قدّم جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه العرش، رؤية متكاملة تجمع بين تقييم منجزات العقدين الماضيين واستشراف آفاق المرحلة المقبلة، داخلياً وخارجياً. فقد جاء الخطاب بمثابة وثيقة استراتيجية تؤسس لتحول نوعي في السياسة التنموية الوطنية، وتعيد التأكيد على ثوابت الدبلوماسية المغربية، وفي مقدمتها الانفتاح، حسن الجوار، والالتزام بالحوار، خصوصاً في سياق إقليمي ودولي متغير، يفرض على المغرب تثبيت موقعه كقوة استقرار وازنة وشريكة في بناء مستقبل المنطقة.
وكما جرت العادة في خطب جلالة الملك، وخاصة خطاب العرش، فإنها تشكّل محطات مفصلية تُستحضر فيها المنجزات، ويُعاد فيها تقييم السياسات العمومية، وتُرسم من خلالها معالم المستقبل. إنها خطب ليست فقط بروتوكولية، احتفالية أو رمزية، بل بمثابة بيانات أضحت تشكل لحظة للتثمين وإعادة التوجيه، من خلال الوقوف على المنجزات ومكامن القصور، ما يجعل منها بمثابة “بيان سنوي” لتوجهات الدولة يعكس طبيعة المؤسسة الملكية كفاعل استراتيجي في ضبط إيقاع السياسات العمومية وتوجيه الرؤية التنموية الوطنية.
التحول الاقتصادي والاجتماعي كحصيلة استراتيجية بعيدة المدى
وقد عبّر جلالته، في خطاب هذه السنة، عن اعتزازه العميق بما راكمته المملكة خلال ما يزيد عن عقدين من التحول والتحديث، خصوصاً على مستوى الانتقال الاقتصادي والتحول المجتمعي. فقد سرع المغرب وتيرة الانتقال من اقتصاد هش، قائم أساساً على الفلاحة والخدمات والصناعات الاستخراجية، نحو اقتصاد أكثر إنتاجاً للقيمة وللتنمية، قائم على نموذج اقتصادي صناعي حديث، مؤسس على الطاقات المتجددة، والتكنولوجيات المتطورة، وسلاسل الإنتاج المندمجة.
هذا التحول حسب جلالته، لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة رؤية استشرافية ونتيجة اختيار سياسي مدروس، راهن منذ البداية على الاستثمار العمومي والشراكة مع القطاع الخاص كرافعة للتحول، عبر تطوير البنيات التحتية وتأهيل المناخ الاستثماري، مما مكن من استقطاب استثمارات دولية كبرى، لاسيما في قطاعات السيارات والطيران والطاقات النظيفة والاندماج في سلاسل القيمة العالمية. وهو المسار الذي أكد جلالته استمرار المملكة فيه، من خلال التركيز على توطين التكنولوجيا، وتشجيع البحث العلمي، والاستثمار في العنصر البشري باعتباره أساس التنمية المستدامة.
وعلى المستوى الاجتماعي، أبرز جلالته أهمية الورش الملكي المتعلق بالحماية الاجتماعية، الذي يهدف إلى إعادة تعريف دور الدولة من مزوّد تقليدي للخدمات إلى “ضامن للكرامة الاجتماعية”، وهو المشروع الذي لا يقتصر على توسيع التغطية الصحية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى بناء منظومة اجتماعية مندمجة تشكّل درعاً واقياً من الفقر والهشاشة، وتمكّن فئات واسعة من المجتمع من الارتقاء الاجتماعي، والانخراط في دينامية التنمية. وقد أشار جلالته بفخر إلى التحسن الملحوظ في مؤشرات التنمية البشرية، حيث تراجعت نسبة الفقر متعدد الأبعاد من 11% سنة 2014 إلى 6% هذه السنة، وهو مؤشر دال على نجاعة السياسات الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة.
النقد الملكي لواقع التفاوتات المجالية
رغم حجم المنجزات التي راكمها المغرب خلال السنوات الأخيرة، لم يُخفِ جلالة الملك محمد السادس في خطابه، قلقه العميق إزاء استمرار مظاهر التفاوت المجالي، وما أسماه بـ”مغرب السرعتين”: مغرب المركز ومغرب الهامش أو الظل. ففي الوقت الذي تحوّلت فيه بعض الأقطاب الحضرية الكبرى إلى مراكز دينامية جذابة تعكس وجه المغرب المتطور والمستعد لاحتضان أبرز التظاهرات الرياضية العالمية واستقبال استثمارات استراتيجية نوعية، لا تزال مناطق واسعة من البلاد ترزح تحت وطأة ضعف البنيات الأساسية، وهشاشة الخدمات، وتراجع فرص التنمية والارتقاء الاجتماعي.
هذا التفاوت لا يقتصر فقط على البعد الاقتصادي والاجتماعي، بل يمتد ليشمل الفعل السياسي، حيث تسجّل فجوة واضحة بين سرعة التوجيهات الملكية الاستراتيجية ورهانات الدولة التنموية من جهة، وبطء التفاعل الحزبي والمؤسساتي من جهة أخرى. فقد أشار الخطاب الملكي، بشكل غير مباشر، إلى تراجع أداء الأحزاب السياسية وتخليها عن وظائفها الأساسية في التأطير، والتكوين، وصناعة النخب، مما أدى إلى تعطيل العديد من الأوراش التي يُفترض أن تعتمد على النخب المحلية، خصوصاً في ظل ورش الجهوية المتقدمة، الذي يتطلب حضوراً فاعلاً ومؤهلاً للنخب الجهوية في أفق تفعيل سياسات عمومية مندمجة وفعالة.
وفي هذا السياق، شدّد جلالة الملك على ضرورة إرساء مبدأ “الإنصاف الترابي” كخيار استراتيجي لتحقيق العدالة المجالية، داعياً إلى تفعيل الجهوية المتقدمة، ليس فقط كآلية إدارية، بل كرافعة للتكامل والتضامن بين الجهات. كما دعا إلى إعادة تثمين المؤهلات الاقتصادية والاجتماعية لمختلف الأقاليم، وخاصة تلك التي بقيت لسنوات طويلة خارج مسارات التنمية، والعمل على إدماجها في قلب السياسات العمومية، عبر توجيه الاستثمارات العمومية بشكل منصف، وتوزيع الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والماء والكهرباء وفق مبدأ التمييز الإيجابي، لفائدة الفئات والمجالات الأكثر هشاشة. إن رؤية الملك هنا لم تكتفي بتشخيص الخلل، بل وضعت خارطة طريق واضحة لإعادة التوازن إلى النسيج الوطني، على أسس من الإنصاف والفعالية والعدالة المجالية، في مغرب ينبغي أن يسير نحو المستقبل بسرعة واحدة، وبإيقاع تنموي موحد لا يترك أحداً خلف الركب.
السياسة الخارجية المغربية بين الثوابت الملكية ورهانات الحوار المغاربي
لقد قدّم جلالة الملك في خطابه الأخير، رؤية متماسكة لثوابت السياسة الخارجية المغربية، مكرّساً من خلالها توجه المملكة القائم على مبادئ حسن الجوار، والانفتاح، والحوار الصادق والمسؤول، لا سيما مع الجارة الجزائر. وقد أكد جلالته، مرة أخرى، أن هذه المبادئ ليست مجرد شعارات ظرفية، بل تمثّل خياراً استراتيجياً ثابتاً يرمي إلى بناء مغرب عربي موحد، متكامل، متصالح مع ذاته، قادر على مجابهة التحديات الإقليمية بروح جماعية وشراكة حقيقية.
وقد جاءت دعوة الملك إلى حوار مباشر وصريح مع الجزائر، للمرة الخامسة على التوالي، بمثابة تجديد لهذا الالتزام، في صيغة تقوم على الاحترام المتبادل، وتجاوز الملفات الخلافية العالقة دون شروط مسبقة، ودون غالب أو مغلوب، بما يستحضر الروابط العميقة بين الشعبين الشقيقين، في التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين، وفي تطلعات التنمية والعيش الكريم. ومن خلال ذلك، أكد جلالته أن هذا التوجه لا ينبع من اعتبارات ظرفية أو حسابات ضيقة، بل من إيمان راسخ بضرورة التكامل المغاربي، كخيار استراتيجي لا مناص منه، تتطلبه تحولات العصر وإكراهات الجغرافيا السياسية.
واللافت في هذا الموقف المغربي المتجدد أنه يصدر في سياق إقليمي بالغ التعقيد، موسوم باستمرار التصعيد العدائي من طرف النظام الجزائري، الذي يصرّ على نهج سياسة القطيعة، عبر إغلاق الحدود، وقطع قنوات الحوار، وإيقاف التعاون الاقتصادي، بل وشنّ حملات عدائية ممنهجة على الصعيدين الإقليمي والدولي، والدفع نحو تأزيم العلاقات من خلال دعم حركات انفصالية مسلحة في الصحراء المغربية، واحتضان تمثيليات تدعو إلى التمرد في منطقة الريف، إضافة إلى تجييش الرأي العام الداخلي ضد المغرب، في محاولة لخلق “عدو خارجي” يُستثمر سياسياً لصرف الانتباه عن أعطاب الداخل الجزائري وتحدياته البنيوية.
في مقابل هذا النهج التصعيدي، ظل المغرب وفيًّا لنهج ضبط النفس، معتمداً سياسة تقوم على الحكمة والتبصّر الاستراتيجي، وعلى الانخراط الهادئ في الجهود الدولية، وتفعيل الشراكات التنموية الكبرى، إيماناً منه بأن كلفة الصراع لا يجب أن تكون على حساب مستقبل الأجيال، ولا أن تُهدر في نزاعات عبثية كان بالإمكان تجاوزها بالحوار والإرادة المشتركة. وهنا تبرز مفارقة جوهرية بين مشروعين سياسيين متباينين: مشروع مغربي منفتح، إصلاحي، حداثي، يسعى إلى بناء دولة صاعدة وفاعلة إقليمياً، ومشروع جزائري يراهن على الانغلاق والتصعيد وتغذية العداء.
الخطاب الملكي لم يكتف بتشخيص الوضع، بل حمل في طياته رسالة ضمنية تعبّر عن أسف حقيقي لاستمرار الجار الشرقي في سياسة الرفض والإنكار، ما يُقوّض أي فرصة لإحياء الحلم المغاربي، ويحرم شعوب المنطقة من بناء فضاء إقليمي واعد وموحّد. غير أن بروز تحول ملموس في مواقف عدد من الدول الأوروبية و الإفريقية التي قررت الانفصال عن منطق الاستقطاب العدائي والانخراط في رؤية واقعية وفاعلة، يُعد مؤشراً على نجاعة الدبلوماسية المغربية التي تجمع بين البراغماتية والتوازن، وترتكز على مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وجدي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، يحفظ كرامة الجميع ويعزز الاستقرار الإقليمي.
إن الخطاب الملكي، في جوهره، لا يدعو إلى التفاوض فحسب، بل يرسي دعائم سياسة خارجية مغربية رصينة، تستند إلى الثقة في الذات، والتوازن في المواقف، والالتزام بالمبادئ، دون أن تغفل متطلبات الواقعية السياسية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم الدعوة المغربية للحوار مع الجزائر كموقف ضعف، بل كمظهر من مظاهر القوة الأخلاقية والنضج الاستراتيجي، وكترجمة ملموسة لوعي مغربي بأن بناء مغرب عربي موحد لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة جيوسياسية تفرضها تحولات العالم الراهن وتحدياته المركّبة. إن هذا الخطاب لا يُعد مجرد محطة خطابية أو بلاغاً دبلوماسياً مناسباتياً، بل وثيقة توجيهية كبرى ترسم ملامح السياسة الخارجية المغربية لعقود مقبلة، وتؤكد، مرة أخرى، أن المغرب ماضٍ بثقة وثبات نحو ترسيخ مكانته الإقليمية والدولية، كدولة فاعلة، مسؤولة، ومنفتحة على شراكات متعددة، ومؤمنة بأن الحوار هو السبيل الأنجع لتجاوز الخلافات وبناء المستقبل المشترك.
المصدر: العمق المغربي