تهدف هذه الدراسة إلى تحليل نشأة ومسار الحركات الإسلامية المعاصرة من منظور “النموذج التفسيري للأزمة” الذي يفترض أن هذه الحركات تأسست كاستجابة بنيوية وتاريخية لانهيار المرجعية السياسية الإسلامية الجامعة (الخلافة العثمانية 1924) وتحديات الحداثة الغربية. تركز الدراسة على أربع حالات نموذجية: الإخوان المسلمون، وحزب التحرير، والسلفية الجهادية، والطرق الصوفية، لتبيان كيف أن السياق الوجودي المأزوم قد حدد البنية الفكرية والتنظيمية لكل تيار، مما أدى إلى غلبة منطق “رد الفعل” و”التعبئة” على “منهج البناء” و”المشروع الحضاري المتكامل”. وتخلص الدراسة إلى أن التحدي الأكبر يكمن في الانتقال من الوعي الاحتجاجي إلى الوعي البنائي، ومن معالجة الأعراض إلى تفكيك الأزمة البنيوية التأسيسية في مستوياتها المعرفية والسياسية.
الكلمات المفتاحية: الحركات الإسلامية، الأزمة التأسيسية، الحداثة، الإخوان المسلمون، حزب التحرير، السلفية الجهادية، التصوف.
- المقدمة والإطار النظري
منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، دخل العالم الإسلامي مرحلة تحولات بنيوية عميقة، تمثلت في انهيار الإطار السياسي الموحد وتفتت المجال الإسلامي إلى دول قومية (StateNations) تخضع لمنطق السيادة الحديثة وموازين القوى الدولية. هذا السقوط أحدث فراغًا شرعيًا ومؤسسيًا، وغيابًا للسلطة التي كانت تجمع بين البعد الديني والسياسي، مما دفع إلى ظهور عشرات الحركات الإسلامية التي سعت لملء هذا الفراغ أو استعادة النموذج المفقود في صيغ جديدة.
تتبنى هذه الدراسة النموذج التفسيري للأزمة (Crisis Paradigm) كإطار تحليلي، حيث تُفهم نشأة الحركات الإسلامية ليس كظاهرة دينية خالصة، بل كـاستجابة بنيوية لتحديات تاريخية محددة. إن تحليل نشوء هذه التيارات من زاوية “الأزمة” يفتح أفقًا أعمق لفهم بنيتها الفكرية، إذ يتبيّن أنّ أغلبها تأسس استجابةً لتحدٍّ محدد (الاحتلال، ضياع فلسطين، الاستبداد)، لا في إطار مشروع حضاري متكامل (حلاق، 2017، ص. 4). ونتيجة لذلك، اتسم خطابها بـرد الفعل وغلب عليها منطق التعبئة والمواجهة بدل منطق البناء والمؤسسات.
- الحركات الإسلامية والأزمة التاريخية: دراسة حالات نموذجية
يمكن القول إن كلّ حركة إسلامية كبرى وُلدت في رحم أزمة كبرى هزّت الوعي الجمعي للأمّة، حيث أصبحت الأزمة هي المولّد الحقيقي لفكرتها وهويتها ومسارها.
2.1. الإخوان المسلمون (1928م): الولادة من رحم الأزمة السياسية
نشأت حركة الإخوان المسلمين سنة 1928م على يد حسن البنا في مصر، في ظرف تاريخي أعقب صدمة سقوط الخلافة العثمانية (1924م) والاحتلال البريطاني. مثّل هذا الحدث فراغًا سياسيًا وروحيًا، وجاء مشروع البنا كمحاولة لإحياء الفكرة الإسلامية في المجال العام.
لكنّ النشأة المأزومة للحركة جعلت مشروعها محكومًا بهاجس “الاستعادة” أكثر من “الإبداع”. فبدل أن تبدأ من بناء الوعي والتجديد الفكري لمقتضيات العصر، انطلقت من فكرة “استرجاع الخلافة” باعتبارها رمز السيادة الإسلامية المفقودة. وقد غلب على مشروعها الطابع الحركي والتنظيمي، فكان همّها الأول تعبئة الجماهير وبناء الجهاز الدعوي والسياسي، أكثر من الانشغال بالتنظير الفكري الذي يؤسس للنهضة على أسس معرفية راسخة (الحبيب، 2020، ص. 12).
2.2.حزب التحرير الإسلامي (1953م): فكرة الخلافة في زمن الدولة القُطرية
ولد حزب التحرير الإسلامي سنة 1953م على يد تقي الدين النبهاني في القدس، في مرحلة ضياع فلسطين (1948م) وقيام الدولة القُطرية الحديثة. هذا السياق المشحون بالهزيمة والتجزئة جعل الحزب يتبنّى مشروعًا فكريًا يقوم على استعادة “الخلافة الراشدة” باعتبارها الحل الجذري لكل أزمات الأمة.
هذا التركيز المفرط على النظام السياسي جعل الحزب يتعامل مع الإسلام من زاوية “الدولة أولًا”، فحول الدعوة إلى مشروع لإعادة “الشرعية السياسية الضائعة” أكثر من كونها عملية اجتماعية أو تربوية. وقد أدى هذا الجمود الأيديولوجي إلى إضعاف حضوره الجماهيري، حيث ظلّ أسيرًا لفكرة “الخلافة” بوصفها رمزًا للشرعية التاريخية، دون أن يتمكن من تأويلها تأويلاً عمليًا يناسب تعقيدات الدولة الوطنية الحديثة.
2.3. السلفية الجهادية: من جهاد التحرير إلى أيديولوجيا الصراع
تعد السلفية الجهادية من أكثر التيارات الإسلامية تطورا وتحولا، إذ تبلورت في سياقٍ تاريخي مشحون بالصراعات الدولية، بدءا بالحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي. تحول مفهوم “الجهاد” من عبادة فردية إلى “أيديولوجيا تعبئة”تسوق عالميا لتحرير ديار المسلمين.
لكنّ هذا الجهاد، الذي كان في بدايته موجهًا ضد احتلالٍ واضح المعالم، سرعان ما تحوّل إلى “منظور دائم للعالم” (أبو هنية، 2018، ص. 12)، يرى أن الصراع مع “العدو” وجوديٌّ ومستمر. ومع تكرار الأزمات الكبرى (احتلال العراق، الثورات، التدخلات الغربية)، كانت السلفية الجهادية تجد في كل أزمة “بيئة خصبة لإعادة إنتاج ذاتها”. وبهذا المعنى، انتقلت من كونها حركة مقاومة ظرفية إلى منظومة فكرية مغلقة تُعيد تفسير الواقع دوما بمنطق “العدو والردّ”، وتظل حبيسة عقلية “التمكين بالقوة” دون بلورة مشروع حضاري مستقر.
2.4. الطرق الصوفية: الاستجابة للأزمة الروحية
تمثّل الطرق الصوفية استجابة روحية لأزمة مختلفة عن تلك التي أنشأت الحركات السياسية أو الجهادية. فبينما تنشأ الأخيرة في لحظات الانكسار السياسي، تزدهر الطرق الصوفية غالبًا في عصور الرخاء والترف، حين يغمر المجتمع إحساس بـ”الاغتراب الروحي” وفقدان المعنى.
تقدم الطرق الصوفية إجابة وجدانية وروحية، تركز على إصلاح النفس لا إصلاح النظام، وعلى السمو الداخلي لا التغيير الخارجي. إن ازدهار التصوف في فترات الرفاه هو تفاعل جدلي بين فائض المادة ونقصان المعنى، حيث يُستدعى التصوف ليعيد التوازن بين العالمين. ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من إشكاليات، إذ يمكن أن يتحول إلى انعزال سلبي عن قضايا المجتمع أو إلى طقوس شكلية (خضرة، 2019).
- الأزمة البنيوية التأسيسية: محددات المنهج والرؤية
رغم التنوّع في الاتجاهات، فإنّ القاسم المشترك بينها جميعًا هو غياب الرؤية الشمولية التي تعالج الأزمة في جذورها الفكرية. تتجلى الأزمة البنيوية التأسيسية في أربعة مستويات مترابطة:
1 أزمة الوعي والمنهج: تتعامل الحركات الإسلامية بوعي تجزيئيّ، يقدّم الحلول الجزئية دون إدراك الترابط العميق بين السياسة والدين والاقتصاد والثقافة.
2 أزمة العلاقة بين الدين والدولة: تراوحت التيارات بين نموذج “الدولة خادمة للدين” ونموذج “العلمانية الرافضة”، دون بلورة تصور متوازن لعلاقة الدين بالسياسة يتجاوز هذا التقابل العقيم (حلاق، 2017، ص. 4).
3 أزمة المفهوم السياسي للسلطة: ظلّت السلطة محاطة بهالة دينية، مما حال دون تطوير مفهوم حديث للحكم يقوم على المواطنة والمحاسبة والتداول.
4 أزمة التعامل مع الحداثة: انقسمت التيارات بين الرفض الكلي للحداثة أو التوفيق السطحي، دون امتلاك أدوات معرفية لتحليلها نقديًا، مما جعل الفكر الإسلامي مترددًا بين الانغلاق والذوبان .
- الخلاصة
يمكن القول إنّ التيارات الإسلامية المعاصرة، رغم اختلاف شعاراتها وأساليبها، تلتقي عند منبع واحد هو الاستجابة للأزمة لا تجاوزها. فهي جميعًا انعكاس لحالة القلق التي يعيشها الوعي الإسلامي منذ سقوط الخلافة، ولكنها لم تتحول بعد إلى مشاريع فكرية قادرة على تفكيك البنية المنتجة للأزمة ذاتها.
إن الانتقال من “منطق الأزمة” إلى “منهج البناء الحضاري” يتطلب تحولًا جذريًا من:
- رد الفعل إلى فعل الإصلاح البنيوي المنهجي.
- التعبئة إلى التنظير الفكري والتجديد المعرفي.
- الوعي الاحتجاجي إلى الوعي التاريخي البنائي الذي يستوعب تعقيدات الواقع الحديث ويوازن بين مقاصد الدين ومتطلبات الدولة المعاصرة.
- المراجع
- أبو هنية، حسن. (2018). الجهادية العربية: اندماج الأبعادالنكاية والتمكين بين” الدولة الإسلامية” و” قاعدة الجهاد”. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- الحبيب، سهيل. (2020). نظرية بشارة وآفاق مقاربة ديناميات التديّن الإسلامي المعاصر: مقدمات في ضوء أزمة النماذج السائدة. تبين، (34)، 1130.
- حلاق، وائل. (2017). الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي. (ترجمة: عمرو عثمان). المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- العطوان، عبد الباري. (2017). الدولة الإسلامية: الجذور، التوحش، المستقبل. دار الساقي.
- إبراهيم، فؤاد. (2017). السلفية الجهادية في السعودية. دار الساقي.
المصدر: العمق المغربي
