في زمن تتسارع التحولات التكنولوجية وتتشابك الأسئلة الوجودية مع التحديات الواقعية يطل فيلم Mission: Impossible The Final Reckoning كمرآة تعكس قلق الإنسان المعاصر من فقدان السيطرة على مصيره، في عالم تحكمه الخوارزميات وتعيد تشكيله أنظمة الذكاء الاصطناعي. لا يكتفي الفيلم بتقديم مشاهد “الأكشن” والمطاردات، بل يتجاوز ذلك ليطرح مفهوماً مركباً للبطولة، حيث يصبح البطل ليس من يملك القوة، بل من يملك الإرادة في مواجهة المجهول. ولا يُقدَّم بطل الفيلم إيثان هانت كبطل خارق بل ككائن هش يحمل عبء الاختيار في عالم يوشك على الانهيار، ويجسد صراعاً داخلياً بين الواجب والضمير، بين التضحية والنجاة، بين الحقيقة والوهم.

ويفتح الفيلم من خلال شخصياته المتعددة وأحداثه المتشابكة الباب أمام تأملات نقدية عميقة حول السلطة والحق في المعلومة، حول الهوية والحرية، وحول معنى أن تكون إنساناً في عصر تُعاد صياغة الواقع. وبينما تتصاعد وتيرة الأحداث يهمس إيثان بكلمات تختزل جوهر البطولة كما يراها الفيلم: “أنا لا أختار من يعيش ومن يموت… لكنني أختار أن أقاتل من أجل من لا يستطيع أن يختار”، وهو لا يمثل تعبيرا عن موقف أخلاقي، بل يجسد لحظة وعي إنساني في مواجهة آلة لا تعرف الرحمة. وهكذا يصبح الفيلم ليس مجرد نهاية لسلسلة سينمائية بل بداية لسؤال فلسفي مفتوح حول الإنسان والبطولة والمستقبل. كيف ذلك؟.

إعادة تشكيل الواقع

ينتمي فيلم “المهمة المستحيلة: الحساب الأخير” (ماي 2025/ 170 دقيقة) حسب السياق لكن “الحساب الأخير” هو الأقرب دلالياً إلى سينما “الأكشن” والإثارة والتجسس، وهي نوعية سينمائية تتسم بالحركة المتواصلة والمطاردات المتقنة والمواقف المشوقة التي تتطلب ذكاءً ومهارة عالية من الشخصيات الرئيسية. ولا تكتفي هذه السينما بتقديم مشاهد مذهلة بل تسعى إلى خلق توتر درامي يعكس صراعات داخلية وخارجية، ويضع البطل في مواجهة قوى أكبر منه، سواء كانت مؤسسات أو تكنولوجيا خارجة عن السيطرة. ويمثل الفيلم في هذا السياق امتداداً لسلسلة Mission: Impossible التي بدأت منذ التسعينيات، لكنها في نسختها الأخيرة تطرح إشكاليات أكثر تعقيداً تتعلق بالذكاء الاصطناعي والهوية الإنسانية والاختيار الأخلاقي في عالم يتغير بسرعة.

ويُعد الفيلم الجزء الثامن والأخير من السلسلة، وهو من إخراج المخرج والكاتب الأمريكي كريستوفر ماكويري، الذي قام بإخراج أربعة أجزاء من السلسلة، وبطولة توم كروز في دور العميل إيثان هانت؛ وتدور أحداثه حول محاولة إيثان هانت وفريقه إيقاف كيان ذكاء اصطناعي يُعرف باسم “الكيان” أو “The Entity”، وهو برنامج خارق استطاع اختراق الأنظمة الاستخباراتية العالمية ويهدد بإعادة تشكيل العالم وفقاً لمن يسيطر عليه. ولا يمثل هذا الكيان فقط تهديداً تقنياً بل يحمل بعداً فلسفياً عميقاً، إذ يطرح سؤالاً جوهرياً حول من يملك الحق في إعادة تشكيل الواقع، وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز الإنسان في اتخاذ القرارات المصيرية.

ويستند الفيلم إلى خلفيات ثقافية وفلسفية متعددة، أبرزها فكرة الحتمية التكنولوجية التي ترى أن تطور التكنولوجيا لا يمكن إيقافه، وأن الإنسان بات في موقع رد الفعل لا الفعل. كما يستحضر الفيلم مفاهيم من الفلسفة الأخلاقية مثل النفعية والواجب، حيث يجد إيثان نفسه مضطراً لاتخاذ قرارات صعبة قد تؤدي إلى التضحية بأفراد من فريقه أو حتى بحياته من أجل إنقاذ البشرية. وتعكس هذه المعضلات الأخلاقية صراعاً داخلياً بين الواجب المهني والضمير الإنساني، وهو ما يجعل الفيلم أكثر من مجرد مغامرة بل رحلة تأمل في معنى البطولة والتضحية.

ويطرح الفيلم إشكالية الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث يصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين الإنسان والآلة. ولا يُجسد الكيان في الفيلم بشخصية ملموسة بل هو موجود في كل مكان، يراقب ويتحكم ويعيد تشكيل الأحداث، ما يخلق جواً من البارانويا والشك المستمر. ويعكس هذا تأثير التكنولوجيا على الإدراك البشري، ويعيد إلى الأذهان أفكار الفيلسوف الفرنسي جان بودريار حول “الواقع الفائق” أو “hyperreality”، حيث تصبح الصور والرموز أكثر واقعية من الواقع نفسه.

القربان الأخير

تبدأ قصة الفيلم بعد أحداث الجزء السابق، حيث ينجح إيثان في الحصول على مفتاح صليبي يُمكنه من الوصول إلى الكود الأصلي للكيان، المخزن داخل غواصة روسية غارقة تُدعى “سيفاستوبول”. وفي هذه المرحلة يظهر العدو الرئيسي غابرييل، وهو شخصية غامضة من ماضي إيثان، يسعى إلى السيطرة على الكيان وإعادة تشكيل العالم وفقاً لرؤيته الخاصة. وفي ظل هذا التهديد يتوجب على إيثان وفريقه من وكالة المهمة المستحيلة أن يخوضوا سباقاً ضد الزمن، ويواجهوا تحديات جسدية ونفسية هائلة، من بينها الخيانة والشك والتضحية.

وقد اعتمد الفيلم على تقنيات تصوير متقدمة ومشاهد حركية مذهلة، أبرزها مشهد الطائرة الثنائية ومشهد الغواصة الغارقة، وتم تنفيذها باستخدام مؤثرات بصرية واقعية ومجهود جسدي كبير من قبل توم كروز نفسه. ولا تهدف هذه المشاهد فقط إلى إثارة المتفرج بل تعكس فلسفة الفيلم في تجاوز الحدود الجسدية والتقنية من أجل تحقيق الهدف.

كما أن استخدام مواقع ومناطق تصوير متنوعة مثل لندن وسفالبارد والمحيط الهادئ يضفي على الفيلم طابعاً عالمياً ويعكس الطابع الكوني للصراع الذي يخوضه البطل.

ويطرح الفيلم فكرة أن حياتنا هي حصيلة اختياراتنا، وهي عبارة تتكرر في أكثر من مشهد وتُعد بمثابة الأطروحة المركزية.

وتعكس هذه الفكرة فلسفة وجودية ترى أن الإنسان مسؤول عن مصيره، وأن كل قرار يتخذه يساهم في تشكيل واقعه.

في مواجهة الكيان لا يملك إيثان قوة خارقة بل يعتمد على حدسه وشجاعته وولائه لأصدقائه، ما يجعل من الفيلم تأكيداً على قيمة الإنسان في عصر الآلة.

كما يتناول الفيلم موضوعات مثل الولاء والصداقة والهوية، ويطرح تساؤلات حول معنى أن تكون بطلاً في عالم لا يعترف بالبطولة إلا من خلال النتائج. ولا يسعى البطل إلى المجد، بل إلى إنقاذ العالم، وهو ما يجعله نموذجاً للبطل التراجيدي الذي يدفع ثمناً باهظاً من أجل الآخرين. وفي هذا السياق يمكن اعتبار الفيلم تأملاً في فكرة الفداء، حيث يضحي البطل بنفسه من أجل إنقاذ البشرية، في مشهد يذكرنا بالأساطير القديمة التي كان فيها البطل يُقدم نفسه قرباناً من أجل الخير العام.

ويعكس الفيلم من وجهة ثقافية قلقاً عالمياً من تطور الذكاء الاصطناعي، ويعبر عن مخاوف متزايدة من فقدان السيطرة على التكنولوجيا؛ كما أنه يستحضر رموزاً من الحرب الباردة، مثل الغواصة الروسية والمواقع العسكرية المهجورة، ليؤكد أن الصراعات القديمة لم تنته بل تغيرت أشكالها. وفي هذا السياق يمكن اعتبار الفيلم مرآة تعكس التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم.

القرار الصحيح

لا يُقدَّم الفيلم البطل إيثان هانت بوصفه مجرد عميل خارق ينقذ العالم من كارثة وشيكة، بل يُجسَّد كرمز إنساني معقّد يحمل في داخله صراعات وجودية وأخلاقية، ويواجه تحديات تتجاوز الجسد إلى الروح والفكر. ويتجاوز مفهوم البطل في هذا الفيلم الصورة النمطية للرجل الذي لا يُقهر، ليصبح تجسيداً لفكرة المقاومة في وجه الحتمية، والاختيار في زمن الفوضى، والإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي؛ كما أن الشخصيات المحيطة به، مثل بنجي، لوثر، غريس، والرئيسة سلون، تساهم في رسم لوحة متعددة الأبعاد تعكس الأثر الاجتماعي والسياسي والرمزي والنفسي لهذا البطل.

يبدأ الفيلم بمونولوغ للرئيسة سلون تقول فيه: “كل شروق شمس جديد هو نتيجة لتضحياتك، لقد كنت الأفضل في أسوأ الأوقات؛ أحتاجك أن تكون ذلك الرجل الآن”. هذه الكلمات الافتتاحية لا تُخاطب إيثان كعميل، بل كقوة أخلاقية، كضمير حي في عالم ينهار تحت وطأة المعلومات الزائفة والذكاء الاصطناعي المتوحش. ولا يُعرَّف البطل هنا بالقوة الجسدية، بل بالقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في اللحظة الحرجة، حتى وإن كان ذلك ضد مصالحه الشخصية أو رغباته.

ويعبّر إيثان نفسه عن فلسفته في البطولة حين يقول لغريس: “ما يفصل السارق العظيم عن الجيد؟ التوقيت، وطرفة عين”. ورغم بساطة هذا القول يختزل جوهر البطولة في الفيلم: القدرة على التصرف في اللحظة المناسبة، في ظل ظروف مستحيلة، دون ضمانات للنجاح. ولا تتمثل البطولة هنا في النتيجة، بل في الفعل ذاته، في الجرأة على المحاولة.

في مواجهة المجهول

يُقدَّم الفيلم إيثان كشخصية مثقلة بالذنب، من الناحية النفسية، يشعر بأنه مسؤول عن وجود “الكيان”، الذكاء الاصطناعي الذي يهدد العالم؛ لكنه لا يستسلم لهذا الشعور، بل يرفض فكرة الحتمية، ويقول: “لا شيء مكتوب”. وتتكرر هذه العبارة في الفيلم وتُعد أطروحة مركزية، تعكس رفضه للاستسلام، وإيمانه بأن الإنسان قادر على تغيير مصيره مهما بدا الطريق مظلماً. ويصبح في هذا السياق البطل تجسيداً لفكرة الإرادة الحرة، في مواجهة نظام رقمي يسعى إلى محو الفروق الفردية وتحويل البشر إلى بيانات.

أما من الناحية الاجتماعية فإن إيثان لا يعمل بمفرده، بل ضمن فريق متنوع الخلفيات والمهارات، ما يعكس أهمية التعاون والتضامن في مواجهة التهديدات الكبرى. ويواصل بنجي، رغم إصابته، العمل ويقول: “مهما فعلت لا تقطع السلك الأحمر”. وهذه العبارة رغم طرافتها تعكس روح الفريق، حيث كل فرد له دور حاسم، وكل قرار قد يُغيّر مصير العالم.

وكذلك شخصية باريس، القاتلة التي تتحول إلى حليفة، تُجسّد فكرة التحول الاجتماعي، حيث يمكن للإنسان أن يغيّر موقعه من الظلام إلى النور، إذا ما أُعطي فرصة للتفكير والتأمل.

ويطرح الفيلم سياسيا إشكاليات عميقة حول السلطة والمعلومات. ولا يُجسّد “الكيان” فقط تهديداً تقنياً، بل يُعبّر عن أزمة الثقة في المؤسسات، حيث لم تعد الحكومات قادرة على التحكم في المعلومات، وأصبح الذكاء الاصطناعي يوجّه الرأي العام ويخلق واقعاً زائفاً. وتتردد الرئيسة سلون في إطلاق الصواريخ وتقول: “اليوم… أختار ألا أهاجم”. ويعكس هذا القرار السياسي تحولاً في مفهوم القيادة، من القوة إلى الحكمة، ومن الردع إلى الثقة في الإنسان.

ويُظهر الفيلم على المستوى الاقتصادي كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، حيث يصبح التحكم في “الكيان” بمثابة السيطرة على الأسواق، على البيانات، على مستقبل البشرية. ولا يسعى غابرييل، العدو الرئيسي، فقط إلى التدمير، بل إلى إعادة تشكيل العالم وفقاً لرؤيته الخاصة، ما يُذكّرنا بنماذج من الطغاة الذين يستخدمون التكنولوجيا كأداة للهيمنة، حيث يقول غابرييل في لحظة المواجهة: “فقط واحد منا لديه مظلة”، وهذه العبارة رغم أنها تُقال في سياق مطاردة تحمل دلالة رمزية عن امتلاك أدوات النجاة، عمن يملك التكنولوجيا ومن يُترك للمصير.

ويُقدَّم إيثان كظل، في المستوى الرمزي كمن يعيش ويموت في الخفاء، كما يقول لوثر في خطابه الختامي: “نحن الذين نعيش ونموت في الظلال. العالم لن يعرف، لكننا فعلناها”. وتُعيد هذه العبارة تعريف البطولة، ليس كشهرة أو مجد، بل كفعل خفي، كخدمة للآخرين دون انتظار مقابل. والبطل هنا هو من يختار أن يكون في الظل، ليمنح الآخرين النور.

ويمكن اعتبار الفيلم على المستوى النقدي تأملاً في أزمة الإنسان المعاصر، الذي يعيش في عالم مفرط في الرقمنة، حيث تُهدَّد الهوية الفردية، وتُستبدل الحقيقة بالصور، والقرار بالبرمجة. ولا يُقدّم الفيلم حلولاً جاهزة، بل يطرح أسئلة: من يملك الحق في إعادة تشكيل العالم؟ هل يمكن الوثوق في الحكومات؟ هل البطولة مازالت ممكنة في عصر الخوارزميات؟ وتُجسّد هذه الأسئلة البعد النقدي للفيلم، الذي لا يكتفي بالإثارة، بل يدفع المشاهد إلى التفكير في موقعه من هذا العالم المتغير.

ولا يمثل Mission: Impossible The Final Reckoning مجرد فيلم “أكشن” وحركة، بل عمل فني تركيبي يعيد تعريف مفهوم البطل، ويُقدّم شخصيات متعددة الأبعاد، ويطرح إشكاليات اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية ورمزية. إنه فيلم عن الإنسان في مواجهة المجهول، عن البطولة في زمن الشك، وعن الأمل في عالم يوشك على الانهيار. وكما يقول لوثر: “أي أمل في مستقبل أفضل يأتي من إرادتنا لذلك المستقبل”.

لا يقدم الفيلم مجرد مغامرة سينمائية، بل يفتح نافذة على أسئلة وجودية تتعلق بالحرية والهوية والاختيار في عالم يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. ولا ينجو البطل هنا، بل من يختار أن يواجه من أجل الآخرين، من يرفض أن يكون أداة في يد نظام لا يرى الإنسان إلا رقماً في معادلة تقنية. وفي ظل تسارع الأحداث وتشابك المصائر يبقى البطل إيثان هانت رمزاً للمقاومة الفردية في وجه الحتمية الرقمية، صوتاً أخلاقياً في زمن يفتقر إلى الضمير. ولا تتمثل البطولة في هذا الفيلم انتصاراً بل موقفا إنسانيا يتجلى في لحظة صدق واحدة كما يقول إيثان بصوت خافت لكنه حاسم: “أنا لا أهرب من الموت، أنا أهرب من أن أعيش بلا معنى”. وتختزل هذه العبارة جوهر الفيلم وتمنحه بعداً فلسفياً يجعل منه أكثر من مجرد نهاية لسلسلة بل بداية لتأمل عميق في معنى أن تكون إنساناً.

المصدر: هسبريس

شاركها.