أصدرت كتابي التشجيع الرياضي، (خامس إصداراتي)، الذي تشرف بتقديمه الأسطورة الحارس الدولي السابق المتوج بالكرة الذهبية، والمدرب الحالي لمنتخب النيجر، ليكون مساهمة لي في مصاحبة المشجع الرياضي المغربي الشغوف والنبيل. والذي هو بحاجة ماسة إلى التوعية والتحسيس والتكوين. لأن الجمهور ليس فقط ، الحلقة الأساس في إنجاح أو إفشال الفرجة الكروية، وليش فقط أداة ضغط إيجابية أو سلبية على المنتخبات والأندية الوطنية. بل أصبح الآن أداة لتسويق كل ما يميز بلدته وبلده تاريخيا وسياحيا واقتصاديا، ومرآة تعكس سلوكيات ساكنة الحي والمدينة والجهة والوطن…
لا أحد ينكر أن جمهورنا المغربي جمهورا نبيلا، خلوقا، وعائليا بامتياز. غير أن النبل وحده لا يكفي، إن لم تُصاحبه بصمة (التشجيع الحقيقي) الذي تصنع الفارق في الملاعب. لقد كشفت مباراة المنتخب الوطني الأخيرة ضد النيجر، كما لاحظ المتابعون، عن قصور واضح في أداء الجمهور من حيث الضغط الإيجابي المتواصل والدعم المعنوي المستمر. الأمر نفسه ظهر بشكل أكثر حدة في نهائي كأس إفريقيا للسيدات، حين غادر معظم الجمهور المدرجات قبل لحظة التتويج الرسمي. علما أن سيدات المغرب توجن في رتبة الوصافة، كما توجت اللاعبة غزلان الشباك بلقب هداف البطولة الإفريقية. لكن أجواء التتويج مرت بمدرجات شبه فارغة. علما أن الملك محمد السادس هنأ وشجع اللبؤات بعد التتويج. هذا السلوك، وإن بدا تلقائياً، أساء لصورة المغرب والرياضة المغربية أمام الـ”كاف” و”فيفا” والعالم، لأنه أوحى بعدم تقدير المنجزات رغم أن منتخب السيدات قدم بطولة متميزة تستحق الإشادة لا الانسحاب.
أدوار الجمهور الغائبة
الجمهور ليس مجرد متفرج، بل هو شريك في صناعة النتيجة وعليه المساندة المطلقة في الربح كما في الخسارة. كما عليه فرض الضغط الإيجابي، وشحذ همم اللاعبين وإرباك الخصوم، و
ترسيخ الروح الوطنية بالانضباط، ورفع الشعارات الإيجابية، واحترام الخصم.
جمهور اليوم هو مطالب كذلك بصون صورة المغرب، لأن كل سلوك داخل المدرجات أو خارجها، يُقرأ عالمياً بقدر ما تُقرأ نتائج المنتخبات.
للأسف، ما زال ينقص جمهورنا هو التكوين في هذه الأدوار. التشجيع الرياضي ليس ارتجالاً، بل ثقافة يجب أن تُرسَّخ بالتربية والتحسيس، تماماً كما نكوّن اللاعبين والمدربين والحكام.
الحاجة إلى التكوين والتأطير
لقد صار ضرورياً إدراج حصص توعية خاصة بالتشجيع الرياضي، سواء عبر المدارس والأندية أو عبر وسائل الإعلام والجمعيات. نحتاج إلى تكوين مشجعين يُدركون أن انسحابهم أو ردود أفعالهم لا تنعكس فقط على فريقهم، بل على صورة بلد بأكمله.
الجمهور المغربي قادر على أن يكون قوة ضاغطة حضارية، إذا توفرت له المسالك التربوية الصحيحة. حينها فقط سنحظى بجمهور لا يكتفي بملء المدرجات والشوارع، بل يصنع الحدث خارج أسوار الملاعب، كما يصنعه بنفس القدر الذي يصنعه اللاعبون فوق المستطيل الأخضر.
رسالة كتابي (التشجيع الرياضي)، تتجدد مع كل محطة كروية. فجمهورنا يستحق أن يكون في الصفوف الأولى عالمياً، لكن ذلك لن يتحقق إلا بالتحسيس والتوعية والتكوين. فالتشجيع مسؤولية، والانتصار الحقيقي يبدأ من المدرجات. هي إذن دعوة إلى صناعة جمهور واعٍ ومسؤول..
كتابي هو تربوي، اجتماعي، رياضي. يجمع بين التحليل الثقافي والتوجيه السلوكي. يتناول موضوع التشجيع من منظور شامل ( أخلاقي، مجتمعي، وطني..). ينطلق من قناعة أن الجمهور مرآة الوطن، وصورته تنعكس على سمعته دولياً، وأن التشجيع إذا لم يكن مؤطراً بالوعي والثقافة قد يتحول إلى نقمة بدل أن يكون نعمة.
والهدف طبعا من التشجيع النبيل، هو غرس قيم الاحترام والانتماء.لأن التشجيع لا يكتمل إلا إذا كان مشبعاً بالمسؤولية والاعتزاز بالهوية الوطنية. والتوعية بالدور المجتمعي للمشجع، لأن الجمهور ليس مجرد متفرج، بل سفير ثقافي وإنساني يعرّف العالم بوجه بلده. كما يهدف إلى التصدي للشغب والعنف، من خلال الدعوة إلى نبذ كل السلوكيات التي تشوه صورة الرياضة، وتحويل طاقات الشباب إلى إبداع لا إلى فوضى. إضافة إلى إبراز البعد الوطني للتشجيع. فالمدرجات هي كذلك منابر لرفع صورة المغرب عالياً. كما يجب تشجيع الإدماج، بفتح الأبواب أمام الفئات الهشة وذوي الاحتياجات الخاصة ليكونوا جزءاً من المشهد التشجيعي، بما يعزز التضامن والمساواة.
لقد لمسنا في أكثر من مناسبة أن جمهورنا المغربي جمهور نبيل وخلوق، وعائلي بامتياز. لكنه في الوقت نفسه، يفتقد إلى “البصمة اللازمة” التي تجعله عاملاً حاسماً في المشاركة في صناعة الانتصارات.
على المشجعين، فهم أدوارهم الحقيقية، والتعلم من النماذج الراقية، واعتماد أساليب التعبير الحضاري عن الانتماء للأندية والجامعات الرياضية. و يمكن اعتماد كتابي كمرجع في تكوين روابط المشجعين، وتنظيم ورشات للتأطير.
كما على المؤسسات التربوية المدرسية والجامعية والإعلامية، تضمين بعض فصوله في المناهج، وتنظيم مسابقات شبابية حول مضامينه. ويمكن لصناع القرار والفاعلين الرياضيين، استلهام مقترحاته لوضع ميثاق وطني للتشجيع، ودعم مبادرات التشجيع النظيف.
ف(التشجيع الرياضي) ليس فقط كتاباً في الرياضة، بل مشروعا مجتمعيا لبناء الإنسان عبر الرياضة. هو دعوة لتحويل المدرجات من ساحات توتر إلى مدارس للمواطنة، ومنابر للفرح الجماعي المسؤول.
إنها مسؤولية مشتركة بين الجمهور، الأندية، الإعلام، والمؤسسات الرسمية. فإذا نجحنا في بناء جمهور واعٍ، نكون قد وضعنا اللبنة الأولى لمنتخبات وأندية أقوى، ولصورة وطنية أكثر إشراقاً أمام العالم.
الألتراس المغربية.. طاقات خلاقة وهوية حضارية خالصة
لا يمكن الحديث عن الجمهور المغربي دون التوقف عند ظاهرة الألتراس التي باتت عنواناً بارزاً للفرجة الكروية وطنياً وقارياً. فالألتراس المغربية أبدعت عبر السنين لوحات فنية عالمية، رفعت اسم المغرب عالياً في المحافل الرياضية، وأصبحت تشكل واجهة حضارية بقدر ما هي رياضية. من “تيفوهات” عملاقة تحمل رسائل وطنية وإنسانية، إلى أهازيج جماعية تبث الحماس في قلوب اللاعبين والجماهير على حد سواء، أثبتت أنها ليست مجرد روابط مشجعين، بل حركة شبابية خلاقة تمزج بين الفن والرياضة والانتماء. لقد صنعت هذه المجموعات مدرسة خاصة بها، صارت تُدرّس في الخارج كنموذج للابتكار والتعبير الجماعي. غير أن هذه الطاقة الهائلة تحتاج إلى الدعم والمساندة والتوجيه، لتتحول إلى رافعة للتربية على المواطنة، لا إلى مصدر سوء فهم أو توتر. إن تثمين عمل الإلتراس لا يعني التغاضي عن بعض التجاوزات الفردية، بل يعني الاعتراف بقدرتها على صناعة البهجة الجماعية، وتعزيز هويتها كقوة ناعمة للرياضة المغربية تستحق الدعم والمرافقة بدل التهميش أو التضييق.
مشكلتنا في الجماهير التي تنشط خارج الألتراس
مشكلتنا في تعدد وتنوع الجماهير المغربية والتي تنشط بعيدا عن الألتراس بشكل عفوي غير مؤطر، وتفوق جماهير الألتراس عددا.
كتاب “التشجيع الرياضي” جاء ليؤكد أن الجمهور ليس كتلة واحدة متجانسة، بل فسيفساء من أنماط وسلوكيات مختلفة، يجمعها حب الرياضة والوطن، وتفرقها درجات الوعي والانتماء والمسؤولية. كما تفرق بينها الممارسات داخل وخارج الملاعب الرياضية.
من خلال معاينة ميدانية لواقع مدرجاتنا، يمكن تصنيف الجمهور المغربي إلى:
1 ) الجمهور العائلي
هو جمهور نبيل منتوج مغربي خالص، يشكل استثناء في العالم. يحرص المغاربة على حضور المباريات برفقة أفراد أسرهم. يصنع أجواء ودية داخل الملاعب، ويعطي صورة حضارية عن المغرب. وجوده ضروري لترسيخ ثقافة الاحترام، غير أنه يحتاج بدوره إلى التكوين حتى يرسّخ قيم التشجيع الإيجابي، وألا ينساق وراء الانفعالات أو النتائج السلبية. جمهور يتأثر بالخسارة والأداء.سريع الغضب.
2 ) جمهور الألتراس
يمثل الطاقة الأكثر إبداعاً واندفاعاً في الملاعب المغربية. يقدم عروضاً صوتية وبصرية (تيفوهات) وأهازيج جماعية تصنع الفرجة وتبهر العالم. هو جمهور منظم، ينبض بالحماسة والابتكار، غير أنه يجد صعوبة في التعامل مع باقي أنواع الجماهير الأخرى. و قد يخرج أحياناً عن المسار، مما يسيء إلى صورته وصورة الرياضة الوطنية. الكتاب اعتبر الألتراس ثروة شبابية يجب احتضانها وتأطيرها بدل محاربتها..
3 ) الجمهور المناسباتي
هو جمهور يرتبط بالنتائج والبطولات، يحضر بكثافة في أوقات الانتصار أو المباريات الكبرى، لكنه يغيب أو ينسحب عند الهزائم أو التراجع. هذا النوع يكشف عن حاجة ماسة إلى التربية على الاستمرارية في المساندة، لأن قيمة التشجيع تكمن في الثبات لا في التقلب.
4 ) الجمهور السلبي أو المتشنج
يمثل الفئة التي تنجر وراء الشغب والعنف أو السب والقذف في المدرجات. هذا النوع يسيء للرياضة المغربية، ويعكس غياب الوعي بقيمة التشجيع النبيل. الكتاب خصص مساحة واسعة للحديث عن خطورة هذه السلوكات، وضرورة محاربتها عبر حملات توعية، قوانين صارمة، وتأطير جماعي.
5 ) الجمهور المفبرك
هو إما جمهور يتم تجميعه أو تحريكه بشكل مصطنع، أحياناً عبر توزيع تذاكر مجانية أو تنظيم حافلات لنقل أعداد كبيرة دون قناعة رياضية حقيقية. هذا النوع غالباً ما يفتقد للحماسة الطبيعية ولثقافة الانتماء، فيتحول حضوره إلى مجرد “ديكور عددي” داخل المدرجات. الكتاب يشير إلى خطورة هذا النموذج لأنه يُفرغ التشجيع من قيمته الأصيلة، ويجعله مجرد وسيلة للتوظيف الظرفي بدل أن يكون رسالة انتماء وولاء.
إما جمهور يتقاضى مقابلاً مادياً أو امتيازات معينة للحضور و رفع شعارات لها أهداف انتقامية أو تبخيسية أو حتى غير رياضية. هذا النوع يختزل التشجيع في منطق مصلحي صرف، ما يفقده الروح الصادقة والعفوية التي تميز الجمهور الحقيقي. الكتاب دعا إلى محاربة هذه الظاهرة لأنها تسيء لسمعة الرياضة الوطنية وتحوّل المدرجات إلى فضاءات مأجورة، في حين أن الأصل هو أن تكون فضاءات حرة للتعبير الوطني المسؤول.
6 ) جمهور القاصرين
يضم شريحة واسعة من الجمهور غير الراشد. قاصرون يدخلون الملاعب دون تأطير كافٍ، وغالباً ما ينجرون وراء الانفعال أو التقليد الأعمى، ما يجعلهم عرضة للاستغلال أو الانحراف نحو الشغب. وجودهم يعكس شغف الأجيال الناشئة بالرياضة، لكنه يكشف في المقابل الحاجة إلى برامج تربوية وتوعوية خاصة، تُشرك الأسر والمؤسسات التعليمية في تأطير هذه الفئة حتى تتحول إلى رافعة للتشجيع الراقي لا إلى مصدر للفوضى.
للأسف هناك فئة عريضة من هؤلاء لا تحمل من صفة جمهور إلا الإسم.
فئات كثيرة، تعد العدة للتنقل كمجموعات عبر الحافلات والقطارات والشاحنات والعربات الكبيرة… كما تضع برامج وخطط لولوج الملاعب الرياضية، ليست بهدف الاستماع بالمباريات. ولكن بهدف تنزيل أحداث وسيناريوهات كلها عنف وتخريب.
يخططون كيف يتنقلون بمفهوم (السليت)، ويخططون كيف يدبرون أمورا سيئة أثناء تنقلاتهم. و يخططون كيف يصدرون سلوكات وتصرفات لا أخلاقية داخل الملاعب. لا يتابعون المباريات،
لأنهم دائمي الانشغال بالتخريب والتنمر والعنف اتجاه كل من يحتك بهم… ليجتمعون في اليوم الموالي في زقاق حومة أو حي من أجل سردها على بعضهم البعض، بتعال وتفاخر.
نريد جمهورا خلوقا، يتجاوز انتماءه إلى فريق محدد ليضع الوطن فوق كل اعتبار. يساند المنتخبات الوطنية في مختلف الرياضات، رجالية ونسائية، ويعتبر نفسه سفيراً للمغرب في الداخل والخارج. جمهور يجمع بين الانتماء، الانضباط، والاستمرارية.
الجمهور المغربي ثروة بشرية هائلة، متعددة الأنماط والوجوه. غير أن النهوض به يتطلب تأطيراً وتوعية وتكويناً، حتى نضمن أن يتحول كل صنف من هذه الأصناف إلى قيمة مضافة لا عبئاً على الرياضة.
إن “التشجيع الرياضي” ليس فقط دعوة إلى تصحيح السلوكيات، بل مشروع وطني لبناء جمهور واعٍ ومسؤول، يساند فريقه في الربح والخسارة، ويصون صورة المغرب في كل المحافل .
المصدر: العمق المغربي