بعد زوال الجمعة 31 أكتوبر 2025، في نيويورك، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار التاريخي، الذي حمل “الدّمغة” الدّولية لمشروعية الحقِّ الوَحدَوي الوطني المغربي، مُعتمدا الحكم الذاتي، الحل الوحيد والأجْدى، لحل المنازعة في مغربية الصّحراء… حسم في اختيار المسار الحقيقي والمثمر لحلٍّ سياسي، واقعي، عادل، دائم ومُتوافق عليه، لنزاع تمدّد على مِساحة رُبع قرن من حياة دوَلِ وشعوبِ هذه المنطقة المغاربية من شمال إفريقيا…

خطاب الملك محمد السادس، نصف ساعة بعد صدور القرار، كان في مستوى تاريخية القرار… لم يكن شامتا، ولا كان مَزهوا… كان واقعيا، هادئا، بكثير من التطلع إلى المستقبل… لم يكن الملك فيه مَعنيا بأن يكون منتصرا، ولا أن يعيّن المهزومَ في هذا النزال الذي دام نصف قرن… وجَّه نداء، مرة أخرى، إلى فخامة الرئيس الجزائري السيد عبد المجيد تبون بأن يستجيب لدعوة إلى الحوار “الأخوي والصادق”…  هذا يعني، أن المغرب كان يهمه دائما، وهو يدافع عن مغربية الصحراء، أن يكسب الجزائر إلى مشروع تنموي لفائدة الشعبين المغربي والجزائري، ولكافة شعوب المنطقة المغاربية… وحين تحدث الملك المغربي عن ما قبل 31 أكتوبر 2025، كان يهدف إلى أن يكون ما بعد هذا اليوم التاريخي، غدٌ مشرقٌ ومثمرٌ بالفائدة للشعبين المغربي والجزائري… وقد قالت الإرادة الدولية أن المنطقة تربتُها ومصلحتها لا مكان فيها للانفصال…

القرار الأممي الذي يعبِّر عن قناعة الإرادة الدولية بحكمة وجدِّية وفعالية المبادرة المغربية بمقترح الحكم الذاتي، صدَر على بعد أسبوع من إحياء الذكرى الخمسين لانطلاق المسيرة الشعبية المغربية، الوطنية الوحدوية، في 6 نوفمبر 1975، والتي انْتزعت استرجاع الأقاليم الجنوبية الصحراوية من الاستعمار الإسباني، ووحدتها بباقي أقاليم الوطن المغربي… المسيرةُ التي دحَرَت وَهْم الانفصال إلى مخيمات تندوف بالجزائر… واليوم، القرار الأممي يسد، “بالشَّمع الأحمر” الدولي، مَنْفَذَ الْوَهم الانفصالي إلى المستقبل، وإلى الأبد وبقوة إصرارٍ دوْلي على تسييج السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية الصحراوية بالشرعية الدولية…

الراحل الملك الحسن الثاني، استرجع الأقاليمَ الصحراوية إلى الوطن المغربي، بالمسيرة الشعبية سنة 1975… والملك محمد السادس وفّر لها الشرعية الدولية سنة 2025، بمقترح الحكم الذاتي الذي أطلقه سنة 2007…

التصدي للمنازعة في مغربية الصحراء، ملحمة وطنية مغربية، تميزت بحكمة سياسية، طبعت تدبير الملِكيْن، الحسن الثاني ومحمد السادس، لها… وضدا على ما أحاط النزاع من اشتباكات مع صراعات الأوضاع الدولية المتنوعة والمتقلبة على مدى هذا النصف قرن…

لم يكن المغرب، نهاية سبعينيات وإلى نهاية تسعينيات القرن الماضي، في وضعٍ مُريح داخل التجاذُبات الدولية، كما هو عليه اليومَ… استقلالية الدولة المغربية عن مَراكز وتحالفات الصراعات الدولية، كانت لها كلفة استهدافات، من جهات مختلفة ضد المغرب… ناور فيها الملك الحسن الثاني بدهاء سياسي حاد… للحفاظ على استقلالية المغرب وعلى مَناعة كيانه وعلى وَحدته… وقطعَ الطريق على تسلُّل “الدويلة الانفصالية” إلى التراب المغربي، أوّلا بالمسيرة الشعبية السلمية ضدا على مخططات جهات إسبانية كانت تعد شروط قيام دوْلة، تديمُ النفوذ الإسباني في الأقاليم الصحراوية المستعمرة آنذاك… وثانيا باتفاقية مدريد التي عزّزت، تكتيكيا، الجهدَ المغربي لتثبيت مغادرة الاستعمار للأقاليم الصحراوية، بوضع إقليم واد الذهب، في أمانة موريتانيا، مؤقتا… وثالثا باسترجاع ذلك الإقليم من موريتانيا، سنة 1979، وبسط السيادة المغربية عليه… ورابعا، بالتجاوب مع الالحاح الدولي، بالموافقة على إجراء الاستفتاء في الصحراء المغربية، سنة 1981… مما أدى إلى أن يستخلص المبعوث الأممي جيمس بيكر (الأمريكي)، بعد سنوات من تعثر وتعقيد تحديد هوية المصوتين، إلى استحالة إجراء الاستفتاء، وضرورة إقرار حلٍّ سياسي للنزاع…

الملك محمد السادس تولى قيادة الدولة المغربية، ومعها إدارة الدفاع عن الحق المغربي في وحدة كيانه، وبنفس التبصر، وبنفس الحكمة، فأوجد لوضع النزاع، مخرجا سياسيا وواقعيا، من حالة الجمود، عبر اقتراح الحكم الذاتي… والذي اخترق، خلال ثمانية عشرة سنة، براري ومفازات من التجاهل، التشكيك، التبخيس ومن الاعتراض عليه، من جهة البوليساريو وراعيها الجزائري… إلى أن حقق حوله شبه إجماع دولي من دول التأثير الوازن، بل وبعضها متحكم، في الوضع الدولي، ما أنضج هذا القرار الأممي المستنَد عليه… والذي يرفع الحكم الذاتي إلى مستوى الفاعل الأول والجدي في فتح مسار الحل السلمي، العملي، الواقعي، السياسي، الدائم والعادل…

قبل مقترح الحكم الذاتي وإلى ما بعده، سنَّ الملك محمد السادس سياسة شاملة ومتكاملة المحاور لعموم المغرب، وللأقاليم الصحراوية بتطبيقات خاصة.

كانت للملك محمد السادس، استراتيجية بعيدة المدى، لحكمه، يؤطرها مشروع إصلاحي، له تمدَّد في كل أوصال الكيان المغربي… يهمنا منها، اليوم، ما له علاقة بانتزاع الشرعية الدولية لفائدة المكتسبات الوحدوية المغربية… أهمها… النموذج التنموي للأقاليم الصحراوية، والذي في محصلته، ما نراه من نهضة في حواضر الصحراء من إرساء لروافع تنموية وتحولات عمرانية، جعلت منها مُدنا جاذبة لاهتمام دولي، بل للتنافس، حول ممكناتها الاستثمارية الكبيرة والهامة… وهو ما ساعد على جعلها في موقع التنافع الدولي، من زاوية أنها مطلوبة لذاتها ومطلوبة لكونها ممرًّا مُنتجا وموصلا لإفريقيا… عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، سنة 2017، كانت قرارا تاريخيا، توَّج الانصراف الملكي لإفريقيا، بعشرات الزيارات لعديد دولها، وبتوجيه الاستثمارات المغربية نحوها، وبجعلها في أساس “العقيدة” الاقتصادية المغربية، والتي تحرض على تنمية علاقات جنوبجنوب على قاعدة رابحرابح… وكان من فصولها المبادرة الأطلسية تجاه دول الساحل والصحراء، فضلا على أنوب الغاز بين نيجيريا والمغرب، والناظم لمساهمة أربعة عشر دولة إفريقية، وإنشاء ميناء الداخلة الأطلسي باعتباره سيكون من أهم موانئ الضفة الأطلسية لإفريقيا… وكل هذا فقط على سبيل المثال…

توجهات الديبلوماسية الملكية، راكمت المكتسبات المغربية، بفضل، واقعيتها، براغماتيتها، انفتاحها واستقلالها… نسجت حولها محيطًا من علاقات الاحترام في فضاءات تحركها، وتجنبت الانزلاق إلى انحيازات، غير مبررة، ولا هي مفيدة لها، في توترات واضطرابات دولية وإقليمية، على قاعدة أنها تكون نافعة في نشاطها الديبلوماسي أو تمنع نفسها من السباحة في مياه عكّرها آخرون…

قرار مجلس الأمن، انتصر لصمود وطني مغربي في الدفاع عن مكتسبات وحدوية لها أساسات في شرعية تاريخية متصلة بكيان، من قلة كيانات، له عراقة في التاريخ، وممكنات في الحاضر، تؤهله للامتداد في المستقبل، نافع للعالم، في تحقيق السلم ودعم الازدهار في حياة الشعوب…

وسواء، اليوم أو الأمس، كانت الوحدة الوطنية رافعة معنوية وفاعلة، في النهوض بتحديات الصمود أمام الاستهدافات التي عرضت وتعرض للمغرب…

المسيرة الشعبية، سنة 1975، فعَلت في توليد الاجماع الوطني، وإعادة التحام مكونات الشعب المغربي في إرادة واحدة… أنتجت ما سمي، آنذاك، بالمسلسل الديمقراطي، والذي أخرج المغرب، من تمزقات وصراعات ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي في النسيج الوطني، الناجمة عن الصراع الشرس حول السلطة… ومن جهة الملكية كما من جهة المعارضة الديمقراطية، انطلق الحفر في نسج العمل السياسي على منوال “الاختيار الديمقراطي”…

بعد نصف قرن، ها قد تكرس الحق الوطني الوحدوي المغربي، واكتسب لوحدته الترابية شرعية دولية ناصعة وقوية… ويحتاج “الاختيار الديمقراطي” المغربي، وهو الأساس في تفاعل مكونات الشعب المغربي وفي بلورة تحملها للتحدي الوطني، يحتاج إلى تنشيط وتحيين، وهو اليوم في لجة تناسل مُعارضات، من داخل أسئلة الهوية المغربية، وتحديات المآلات الاقتصادية والاجتماعية للمغرب… وينضاف إلى ذلك، محاولات التسلل داخل التدافعات السياسية والاجتماعية المغربية، لغارات من استهدافات خارجية للمغرب… تسارعت وتكثفت، في الأشهر الأخيرة، وهي تلاحظ التحولات النوعية للمغرب ومؤشرات انتصاره الوطني… وستستمر وتتصاعد، بعد قرار مجلس الأمن، في محاولة، يائسة وأكيد فاشلة، للقضم من مكتسباته والنيل من انتصاراته…

ليلة الجمعة إلى السبت، بعد قرار مجلس الأمن، خرج الشعب المغربي في كل مدن المغرب ليقول بأن الالتحام بين الملك والشعب، حقيقة فاعلة ودائمة… وتلك هي قوة المغرب ومناعته، وهي الأصل في صبره المجدي، وهو يتعاطى على مدى نصف قرن مع أطماع المنازعة في صحرائه… وبذلك الصبر، وبتلك الوحدة، سيدير هذه المرحلة من مسار تكريس الحكم الذاتي، ضمن السيادة المغربية، في الأقاليم الصحراوية… التكريس له مسار طويل مع أطراف النزاع من المفاوضات والأخذ والرد… وله أيضا تداعيات على الداخل المغربي، تستوجبها صدقية الالتزامات السياسية المغربية، وتمليها إرادته الحقيقية في فتح المنطقة المغاربية على تفاعلات أخوية منتجة.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.