في عالم يشهد تسارعا كبيرا في التواصل بين الشعوب، أصبح الحوار الحضاري ضرورة ملحة لضمان التفاهم والتعايش في ظل التعدد الثقافي، ومع ازدياد الاحتكاك بين الحضارات، تتصاعد أيضا التوترات الناتجة عن اختلاف العادات وأنماط التفكير، مما يجعل التواصل الهادئ والمعرفة المتبادلة سبيلا أساسيا لبناء جسور التفاهم، ويقوم الحوار الحضاري على إدراك أن التنوع ليس تهديدا، بل عنصرا أساسيا في ثراء التجربة الإنسانية، وأن تبادل الأفكار بين الثقافات لا يهدف فقط إلى المعرفة، بل إلى خلق علاقة إنسانية قائمة على الاحترام المتبادل.

إن عملية الحوار بين الحضارات تسمح بتقريب وجهات النظر ومعالجة سوء الفهم الذي قد يؤدي إلى النزاعات والصراعات. فمعرفة خلفيات الآخر وظروفه وقيمه يجعلنا أكثر قدرة على استيعاب مواقفه، مما يقلل فرص التصادم ويُهيئ بيئة صالحة للتعاون. وتساهم هذه العملية في تفكيك الصور النمطية التي تُبنى غالبا على معلومات غير دقيقة، إذ إن الاحتكاك المباشر والحوار الصريح يكشفان حقيقة الإنسان بعيدا عن التشويه أو التعميم. وكلما اتسعت مساحة الفهم، ضاقت مساحة التوتر.

ولا يقتصر الحوار الحضاري على المؤسسات الدولية أو اللقاءات الكبرى، بل يبدأ من الفرد ذاته ومن رغبته في الانفتاح على الآخر دون أحكام مسبقة، فحين يتبنى الفرد قيم التسامح والتعايش، ويكتسب قدرة على الاستماع أكثر من إصدار الأحكام، يصبح عنصرا فاعلا في تعزيز ثقافة الحوار داخل مجتمعه. كما تلعب المجتمعات دورا مهما في ترسيخ هذه الروح عبر تعزيز قيم العدالة والمساواة، وتربية الأجيال على احترام الاختلاف باعتباره جزءا طبيعيا من الحياة البشري،. وبقدر ما تنتشر هذه القيم، يصبح المجتمع أكثر قدرة على احتواء التنوع وتحويله إلى مصدر قوة.

ورغم أهميته، يواجه الحوار الحضاري العديد من التحديات التي قد تحد من انتشاره وفعاليته، مثل استمرار الصور النمطية التي ترسم “الآخر” بصورة مشوهة، والسياسات التي تستغل الفوارق الثقافية لإثارة الانقسام، إضافة إلى غياب منصات تتيح تواصلا فعّالا بين الثقافات، وتزيد الفجوات الاقتصادية والاجتماعية من تعقيد المشهد، إذ تجعل بعض الفئات أقل تقبلا للحوار وأكثر عرضة للتعصب. ومع ذلك، فإن تجاوز هذه التحديات يبقى ممكنا من خلال إرادة جماعية تحرص على الانفتاح وتعزيز الفهم المتبادل.

ويُسهم الحوار الحضاري في الكشف عن القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع البشر مهما اختلفت ثقافاتهم، مثل العدل والاحترام والرحمة…، فالإنصات إلى تجارب الآخرين يبين أن المبادئ الكبرى التي يقوم عليها الإنسان واحدة في جوهرها، وأن الشعوب تشترك في طموحها نحو حياة كريمة ومستقبل آمن. وهذا الإدراك يعزز روح التعاون بين الأمم، ويجعلها أكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية التي لا يمكن لأي دولة حلّها منفردة.

وقد أثبتت التجارب العالمية أن الحوار الصادق قادر على تغيير الواقع، وأن العديد من التوترات التي بدت معقدة تم تجاوزها من خلال فتح قنوات التواصل، وتوفير بيئة آمنة للتعبير وإزالة الحواجز النفسية بين الشعوب، فحين تتاح الفرصة لكل طرف ليعرّف بنفسه وبقيمه وتاريخه، يصبح التقارب ممكنا، ويصبح الخلاف قابلا للحل.

وفي النهاية، يتضح أن الحوار الحضاري ليس ترفا فكريا، بل ضرورة أساسية لضمان السلم العالمي والعيش المشترك. فالتنوع يمكن أن يكون مصدر قوة إذا أحسنّا استثماره، ويمكن أن يتحول إلى سبب للصراع إذا غابت جسور التواصل. ومن هنا، تصبح مسؤولية تعزيز الحوار مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمجتمعات، ولا نستثني من هذا الطرح مؤسسات الدولة التي تشكل هي الأخرى مصرح هذه الرسالة النبيلة التي كنا السباقين اليها من التاريخ إلى ما هو واضح للعيان، وإعادة النظر في سياسة العمل وأن الصراخ والتعصب لا رسالة له، وبالتي هي أحسن هو الصحيح، هذا من أجل بناء عالم أكثر عدلا وتفاهما، تتحقق فيه خدمة الإنسانية عبر التعاون واحترام الاختلافات.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.