تشكل مبادرة الحكم الذاتي، التي قدمها المغرب سنة 2007، اليوم حجر الزاوية في المقاربة المغربية لملف الصحراء، ورافعة أساسية للدبلوماسية الوطنية. هذه المبادرة ليست مجرد مقترح تكتيكي، بل التجسيد العملي لرؤية ملكية إستراتيجية بعيدة المدى، أرسى دعائمها الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، محولاً مقاربة هذا الملف من منطق النزاع الجامد إلى دينامية الحل السياسي الواقعي والمستدام.

منذ سنة 1999 شهد ملف الصحراء المغربية تحولاً إستراتيجياً عميقاً، انطلق من التوجيهات السامية للملك محمد السادس. لقد حدد الملك بوضوح معالم مقاربة جديدة تتجاوز “منطق النزاع العقيم” إلى “منطق الحل السياسي الواقعي”.

تقوم هذه الرؤية على أساس متين يجعل من الشرعية الوطنية منطلقاً، ومن الشرعية الدولية أفقاً للتكامل. فبدلاً من الاستغراق في سجالات الماضي وجه الملك الجهود نحو المستقبل، مؤكداً أن قضية الصحراء المغربية هي، في جوهرها، قضية بناء دولة حديثة أكثر منها مجرد نزاع ترابي.

ومن هذا المنطلق أضحت مبادرة الحكم الذاتي التعبير الأوفى عن هذه الرؤية، بما تحمله من عمق سياسي واستشراف إستراتيجي؛ إنها الركيزة المحورية التي بنت عليها الدبلوماسية المغربية إستراتيجيتها للدفاع عن وحدة التراب الوطني داخل المنتظم الدولي، مقدمةً للعالم حلاً يجمع بين الطموح والواقعية.

المبادرة كإطار سياسي واقعي

يكمن جوهر النجاح الدبلوماسي لهذه المبادرة في المبدأ الذي أرسته الرؤية الملكية: “الثبات في المبدأ، والمرونة في الوسيلة”؛ فبقدر ما يتمسك المغرب بسيادته الراسخة على أقاليمه الجنوبية بقدر ما يبدي مرونة كبيرة في إيجاد صيغة سياسية تضمن لسكان المنطقة إدارة شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة المغربية.

هذا الجمع الذكي بين المبدأ والبراغماتية هو ما أكسب المقاربة المغربية مصداقية دولية متزايدة. وقد أكد الملك هذا التوجه الثابت في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2019، مشدداً على أن المغرب “سيواصل العمل، بصدق وحسن نية، طبقا للمقاربة السياسية المعتمدة حصريا من طرف منظمة الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، من أجل التوصل إلى حل سياسي واقعي، عملي وتوافقي”.

لقد أثمرت هذه الإستراتيجية دعماً دولياً متنامياً، إذ باتت عشرات الدول من مختلف القارات تعتبر مبادرة الحكم الذاتي الأساس الأكثر جدية وواقعية لحل هذا النزاع الإقليمي.

وتعكس التصريحات الملكية هذا الاعتزاز بالمسار الذي تم قطعه، ففي خطاب عيد العرش لسنة 2025 قال الملك: “إننا نعتز بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، كحل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية… وبقدر اعتزازنا بهذه المواقف بقدر ما نؤكد حرصنا على إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف”.

وهكذا لم تعد مبادرة الحكم الذاتي مجرد مقترح مغربي، بل أضحت إطاراً سياسياً واقعياً ومقبولاً دولياً، يجسد قدرة الدبلوماسية المغربية، المستندة إلى الرؤية الملكية السامية، على تقديم حلول مستدامة تضمن الأمن والاستقرار والتنمية للمنطقة بأسرها.

ولم تكن مبادرة الحكم الذاتي مجرد رد فعل بل كانت فعلاً إستراتيجياً استباقياً؛ فمع إعلان المغرب عن مبادرته التاريخية سنة 2007 شهدت المقاربة المغربية انتقالاً نوعياً، من منطق “الدفاع عن الموقف المشروع” إلى منطق “صناعة الحلول وقيادة المسار الأممي”.

فلأول مرة في تاريخ هذا النزاع الإقليمي وضع المغرب تصوراً عملياً متكاملاً، نجح في التوفيق ببراعة بين مبدأ تقرير المصير ومبدأ الوحدة الترابية. وقد تم ذلك من خلال تقديم آلية سياسية مرنة لا تستجيب فقط لمعايير الأمم المتحدة، بل تنسجم تماماً مع مقاصد ميثاقها.

هذا التحول الجذري أعاد صياغة النقاش الدولي برمته، فبدلاً من الثنائية العقيمة “الانفصال أو الاندماج” قاد المغرب النقاش نحو منطق جديد هو “التدبير الذاتي ضمن السيادة الوطنية”. وشكل هذا التحول ثورة مفهومية حقيقية في طريقة معالجة الملف، ونقل النقاش من خانة الصراع إلى خانة التسوية.

سيادة بالتنمية لا بالسيطرة

إن مبادرة الحكم الذاتي ليست مجرد مقترح إداري أو مناورة دبلوماسية عابرة، بل هي في العمق ترجمة لرؤية ملكية متجذرة في فلسفة الدولة المغربية الحديثة، كما أرساها الملك، إذ حرص على أن تكون السيادة المغربية في الصحراء سيادة متجددة وحية، سيادة تتجسد في القدرة الفائقة على إدماج التعدد والتنوع في إطار وحدة وطنية صلبة.

ومن خلال هذه الرؤية العميقة أعاد المغرب تعريف مفهوم السيادة ذاته، فلم تعد تعني “السيطرة الجغرافية” فحسب، بل أصبحت تعني بالأساس “القدرة على بناء مشروع وطني جامع” يدمج جميع مكوناته ضمن فضاء واحد من التنمية الاقتصادية والبشرية والمواطنة الكاملة؛ إنها، كما تجسدها الرؤية الملكية، سيادة تُمارس “بالحكمة لا بالقوة، وبالانفتاح لا بالانغلاق”.

ولم يكتفِ المغرب بتقديم المبادرة كخيار سياسي وانتظار التسوية، بل عمل، بتوجيهات ملكية سامية، على تجسيد مضمونها على أرض الواقع.

فمنذ إطلاق النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية سنة 2015 تحولت الصحراء المغربية إلى ورش مفتوح وقطب اقتصادي واعد يربط المغرب بعمقه الإفريقي والأطلسي. وقد أثمرت الاستثمارات الضخمة في البنيات التحتية، الموانئ (كالداخلة الأطلسي)، الطاقات المتجددة، والبحث العلمي، في خلق نموذج تنموي فريد.

وباتت مدينتا العيون والداخلة، على سبيل المثال، نموذجين مصغرين لما يمكن أن يكون عليه الحكم الذاتي في صورته التطبيقية؛ فمن خلال آليات الجهوية المتقدمة تجسدت مبادئ المشاركة المحلية للسكان، والحكامة الرشيدة، وربط القرار بالتنمية الملموسة.

وبذلك أصبح المغرب يمارس مضمون الحكم الذاتي قبل أن يتم إقراره سياسياً، وهو ما منح المقاربة المغربية مصداقية ميدانية مضاعفة، وأثبت للعالم أن خيار الحكم الذاتي ليس مجرد وعد، بل هو واقع حي يتطور يوماً بعد يوم.

ولا تنحصر عبقرية مبادرة الحكم الذاتي في جانبها السياسي فحسب، بل تكمن في ربطها العضوي بمسار تنموي شامل لا رجعة فيه تشهده الأقاليم الجنوبية؛ فالتنمية هي الضمانة العملية والترجمة الميدانية للحل السياسي.

وقد أكد الملك محمد السادس على هذا الترابط الوثيق في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2021 بقوله: “التطورات الإيجابية التي تعرفها قضية الصحراء تعزز أيضا مسار التنمية المتواصلة التي تشهدها أقاليمنا الجنوبية… أصبحت فضاء مفتوحا للتنمية والاستثمار، الوطني والأجنبي”.

هذا التوجه ليس تكتيكياً، بل هو ركيزة في الإستراتيجية الملكية، وهو ما شدد عليه الملك في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2022: “ومن هنا فإن توجهنا في الدفاع عن مغربية الصحراء يرتكز على منظور متكامل، يجمع بين العمل السياسي والدبلوماسي، والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية للمنطقة”.

إن هذا الربط الذكي بين الحكم الذاتي كحل سياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية كواقع ملموس قد عزز مصداقية المغرب بشكل منقطع النظير على الساحة الدولية. لقد حولت الرؤية الملكية القضية الوطنية إلى محرك للتنمية والاستثمار الإقليمي والقاري، ما دعم موقف المملكة دبلوماسياً وإستراتيجياً.

المبادرة… “نظارة المغرب”

جسدت مبادرة الحكم الذاتي قدرة المغرب الفائقة على توظيف شرعيته التاريخية في صياغة حلول عملية للمستقبل، وأصبحت المقياس الذي يحدد طبيعة علاقات المغرب الدولية.

ففي خطاب عيد العرش لسنة 2022 وضع الملك قاعدة واضحة لهذا التوجه: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم… يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.

هذا الموقف السيادي يضع العالم أمام مسؤولياته، ويميز بين من يختار “العالم الحقيقي” ومن يتشبث بـ”عالم متجمد”؛ وهو ما أكده الملك في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2024، حين دعا إلى تحمل المسؤولية للتمييز “بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته”.

تثبيت المبادرة كمرجعية شرعية وحيدة

كانت النتيجة المباشرة لهذه الرؤية المتكاملة هي حصول المبادرة المغربية على اعتراف دولي واسع النطاق، وضعها في قلب المسار الأممي؛ فمنذ تقديمها في أبريل 2007 تبنى مجلس الأمن الدولي موقفا ثابتا وواضحا.

ففي جميع قراراته، بدءاً من القرار 1754 ووصولاً إلى القرار 2756 (لسنة 2024)، دأب مجلس الأمن على وصف المبادرة المغربية بأنها “الجادة والواقعية وذات المصداقية”.

هذا الثبات الأممي لم يكن وليد صدفة، بل هو نتيجة لاقتناع المجتمع الدولي المتزايد بجدية المقاربة المغربية، وبأنها المقترح الوحيد القادر على توفير حل دائم، عادل، ومتوازن لهذا النزاع الإقليمي.

ولم يتوقف الأمر عند الأمم المتحدة، بل عبرت قوى دولية كبرى ومؤثرة، من بينها الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وألمانيا، والإمارات العربية المتحدة، عن دعمها الصريح والواضح للمبادرة، باعتبارها الأساس الأكثر واقعية وجدية للتوصل إلى حل نهائي.

بهذا، لم تعد مبادرة الحكم الذاتي مجرد مقترح وطني مغربي، بل تحولت بفعل الدبلوماسية الملكية النشطة إلى مرجعية دولية مؤسِّسة ومُلزمة لأي مسار تفاوضي جاد حول مستقبل الصحراء المغربية.

وقد شكل هذا الدعم قوة دفع إستراتيجية للمملكة، عززت موقعها كقوة سلام واستقرار إقليمية. وقد عبر الملك محمد السادس عن الاعتزاز بهذا المسار في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2021، موردا: “إن مغربية الصحراء حقيقة ثابتة، لا نقاش فيها… واعتراف دولي واسع”.

وكان الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية الكاملة على الصحراء محطة مفصلية في هذا المسار، وهو ما أشار إليه الملك في الخطاب ذاته: “ونعتز بالقرار السيادي للولايات المتحدة الأمريكية التي اعترفت بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه… وهو نتيجة طبيعية للدعم المتواصل للإدارات الأمريكية السابقة، ودورها البناء من أجل تسوية هذه القضية”.

هذا الزخم الدولي وضع مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد، واقعي، وجاد وقابل للتطبيق، وعزز بشكل لا رجعة فيه قدرة المملكة على التأثير في مسار الملف داخل محافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

المبادرة كأداة دبلوماسية متكاملة

بفضل الرؤية الملكية لم تبقَ مبادرة الحكم الذاتي في دائرة التنظير السياسي، بل تحولت إلى أداة دبلوماسية عملية وفاعلة تؤطر كافة تحركات المغرب في المحافل الدولية؛ فهي تمثل اليوم المرجعية الموجهة لكل المرافعات المغربية، سواء داخل أروقة الأمم المتحدة، أو في قلب الاتحاد الإفريقي، وكافة المنتديات الإقليمية.

لقد مكنت هذه المبادرة الدبلوماسية المغربية من تحقيق انتقال إستراتيجي، من موقع المرافعة والدفاع إلى موقع الفعل والتأثير، مستندة في ذلك إلى شرعيتها المستمدة من القانون الدولي، وإلى قوتها الواقعية المستمدة من الدعم الدولي والتنمية الميدانية.

ونجحت هذه الإستراتيجية في تفكيك الخطاب الانفصالي وإبراز تناقضاته، إذ باتت الأطروحة الانفصالية تفتقر إلى أي بديل مقنع أو إطار قابل للتطبيق، في حين يقدم المغرب رؤية متكاملة تجمع بين الحكم الذاتي كحل سياسي والجهوية المتقدمة كآلية تنموية.

من مشروع وطني إلى منارة دولية للسيادة الحديثة

بعد ما يناهز العقدين على طرحها يمكن القول اليوم إن مبادرة الحكم الذاتي أصبحت جوهر الرؤية الملكية السامية، ورمزاً للمصداقية المغربية في تدبير القضايا السيادية الكبرى.

لقد برهنت التجربة أن هذه المبادرة ليست فقط وسيلة فعالة لحل نزاع إقليمي، بل هي مشروع دولة متكامل يسعى إلى تكريس نموذج جديد للسيادة القائمة على المشاركة والاندماج والتنمية.

وبفضل القيادة الحكيمة للملك محمد السادس تحولت الصحراء المغربية إلى مختبر حي للنجاعة السياسية والتنموية، وإلى فضاء يجسد الرؤية المغربية المبنية على الاستقرار والوحدة والتكامل الإفريقي والأطلسي.

إن مبادرة الحكم الذاتي، في جوهرها، ليست مجرد مقاربة سياسية، بل هي منظور شامل لبناء السيادة الحديثة؛ منظور يجسد بعمق فلسفة الدولة المغربية العريقة في الجمع المبدع بين الهوية والوحدة، والتنوع والتنمية، والسيادة والانفتاح.

وبفضل الرؤية الملكية السامية تحولت هذه المبادرة من وثيقة تفاوضية إلى مرجعية دبلوماسية دولية، ومن خيار سياسي إلى حقيقة ميدانية راسخة تؤطر حاضر ومستقبل الصحراء المغربية ضمن مشروع وطني متجدد ومزدهر.

المصدر: هسبريس

شاركها.