في قلب فلسطين الجريحة تقف غزة، تلك القطعة الصغيرة من الأرض، شامخة وشاهدة على أحد أكثر الجرائم قسوة، تجلى صوره في القهر والفقر الإنساني الذي لم يعاني منه شعب غير شعب غزة الأبية، بالإضافة إلى الظلم التاريخي الذي يعيشه أهالي غزة المحاصَرة منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، حيث القصف من السماء والتجويع من البر والمراقبة من البحر، تعيش غزة حياةً لا تشبه الحياة، وتقاوم موتًا يتسلل من كل اتجاه، ليس فقط عبر فوهات الدبابات والطائرات، بل أيضًا عبر صناديق المؤونة التي تحمل الدقيق لكنها تسلب الحياة في الآن نفسه.
منذ السابع من أكتوبر بالتحديد، فرض على سكان غزة أن يعيشوا في معادلة قاسية تختصر أحلامهم وآمالهم في مجرد البقاء ليس إلا. وتم ربط ذلك بما تجود به المساعدات الأمريكية عليهم، لا كيدٍ ممدودة بالمحبة أو التضامن، بل كأداة سياسية تغلف بالإنسانية. في ظاهرها رحمة ملغومة، وفي باطنها كفن أبيض ينتظر كل زائر. فهي ليست فقط وجبات غذائية أو أدوية أو معونات مالية، بل إنها رسائل مشفّرة تحمل شروطًا وعقوبات، تهدد بمنعها كلما رفض الفلسطيني أن يطأطئ رأسه أمام العدوان الصهيوني .
فالسياسة الأمريكية تجاه أهالي غزة لا تُقاس فقط بعدد الشاحنات التي تدخل عبر المعابر أو بعدد الأكياس التي ترمى عبر الطائرات، بل بمقدار ما تفرضه من شروط تحت مسمى “التمويل المشروط”، وهي سياسة تتناقض بشكل كبير مع “الدعم العسكري اللامشروط” الذي تمنحه الولايات المتحدة لإسرائيل. كيف يمكن للعالم أن يصدق أن اليد التي تمد الفتات إلى أطفال غزة، هي ذاتها التي تموّل الدبابات التي تقتل النساء والأطفال ولا ترحم أحدا. إنه التناقض الأخلاقي في أبشع تجلياته في ظل السياسة الدولية الحديثة، حيث يصبح تقديم المساعدة للفلسطينيين غطاءً لتبييض جرائم الاحتلال، وأداة لخلق حالة من الاعتياد على الظلم مقابل الكفاف. أو لنقول مقابل الكفن.
الواقع في غزة اليوم وفي ظل الحرب الإسرائيلية الايرانية أكثر قسوة من قبل ومن كل ما يُنشر في الأخبار وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. فالمساعدات الامريكية لا تعني إنقاذًا للحياة، بقدر ما تعني تأجيلاً للموت المحتوم عاجلا أم آجلا.
فالطعام الموزَّع على العائلات يُغلف بالخوف من القصف، والماء القادم من الشاحنات يتخلله القصف الذي لا ينقطع، والمدارس التي تُموَّل بتلك المساعدات لا تلبث أن تتحول إلى ملاجئ مؤقتة حين تُقصف البيوت، بل وقد تُقصف هي ذاتها حينما لا يجد الصهاينة ما يقصفون بسبب المنازل المخربة. لا شيء محصَّنًا في غزة، لا البشر ولا الشجر، وحتى المعونات ذاتها تُصبح عبئًا حين تُستخدم كأداة قنص لشعب أعزل عانى الويلات.
والأشد مرارة هو محاولة بعض القنوات العربية تسويق هذه المساعدات كمظهر للإنسانية الغربية، بينما تُعزل غزة عن العالم الخارجي، ويُمنع عنها الدواء والكهرباء والماء بل الحياة بكل تجلياتها، وتُصنّف مقاومتها إرهابًا. رغم كونها دفاعا عن الأرض ، فكيف يُمكن الحديث عن “مساعدة إنسانية” في ظلّ هذا الحصار المشدد ، فالمساعدات في هذه الحالة هي شراكة ضمنية في مشروع خنق الحياة إلى حين انعدامها.
فالمساعدات التي تأتي من الدول الكبرى مشروطة بالصمت والصبر عن الاحتلال، و القبول بالذل والهوان، وهذا لايمكن أن يكون دعمًا حقيقيًا. بل يصبح نوعًا من العقاب المغلف، يُرفَع ويُخفَّض وفق المزاج السياسي الخارجي للكيتن الصهيوني. ولعل أخطر ما في هذا المشهد، هو محاولة تحويل الانسان الفلسطيني من مناضل صاحب قضية، إلى ضحية يضل دائما بحاجة إلى الشفقة. فبهذا التصوير يُطمس جوهر الصراع، ويُعاد تشكيل الفلسطيني في الوعي العالمي كشخص جائع يجب إنقاذه، لا كصاحب أرض وحق يجب إنصافه.
وفي هذا السياق، تُطرح مشاريع “التنمية الاقتصادية” في غزة، وكأنها مشاريع إنقاذ، بينما هي في جوهرها محاولات لتطويع الساكنة، ولتطبيع الاحتلال عبر بوابة المساعدات الجوفاء. يُقترَح على الفلسطيني أن يعمل في مصانع العدو، وأن يقايض حقه في الحرية بوظيفة تحت المراقبة، أو بكيس طحين يُشترط فيه ألا يشارك في أي حراك سياسي. يُراد له أن ينسى الحصار، والنكبة، واللاجئين، والقدس والأرض، وأن يرضى بالفتات مقابل الصمت. لكن الشعب الفلسطيني، وفي مقدّمه سكان غزة، رفضوا هذا المنطق المهين، وأثبتوا في كل مرة أن كرامة الإنسان لا تُشترى بالمساعدات ولا بالمساومات.
لذلك، فمعركة غزة اليوم لم تعد فقط مع المحتل الذي يقصفها ليل نهار، بل مع المنظومة الدولية التي تتواطأ مع هذا القصف باسم المساعدة، وتغض الطرف عن الجرائم الصهيونية بحجة دعم الاستقرار. وفي ظل هذا الواقع، يجب أن يُعاد تعريف مفهوم المساعدة الدولية:، باعتبارها وسيلة للالهاء وتمديدالجراج وفق شروط تضمن السيطرة والاستسلام. أما أهل غزة، لا يرفضون المساعدات، لكنهم يرفضون أن تُقدَّم على حساب كرامتهم. وأن تُستخدم كبديل عن العدالة وعن الأرض، أو كرشوة لصرف الأنظار عن الاحتلال. لقد صمد هذا الشعب، وواجه الحروب والدمار والفقر والتهميش، ليس حبا في المعاناة، بل لأنه اختار أن يعيش واقفًا شامخا، لا راكعا.
بكلمة، فشعار “الخبز مقابل الموت” ليس فقط توصيفًا لما يعيشه أهل غزة بشكل يومي، بل اتهامٌ صريحٌ لمنظومة دولية جمعاء جعلت الحياة في قطاع غزة رهينة قرارات سياسوية تتجاوز الإنسانية وتستثمر في معاناة الساكنة. والواجب الأخلاقي اليوم بالنسبة لنا كمسلمين لا يكمُن في إرسال طائرة من المساعدات الانسانية، بل في فتح الحدود والمعابر، ورفع الحصار، ومحاسبة من يقصف الأطفال الذين لا ذنب لهم سوى كونهم ولدوا في أرض كتب على أهلها الصراع من أجل الوجود، لذلك فغزة لا تريد أن تموت جوعًا، بل تريد أن تعيش كما يليق بشعبٍ عزيز ذو أرض وشجرة زيتون، ولا ككائن يتنفس بأجهزة الإنعاش الأمريكية. وأي مساعدة لا تعترف بهذه الحقيقة فهي مويفة، هدفها الجقيقي هو تمديد النزيف، لا إيقافه.
المصدر: العمق المغربي