضح الخمسي أن الأزمة التعليمية في المغرب ليست تقنية، بل استراتيجية بالأساس، مشددا على أن أي إصلاح حقيقي يجب أن يحدد أولا الأفق السياسي للتعليم ودوره في المجتمع. وقال إن غياب هذا الأفق يجعل السياسات المتبعة مجرد “ترقيع لا يحدث أثرا”.
كما انتقد ضعف تكوين الأساتذة وتقليص قيمة مراكز التكوين، معتبرا أن المسافة بين الأستاذ والتلميذ تضيق، ليس بسبب تطور مستوى المتعلمين، بل بسبب تراجع جودة تكوين عدد من الأساتذة الذين يلجون المهنة بنقط دنيا.
وفي حديثه عن الذكاء الاصطناعي، اعتبر الخمسي أن هذه التكنولوجيا “تستمد قوتها من الذكاء الطبيعي”، محذرا من أن إهمال التعليم الأساسي سيحول المغرب إلى مستهلك فقط لما تنتجه الدول الكبرى، بدل أن يكون شريكا في ابتكار أدوات الذكاء الاصطناعي.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي بات يهدد خصوصية الإنسان وهويته، مضيفا أنه “ليس مجرد أداة تقنية، بل فلسفة حضارية جديدة”، وهو ما يستدعي تحديث الترسانة القانونية لحماية المجتمع.
وأوضح الخمسي أن بعض التخصصات الجامعية ليست مُستهدفة بخطر الذكاء الاصطناعي مثل الرياضيات التي يصعب على الخوارزميات حل إشكالاتها الحديثة، لكنه نبه إلى انتشار السرقات العلمية وضعف الآليات الوطنية لكشفها، داعيا إلى ترسيخ قيم البحث العلمي بدل الاقتصار على الوسائل التقنية لضبط الغش.
وبخصوص وضعية البحث العلمي، اعتبر الخمسي أن الاستثمار الحالي “غير كاف”، لأن الدولة ما تزال تنظر إلى البحث بمنطق الربح السريع، بينما يحتاج هذا المجال إلى رؤية طويلة المدى كما فعلت الدول التي حققت قفزات علمية كبرى.
وأكد الخمسي أن الحديث الرسمي عن جودة التعليم “مبالغ فيه”، مشيرا إلى أن شروط الجودة غير متوفرة في عدد كبير من المؤسسات، خصوصا في العالم القروي حيث يغيب المطعم المدرسي والتدفئة والبنيات الأساسية.
وأضاف أن الجهود في بعض النماذج المعزولة لا تعكس واقع المنظومة، معتبرا أن الجودة الحقيقية تبدأ حين يتمكن المتعلم من القراءة والكتابة والحساب في سنواته الأولى.
وأشار الخمسي إلى أن نظام التعاقد ساهم في اضطراب المنظومة التعليمية، لأنه جعل الأستاذ يعيش هشاشة مهنية ونفسية، مما أثّر على عطائه داخل القسم. ودعا إلى تمكين رجال التعليم من ظروف مادية واجتماعية تحفظ مكانتهم وتعيد لهم الثقة في المسار المهني.
وفي تقييمه لتصريحات وزير التربية الوطنية حول الجودة ومدرسة الريادة، اعتبر الخمسي أن الخطاب الرسمي يعاني مسافة واضحة عن حقيقة المدرسة المغربية”، وأن بعض المشاريع تُقدَّم كاستراتيجيات بينما لا تعدو كونها إجراءات تقنية.
وشدد الأستاذ بجامعة فاس، على أن أي إصلاح تعليمي حقيقي يستلزم فهما عميقا للواقع الاجتماعي والنفسي والتربوي للمدرسة المغربية، قبل إطلاق الشعارات والبرامج.
المصدر: العمق المغربي
